القيادة اليوسفية والمنظومة القيمية
4 - عودة إخوة يوسف لأبيهم
قصة يوسف -عليه السلام- قصةٌ تعلمنا كيف يكون الصبر والثبات والتمكين في الأرض، قصة تعلمنا كيف تنهار القوة الأرضيَّة أمام القوة السماوية الربانيَّة، وكيف تسقط المخططات والمؤامرات أمام {معاذ الله} (يوسف:٢٣)، وكيف تصبح زنزانة السجن قاعة لإدارة الأزمات وتفريج الكربات. قصة يوسف -عليه السلام- قصة قائد بمنظومة قيمية ربانية، أنقذ مصر وما جاورها اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا وأخلاقيا وسياسيا.
ما زال حديثنا موصولاً عن إلقاء إخوة يوسف -عليه السلام- له في الجب وتوقفنا عن عودتهم لأبيهم ليقصوا عليه القصة الكاذبة.
عودتهم لأبيهم ليلا
عاد إخوة يوسف -عليه السلام- لأبيهم ليلا؛ وهذا إكمالا للمخطط لكي لا يرى تقاسيم وجوههم وذلك أدعى في إخفاء الكذبة والخديعة ولكن الجرائم دائما لا تكون كاملة؛ فقدموا الحجة نفسها التي كان يخشاها يعقوب، وقدموا الدليل الكاذب قميص يوسف، نعم صحيح قميص يوسف ولكن بدم بارد وكاذب ليس دم يوسف، وكشف ذلك قميص يوسف نفسه الذي لم يمزقه ذلك الذئب الطيب الحنون.
ماذا فعلتم بيوسف؟
عندما رأى يعقوب ذلك القميص أدرك أنه قميص ابنه الحبيب يوسف -عليه السلام- وهو متيقن أن الذئب لم يأكله، وكيف لذلك أن يأكل من رأى الكواكب والشمس والقمر له سجدا؟! نعم قميص يوسف -عليه السلام- ولكن أين يوسف؟ ماذا فعلتم به وهو من غير قميصه كيف حاله في ظلام الليل الحالك؟ ولا يعلم يعقوب مع ظلمة الليل ظلمة الجب ووحشته؛ فعيون يعقوب تنظر للسماء باكية على يوسف وقلبه ساجد لله، صابرا محتسبا {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18)، خططوا للفشل ففشل مخططهم وانكشفت كذبتهم مع حرصهم {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (فاطر:43).
الكاشف قميص يوسف
جرهم الحسد إلى الكذب ومحاولة القتل والحقد وعقوق الوالد وإساءة الظن وإساءة الأدب مع أبيهم بوصفه بالضلال، وخطفهم لأخيهم وإبعاده عن أبيه والمكر والكبر والغرور والتزوير، كشف كل هذا «قميص يوسف» الذي لم يمزقه الذئب، وأدرك يعقوب أن الأمر الذي كان يحاذر ويخاف منه وقع لا محالة، والله غالب على أمره؛ فأطلق القيمة المحركة له في مثل هذه المواقف {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}، والاستعانة بالله -جل في علاه.
(1) الصبر الذي لا شكوى فيه إلا إلى الله.
(2) طلب العون من الله وحده.
خروج يوسف -عليه السلام- من الجب
وجاءت القوافل فمرت قافلة على هذا الجب وألقوا دلوهم، فاستثمر يوسف الموقف لصالحه وقفز على الدلو أثناء سحبه لأعلى وخرج من ظلمات الجب وضيقه إلى البشرى هذا غلام ولم يعلموا أنهم يحملون البشرى لمصر وما جاورها وباعوه بثمن بخس وما علموا أنهم يبيعون نبي الله -عليه السلام- يوسف القائد عزیز مصر القادم ومنقذها.
القائد يعرف قيمة نفسه
وهنا فائدة وهي أنَّ القائد يعرف قيمة نفسه وقدراته ومهاراته وإمكانياته، لا يهمه إذا جهله الآخرون؛ فقوته تنبع من داخله بإيمانه وقيمه المحركة لأفعاله، دراهم معدودة وزهدوا فيه وما علموا أنه هو -بفضل الله ثم تخطيطه وإدارته- سيكون المسؤول عن أموال مصر وكنوزها جميعها.
فراق موطنه والابتعاد عنه
انتهت مرحلة يوسف -عليه السلام- ووجوده في أرض كنعان في فلسطين، وهنا يصبر يوسف القائد الغلام -عليه السلام- على فراق الأحبة ووالده، ويصبر على فراق موطنه والابتعاد عن أرض الطفولة والصبا، ويصبر على ظلم إخوته وحقدهم وحسدهم، ويصبر على ظلمة الجب ووحشته، وكما قيل: يبتلى المرء على قدر دينه، كذلك القائد يبتلى بقدر ما يحمل من هم وفكر للأمة.
١- الفكر والقناعات
كان يوسف -عليه السلام- يحمل فكرا عظيما وطموحا عاليا، ولم يكن ذلك لدى إخوته على صغر سنه، ودليل ذلك انتباه والده يعقوب بذلك والاعتناء به؛ رجاء أن يكون من سلسلة عائلة النبوة؛ لذلك عندما سمع رؤيا يوسف علم يعقوب بأن ابنه يوسف سيكون له شأن عظيم.
٢- الاهتمامات
لم يكن يوسف -عليه السلام- ذا اهتمامات عادية أو متفرغا للعب واللهو؛ لذلك كان إخوته يقولون لأبيهم أرسله معنا غدا يرتع ويلعب، فما كان يخرج معهم للعب واللهو بل اهتماماته أكبر من ذلك.
٣- المسارات
كان يوسف -عليه السلام- ذكيا فطنا نبيها مبادرا جريئا، وستتجلى مهاراته أكثر المراحل القادمة.
٤- العلاقات
كان يوسف -عليه السلام- في بيئة أرض كنعان بفلسطين وبيئته في كنف أبيه وبين إخوته فاقتضى الأمر أن يكون نبيا قائدا، وأن يكون في بيئة أكبر لكي تتوسع دائرة علاقاته، ويتولى زمام المهام العظام القادمة، ولن يتسنى له ذلك وهو في فلسطين فكان انتقاله بهذه الطريقة خيرا له وإن كان ظاهر ذلك فيه الشر، {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216)، وعندها ستأتي العلاقات على مستوى كبير وعال.
5- القدوات
كان قدوات يوسف والده يعقوب وإسحاق وإبراهيم -عليهم السلام- رموز الصلاح والتقوى والنبوة والقيادة، وغرس ذلك يعقوب في نفس يوسف منذ صغره، وسيبقون قدواته في مواقف الشدة كما سيأتي بيانه، إذا نحن أمام نبي الله يوسف القائد الإنسان الفعال وستتبين قيادته على نطاق أوسع في المرحلة القادمة فكانت تربيته القيادية في كنف القائد نبي الله يعقوب -عليه السلام- ناجحة على ما لاقاه من شر إخوته.
د. فالح بن محمد العجمي