بعد في الفكر النحوي


د. معمر العاني



إن القراءة الفاحصة للنحو العربي - مصنفاتٍ وأخبارًا - تُفضي إلى ثراء الفكر ودقة التوجيه، واستظهار أبعاد معرفية في أبواب النحو ومسائله عبر العصور، وهذه العوائد تُلقي بظلالها على وعي المتلقين، آخذين في الحُسبان النظر إلى المقروء بشمولية وكُليَّةٍ، ومواقف تاريخية.
ولي في هذا المستهل فكرة عمادها: أسرَّها في نفسه، ولم يُبدها لنا إلا بعد سؤال... فبعض النحاة يُسرُّون في أنفسهم رأيًا، ويبدون آخرَ؛ انتصارًا لمذهبهم، أو جريًا على اتساق مسار مُصنفاتهم، أو حذرًا من مآخذ على آرائهم .... ولا يصِح استكمال عقد المقال إلا بضربٍ من الاستدلال، وأَسوقه هنا من ابن كيسان؛ إذ أخفى في نفسه رأيًا أبداه بعد سؤال، وذلك في توجيه قوله تعالى:‏ ﴿ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ﴾ [طه: 63]، الذي نجدها في جل المؤلفات.
روى النحاس: سألتُ أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية، فقال: إن شئتَ أجبتُك بجواب النحويين، وإن شئت أجبتُك بقولي، فقلت: بقولك، فقال: سألني إسماعيل بن إسحاق عنها، فقلت: القول عندي أنه لَمَّا كان يقال: (هذا) موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة، وكانت التثنية يجب ألا يُغير لها الواحد، أُجريت التثنية مجرى الواحد، فقال: ما أحسَن هذا لو تقدَّمك أحدٌ بالقول؛ حتى يؤنس به، قال ابن كيسان: فقلت له: فيقول القاضي به حتى يؤنس به، فتبسَّم.
هذا بيان السؤال والجواب، صفوة قوله: إجراء (هذان) مجرى (هذا) على رأي سكَن في خاطر ابن كيسان مما قد لا نجده في مصنفات الطلاب، ولعل غُررَ ما تقدَّم تنهض باستجماع هذا المنحى من الآثار، وتَضحى للمتلقين نافذةٌ من نوافذ الدرس النحوي بفسح البحث، وثراء التمرين.