شرح المعرفة والنكرة
أبو أنس أشرف بن يوسف بن حسن







المبحث الأول:
لماذا أتى ابن آجروم رحمه الله بباب المعرفة والنكرة بعد باب النعت مباشرةً:
اعلم - رحمك الله - أن باب المعرفة والنكرة ليس مِن التوابع، وإدراجُ ابن جروم رحمه الله له بين التوابع[1] له سببٌ، وهو: أنه لَمَّا ذكر في تعريف النعت أنه يتبع منعوته في التعريف والتنكير، ناسَب أن يذكر لك بابًا تستعين به على معرفة وفَهم معنى المعرفة والنكرة.



المبحث الثاني: لماذا قدَّم ابن آجروم رحمه الله المعرفةَ في الذكر على النكرة:
اعلم - وفَّقني الله وإياك - أن المعرفة والنكرة هما قسمَا الاسم، فالاسم إما أن يكون معرفة، وإما أن يكون نكرة، لا ثالث لهما[2].
وقد قدَّم ابن آجروم رحمه الله المعرفة في الذكر على النكرة[3]؛ لِمَا يلي:
1- علو مرتبة المعرفة على النكرة؛ وذلك بدلالتها على مُعيَّن[4].
2- لأن معرفة الشيء المحدَّد بالعدد أسهل مِن معرفة ما هو أوسع منه دائرة، وبدون حدٍّ بعدد.


المبحث الثالث: تعريف المعرفة:
أولًا: تعريف المعرفة من حيث اللغة:
ترجع كلمة (معرفة) إلى مادة العين والراء والفاء، ومنها: قولهم: عرَفت الشيء معرفة: إذا علمت به.


ثانيًا: تعريفها مِن حيث الاصطلاح:
تُعرف المعرفة بأنها كل اسم دل على شيء معين[5]، بواسطة قرينة من القرائن، وقد تكون هذه القرينة:
لفظية[6]، وذلك في الأقسام الثلاثة الآتية من المعارف:
1- الأسماء الموصولة: والقرينة اللفظية التي تجعلها تدل على شيء معين هي الصلة التي تأتي بعدها، تقول على سبيل المثال: جاء الذي تعرف، فالاسم الموصول (الذي) لم يدل على شيء معين[7] إلا بواسطة قرينة لفظية هي صلته المذكورة بعده، هي جملة (تعرف)[8].


2- المعرف بـ(أل): والقرينة اللفظية التي تجعله يدل على شيء معين هي (أل).


3- المضاف إلى معرفة[9]: والقرينة اللفظية التي تجعله يدل على شيء معين هي ما أضيف إليه[10] (المضاف إليه)[11].


وقد تكون القرينة معنوية[12]، وذلك في:
1- أسماء الإشارة: إذ إنها تدل على معين بواسطة الإشارة، والإشارة شيء معنوي[13].
2- الضمائر، فالضمائر تدلُّ على شيء معين بواسطة قرينة معنوية، لا لفظية متلفظ بها؛ هي:
التكلم؛ كالضمير (أنا)[14].
والغَيبة؛ كالضمير (هو)[15].
والخطاب: كالضمير (أنت)[16].
كما أنه قد يكون الاسم معرفًا بالوضع؛ فهو يدل على معين، ولكن بدون احتياج إلى قرينة لفظية أو معنوية لتعيين مسماه، وهذا هو العلم.
♦♦ ♦ ♦♦


المبحث الرابع: أقسام المعرفة:
مما سبق ذكره من الحديث على تعريف المعرفة اصطلاحًا، ومن الحديث على أنواع القرائن المعنوية واللفظية التي تجعل الكلمة تدل على معين، يتبيَّن لنا أن أقسام المعرفة ستة؛ هي:
1- الضمائر.
2- العلم.
3- أسماء الإشارة.
4- الأسماء الموصولة.
5- المعرف بـ(أل).
6- المضاف إلى معرفة من المعارف الخمسة السابقة[17].

فهذه الأنواع الستة من الأسماء تعدُّ مِن المعارف[18]؛ إذ إن ما تدل عليه معين ومحدد، إما بواسطة قرائن لفظية، أو معنوية، أو بالوضع مِن غير حاجة إلى قرينة لتعيينِه، على ما بيَّنا قريبًا في المبحث الماضي.


