صورة من غراس اللغويين
د. معمر العاني



من هدي النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن قامت على أَحَدِكُم الْقيامةُ، وفي يَدِهِ فَسِيلةٌ، فَلْيَغْرِسْها)) ، لقد أرشدنا إلى مقصدٍ بحسن الاختيار، داعيًا أُولي الألباب أن يعملوا برسالةٍ من غير إغفال، مع الترغيب بالعمل والاغتنام؛ ليُضحي منتجًا للمجتمع في الحياة.

ومن هذا المنطلق يمكن أن نتمثَّل جميل الصنيع لأهل اللُّغة في رسالتهم للأنام، ومنها في هذا المقام خبرٌ من المازني أبي عثمان، حين قال: دخلت على أبي زيد - يعني الأنصاري - في مرضه الذي مات فيه، فقال: أشتكي صدري، فقلت: أمرِخْهُ بشمع ودهن، فقال: ليس كذا.... أتوقف هنا بتناصٍّ قبل أن أكمل الخبر، فقد يجول في خاطرك - أيها القارئ - أن أبا زيد قد اعترض على طريقة العلاج التي اقترحها عليه المازني، وأثار جذوة انتباهك لتعرِف ما سيقوله، والحق أنه حرَّكَ شيئًا من الانتباه مصحوبًا بالاستغراب والإكبار لمقالته التي أضاءت عتمةً هنا، وفيئًا هناك... قال أبو زيد: ليس كذا؛ إنما هو امْرُخه، فتعجبتُ منه في تلك الحال يعلِّمني.

إن نظرة متمعِّنة تجعلك تلتمس بيُسْرٍ وعن قُرْب أن مثل هؤلاء كانوا يحتضنون اللغة بحنُوٍّ، ويجعلونها في قارورة عِطْرٍ ينشرونها بين الناس حتى الممات، فهم أصحاب رسالة عبر الأزمان، ومن ثمَّ بقي أن أُصرح من طويَّة النفس التي أُشربت من التأثر في وعي اللغويين، أن سيبويه قد اتخذ من أقوال الأنصاري تذكرة في الكتاب؛ لتعيها أُذُنٌ واعية حين عدَّه من الثقات، ومن بعده قال السيوطي: كان في العصر ثلاثة هم أئمة الناس في اللُّغة والشعر وعلوم العرب، لم يُرَ قبلهم ولا بعدهم مثلهم، عنهم أخذ جُلَّ ما في أيدي الناس من هذا العلم؛ بل كله وهم: أبو زيد، وأبو عبيدة، والأصمعي.


ذلكم من زمـن سطوع شمس الكتابات، قبل أن تنشقَّ صحائف هذا الكتب إلى الحياة، وهذه الآماد لا زالت تسهم في إثراء لغة الذين يمارسون مهنة الكلام، ومن يتلقَّاها على تنوُّعهم ولا يَعُدُّها من سقط المتاع.