اللغة واللسان والكلام
أ.د. عبدالحميد النوري عبدالواحد
لسائلٍ أن يسأل:
ما العلاقة القائمة بين هذه المكونات الثلاثة في الدرس اللساني؟ هل تعبر عن شيء واحد أم عن أشياء مختلفة؟
في الحقيقة هناك فرق واضح بين هذه المصطلحات، أو المفاهيم الثلاثة، أحدَثته اللسانيات الحديثةُ، ويرجع الفضلُ في هذا التمييز إلى دي سوسير رائد هذا الاختصاص، وذلك في كتابه الشهير: (محاضرات في اللسانيات العامة).
ولقد دأَب دي سوسير في كتابه المذكور على معالجة جُملة من الثنائيات؛ كالدال والمدلول، والمحور الزماني والمحور الآني، واللسانيات التاريخية والآنية، واللسان والكلام وغيرها، إلا أنه ومن الملاحظ أن البحث اللساني كان يُملي عليه أن يوسِّع من دائرة هذه الثنائيات؛ ليُضيف إليها ركنًا جديدًا في كل مرة، وذلك من نحو إضافة المرجع إلى الدال والمدلول، وإضافة اللغة إلى اللسان والكلام على ما سنحاول تبيانه.
اللغة في عرف اللسانيات هي الملكة اللسانية الموجودة عند الأفراد، وهي أعم من اللسان، وقد تُطلق اللغة على كل أنواع التواصل؛ كأن نتحدث عن اللغة الطبيعية واللغة الاصطناعية، أو نتحدث عن لغة الحيوانات أو الطيور، مثلما نتحدث عن لغة الإشارة ولغة العيون وغيرها. واللغة عند الإنسان نظام قائمُ الذات، يرجع إلى جينات وراثية تنشأ مع الفرد منذ ولادته، وهي التي تجعله قادرًا على أن يَمتلك لسانًا معينًا، أو لغة خاصة مهما يكن مصدرُها أو طبيعتها.
وأما اللسان فهو لغة خاصة لقوم معينين، أو لغة مجموعة لسانية معينة، بغض النظر عن جنسها أو لونها، وهذه اللغة الخاصة لها نظام لساني خاص أيضًا، يتعلق بالوحدات المعجمية واللسانية عمومًا، وأنساق التراكيب، وبالصيغ التصريفية، وبالعلاقات القائمة بين الصوت والتركيب والمعنى، هذا فضلًا عن الكثير من الاستعمالات، سواء تعلَّقت بالحقيقة أو المجاز.
وكل لسان من هذه الألسن ينطوي على نحوه الخاص ومعجمه الخاص، وقد يَشترك هذا اللسان أو ذاك في جملة من الخصائص مع لسان أو ألسُن أخرى، مثلما يختلف في بعض الخصائص مع لسان أو ألسنة أخرى.
وأما الكلام فهو ما يجري على ألسنة الأفراد، وبالتالي فإن الكلام فردي، وإن استمد قوانينه من اللسان المشترك بطبيعة الحال، والكلام يغلب عليه الاستعمال، وعليه فهو وثيقُ الصلة بالسياق والمقام، في حين أن اللسان جماعي واجتماعي على ما ذكرنا، واللسان قائم على نظام، وقد يضعُف هذا النظام في الاستعمال، ذلك أن الفرد في الكلام قد تكون له طريقته الخاصة في التكلم أو أسلوبه الخاص.
إن هذا التمييز بين اللغة واللسان والكلام، وإن غاب في مستوى المصطلح، فهو حاضر في مستوى المفاهيم والتصورات، وفي حالة غيابه تظل السياقات دالة عليه لا محالة، ما يجعل المرء قادرًا على أن يفهَم المقصود من كلمة "لغة" مثلًا، وهل المقصود منها اللغة أو اللسان.
والألسن تتفاوت في هذا الشأن، وإن كان من حظ العربية أن تقف على هذه الاختلافات، فإن بعض الألسن الأخرى لا نجد فيها هذا الفرق، وإذا كانت الفرنسية والإيطالية مثلًا تُفرقان بين اللغة واللسان، فإن ألسن أخرى كالإنكليزية والألمانية لا يحدث فيها هذ الفرق، وللتدليل على هذا نقول في الفرنسية: langage(لغة) وlangue (لسان)، مثلما نقول في الإيطالية: linguaggio (لغة) في مقابل lingua (لسان)، في الوقت الذي تستعمل فيه الإنكليزية ********، ويطلق المصطلح في الآن نفسه على اللغة واللسان، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الألمانية؛ إذ تستعمل مصطلح sprache ليشمل اللغة واللسان أيضًا.
ولا يفوتنا أن نشير في هذا المضمار إلى أن من حظ العربية أن لها من القدرة أن تُميز وتُفرِّق بين المفهومين بمصطلحين مختلفين، ولعل من الفائدة أن نشير أيضًا إلى ضرورة استغلال هذا التمييز، بُغية الوصول إلى التعبير الدقيق عن المفاهيم المختلفة، ذلك أن الكثير من اللغوين العرب المعاصرين اليوم - إن لم نقُل: جلُّهم - ما زالوا يستعملون مصطلح "اللغة" في كل الحالات.