مستقبل العربية
أ.د. عبدالحميد النوري عبدالواحد




ليس من السهل الحديث عن المستقبل عمليًّا؛ لأنه قد يدخل في باب علم الغيب؛ ولكن يمكن الحديث عن المستقبل في ضوء بعض المعطيات الثابتة أو شبهِ الثابتة أحيانًا، وذلك من باب الاستشراف، ولا أحد يُنكر صِلة المستقبل المتينة بالماضي والحاضر؛ إذ لا حديث عن المستقبل في غياب الماضي والحاضر، ومستقبل اللغة العربية في هذا الصدد لا يختلف عن مستقبل اللُّغات عمومًا.

لقد سبق أن أثَرْنا في مقال آخر تطوُّر اللغة، والتغيُّرات الناشئة عن هذا التطوُّر، سواء كانت تغيُّرات طفيفة كالتي تمسُّ اللغة العربية، أو كبيرة مثل التي تمسُّ لغات كثيرة؛ كالفرنسية أو الإنجليزية، ما يجعل مستقبل اللغات مختلفًا حتمًا من لغة إلى أخرى، ومن طور إلى طور.

ومستقبل اللغة بهذا الاعتبار قد يكون نموًّا ورواجًا وازدهارًا، أو قد يكون ضمورًا واندحارًا وموتًا. والتاريخ يشهد نماذج من اللُّغات التي اندثرت وماتَتْ؛ كالآشورية والبابلية والسنسكريتية وغيرها، ونماذج أخرى تطوَّرَتْ وازدهرَتْ؛ وذلك مثل اللغة اليونانية القديمة خلال القرون الخمسة أو الأربعة الأولى قبل الميلاد، ومثل اللغة العربية في القرون الهجرية الأولى، واللغتين البرتغالية والإسبانية في القرنين الخامس والسادس عشر، والإنجليزية والفرنسية في القرن التاسع عشر، وإن اختلفت أسباب الرَّواج والانتشار؛ فاليونانية يرجع رواجُها إلى رواج الفكر والفلسفة والشعر، والعربية يعود رواجُها إلى انتشار الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية، في الوقت الذي راجت فيه البرتغالية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية لأسباب عسكرية استعمارية توسُّعيَّة.

ولا يعود انتشار لغة ما - في كل الحالات - إلى أسباب واحدة محددة؛ وإنما يعود إلى أسباب عديدة متنوِّعة، لعلَّ من أهمها أسبابًا ثقافية أو عسكرية أو اقتصادية أو ديمغرافية، والانتشار يعود إلى خروجِها من مناطق ضيِّقة إلى مناطق واسعة من العالم، ما يجعل تداولها وعدد مستعمليها كبيرًا.

واللُّغات الرائجة اليوم وفي عالمنا المعاصر وبلا جدال هي الإنجليزية؛ لاعتبارات اقتصادية وتكنولوجية وعلمية معلومة، وبعض اللغات الهندية الأوروبية؛ كالفرنسية والألمانية وغيرها، وللأسباب نفسها تقريبًا.

وأما شأن العربية في هذا المضمار، وبالرغم من كثرة الانتقادات الموجَّهة إليها من قِبَل أبنائها، وبالرغم من الوهن أو الضعف الذي يُصيبُها، فهي حسب ما قال خبراء أجانب تُعتبَر من ضمن قائمة أهم عشر لغات في العالم، وهي تحتلُّ المرتبة الرابعة، وتأتي بعد الإنجليزية والصينية والإسبانية، وقبل الألمانية والبرتغالية والروسية والفرنسية واليابانية والهندية.

والعربية واحدة من مجموع ست لغات رسمية في الأمم المتحدة، وهي حسب تقرير المجلس الثقافي البريطاني British Council سوف تحتل المرتبة الثانية في لغات المستقبل العالمية، والسؤال الذي يُطرَح، ما الذي يجعل العربية مرشَّحة لهذه المرتبة؟

الجواب لا يكمن في سبب واحد؛ وإنما يكمن في أسباب عدة، نجملها في النقاط التالية:
التبادُل التجاري الكبير الذي يشهده العالم، سواء فيما يتعلق بالصادرات أو الواردات، والدول العربية مجتمعة تُسهِم فيه بصورة فعَّالة.

استعمال الإنترنت الواسع باللغة العربية، وتُقدَّر نسبة المستعملين حسب إحصائيات 2017 ب 185 مليون مستعمل عربي، وتجيء اللغة العربية في المرتبة الرابعة لهذه الدول التي على رأسها الإنجليزية، وتأتي العربية في هذا الترتيب قبل الفرنسية واليابانية والروسية والبرتغالية.

رواج الإسلام وتعاليمه، ولهذا نصيبٌ في العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم، ورواج الإسلام تشهده كُلُّ أصقاع الأرض في أمريكا وأوروبا وآسيا، ودخول الناس بالآلاف سنويًّا في هذا الدين لم يعد خافيًا على أحد.

رواج العربية وتدريسها في الكثير من بلدان العالم، ولا سيَّما في أوروبا باعتبارها لغة ثانية أو ثالثة.

سماحة اللغة العربية بالنظر إلى كونها حاملة لقيم إنسانية عظيمة قد لا نجدها في اللغات المهيمنة الأخرى؛ كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية التي طُبِعَتْ بطابع العنصرية والاستعمار.

جمالية العربية من حيث النبر والإيقاع والموسيقا المصاحبة لها، وثراء أدبها على امتداد قرون عديدة، سواء في مستوى النثر أو الشعر.

أثر العربية في كثير من لغات العالم، وإن كان التأثير قديمًا تاريخيًّا، والتأثيل وأصول الكثير من الكلمات في الإنجليزية واللغات الأوروبية دالَّة على ذلك.

الهجرات العربية لأبناء العرب، سواء الذين هاجروا خلال النصف الثاني من القرن الماضي إلى أوروبا وأمريكا، أو الهجرات الجديدة، ولا سيما الناتجة عن الحروب في العقود الأخيرة من القرن الحالي.

النِّسَب المتزايدة للمواليد في البيئات العربية، سواء كانت تعيش في وطنها العربي أو في أوطان أخرى، وتُقدَّر نسبة الإنجاب بين 2005 و2010 وحسب إحصائيات الأمم المتحدة في أعلى نسبة لها، من نحو ما نجده في موريتانيا وأفغانستان، بسبعة إلى ثمانية مواليد للأُمِّ الواحدة في السنة الواحدة، وتصل هذه النسبة إلى أقل من 2 أو من 1.5 في بعض بلدان أوروبا. ويسجل التقرير نسبة بين 4و5 في معظم البلدان العربية الأخرى؛ مثل: العراق وسورية والسودان والسعودية، وهذه نسب عالية كما لا يخفى، من شأنها أن تُسهِم في الكثافة السكانية للخريطة اللسانية العربية في العالم، وبالتالي في عدد المتكلِّمين بالعربية.


إن اللغة العربية، وبالرغم من ضعفها في المجالات التكنولوجية والعلمية، تُعزِّز من مكانتها في العالم، ولعل عِزَّها من عِزِّ دِينِها وتاريخها المجيد.