وفيما يلي - إن شاء الله تعالى - الكلامُ بالتفصيل على هذه الأنواع الستة من المعارف، مع ضرب الأمثلة عليها:
أولًا من أنواع المعارف الستة: الضمائر[19].
اعلم رحمك الله أن البحث في الضمائر يشمل الأمور التالية:
1- تعريف الضمير.
2- بيان درجة الضمير في التعريف بالنسبة للمعارف الستة.
3- بيان اختلاف الضمائر فيما بينها من حيث قوة التعريف[20].


1 - تعريف الضمير[21]: عرَّف النحاة الضمير إما بأنه:
ما كُني به عن الاسم الظاهر اختصارًا، فعلى سبيل المثال إذا قلتُ: أنا قائمٌ، كان الضمير (أنا) نائبًا، ومُكنى به عن الاسم الظاهر (أبي أنس، أشرف بن يوسف بن حسن)، ومغنيًّا عنه، وفي هذا بلا شك نوع اختصار، ولذا كان الضمير من الأصل موضوعًا على الاختصار، ويكنى به عن الاسم الظاهر، كما أن الضمير كذلك، ومع كونه يدل على الاسم الظاهر اختصارًا - كما ذكرنا آنفًا - فهو أيضًا أوضح في الدلالة على المقصود من الاسم الظاهر[22]، فلو قلت على سبيل المثال للذي أمامي: محمد قائم، لكان يحتمل أن يكون محمد حاضرًا وقت الكلام، وأن يكون غائبًا، بخلاف ماذا إذا قلتُ: أنت قائم، فإنه لا يحتمل أن يكون غائبًا، بل لا بد أن يكون حاضرًا وقت النطق بالجملة.
وإما بأنه ما دل على حاضر أو غائب بألفاظ معلومة[23].


فما دل على حاضر، فالمراد به ضمائر التكلم وضمائر الخطاب[24]، وكل منهما يسميه النحاةُ ضمائر الحضور؛ وذلك لأن صاحب هذا الضمير يكون عادةً حاضرًا وقت النطق به.
وما دلَّ على غائب، فالمراد به ضمائر الغَيبة[25].


2- بيان درجة الضمير من حيث قوة التعريف بالنسبة للمعارف الستة التي ذكرناها:
اعلم - رحمك الله - بدايةً أن الضمائر كلها معارف، فكل ضمير - أيًّا كان نوعه - فهو معرفة[26]، ودرجة الضمائر مِن حيث قوة التعريف بالنسبة لباقي المعارف الأخرى، أنها أعلاها في التعريف؛ أي: في الدلالة على التعيين، فالضمائر هي أعرف المعارف الستة[27].


ووجه كون الضمائر هي أعرف المعارف الستة، أنك لو قلت على سبيل المثال: أنا، لم يحتمل هذا الضمير إلا المتكلم؛ يعني: أنه لا ينصرف إلى غير المتكلم، وكذلك لو قلت: أنت، لم يحتمل هذا الضمير إلا الشخص الذي تخاطبه، ولا ينصرف إلى غير المخاطب، وهذا بخلاف ما لو قلت: زيد، مثلًا، فعلى الرغم من كون (زيد) معرفة، وأنه يعين، إلا أنه أوسع دائرة من الضمائر، والضمير أدلُّ منه على التعيين؛ إذ إن هذا العلم (زيد) قد ينصرف إلى أي أحد اسمه (زيد)، فلهذا كانت الضمائر أعرف المعارف الستة[28].

3 - بيان اختلاف الضمائر فيما بينها من حيث قوة التعريف:
تنقسم الضمائر فيما بينها من حيث قوتها على التعريف والتعيين إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما وضع للدلالة على المتكلِّم، وهذا هو أقواها من حيث التعريف، ومنه الضمائر (أنا، نحن، إياي، إيانا، ياء المتكلم، تاء الفاعل المضمومة للمتكلم المفرد مذكرًا كان أو مؤنثًا، ونا الفاعلين).


والقسم الثاني: ما (وضع للدلالة على المخاطب، وهذا يلي ضمائر التكلم في قوة التعريف، ومنه الضمائر: (أنتَ، أنتِ، أنتما، أنتم، أنتن، إياكَ، إياكِ، إياكما، إياكم، إياكن، وكاف المخاطب بأشكالها الخمسة، وباقي أشكال تاء الفاعل الخمسة[29]، وياء المخاطبة المؤنثة).


والقسم الثالث: ما وُضع للدلالة على الغائب، وهذا يلي ضمير المخاطب في قوة التعريف[30]، ومنه الضمائر: (هو، هي، هما، هم، هن، إياه، إياها، إياهما، إياهم، إياهن، وهاء الغَيبة بأشكالها الخمسة)[31].


[1] وذلك أنه رحمه الله أتى ببابِ المعرفة والنكرة بعد باب النعت، وقبل باب التوكيد، وباب العطف، وباب البدل، وهذه الأبواب الأربعة كلها مِن التوابع، كما هو معلوم.

[2] قال الحريري رحمه الله في ملحته:
والاسمُ ضربانِ فضربٌ نكرهْ *** والآخرُ المعرفةُ المشتهرهْ

[3] وهذا خلافًا لِما فعله كثير من النحاة من تقديمهم النكرة في الذكر على المعرفة، كما فعل ابن مالك رحمه الله في ألفيته[*]، وابن هشام في كتبه الثلاثة: (القطر، والشذور، وأوضح المسالك)، وإنما قدَّم هؤلاء النكرة في الذكر على المعرفة؛ لأنها الأصل[**]، ولأن المعارف مستخرجة منها.

[4] وذلك أنه سيأتينا إن شاء الله تعالى أن المعرفة ستة أقسام، فهي محدودة بعدد، بخلاف النكرة فإنها غير محدودة بعددٍ.
[*] وهذا بخلاف فعله في التسهيل، فقد قدَّم فيه رحمه الله المعرفة على النكرة، كما فعل ابن آجروم رحمه الله هنا، والخلاف في ذلك يسير، والحمد لله.
[**] فالنكرة - على ما عليه سيبويهِ والجمهورُ - هي الأصل، والمعرفة فرعٌ عليها، كما أن التذكير هو الأصل في الأسماء، والتأنيث فرعٌ عليه، وإنما كانت النكرة هي الأصل والمعرفة فرع عليها؛ لاندراج كل معرفة تحت النكرة، من غير عكس؛ ولأنها لا تحتاج في دلالتها إلى قرينة، بخلاف المعرفة، وما يحتاج فرعٌ عما لا يحتاج.

[5] ولذلك فهي ضد النكرة؛ إذ سيأتينا إن شاء الله تعالى أن النكرة هي كل اسم شائع في جنسه، لا يختص به واحد دون آخر.

[6] أي: متلفظًا بها.

[7] وهو الشخص المعروف لديك.

[8] المكونة من الفعل المضارع (تعرف)، وفاعله الضمير المستتر (أنت).

[9] من الأقسام المذكورة ههنا؛ كالأسماء الموصولة، والمعرف بـ(أل)، وما سيأتي ذكره من المعارف في هذا الجدول؛ كالعلم.

[10] يعني: من المعارف المذكورة بعده.

[11] كما لو قلت مثلًا: كتاب محمد، فالذي عيَّن المضاف (كتاب)، وجعله يدل على كتاب معين قرينةٌ لفظية، هي المضاف إليه المذكور بعده العلم (محمد)، والعَلَم - كما سيأتينا قريبًا إن شاء الله تعالى - هو من المعارف.

[12] أي: غير متلفظ بها.

[13] فأسماء الإشارة؛ كـهذا) مثلًا، فيها معنى (أشير إلى)، لا هذا اللفظ، ولهذا كانت القرينة التي تجعلها تدل على شيء معين قرينة معنوية، لا لفظية.

[14] فالضمير (أنا) قد دل على معين، هو الشخص المتكلم، بمعناه، ومن غير أن يتلفظ بكلمة (المتكلم).

[15] فالضمير (أنت) قد دل على معين، هو الشخص المخاطب، بمعناه، ومن غير أن يتلفظ بكلمة (المخاطب).

[16] فالضمير (هو) قد دل على معين، هو الشخص الغائب، بمعناه، ومن غير أن يتلفظ بكلمة (الغائب).

[17] فهذه ستة أنواع من المعارف، وقد جمعها ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته في بيت واحد، فقال رحمه الله:
وغيرُه معرفةٌ كـ(هُمْ) وذي *** وهندَ وابني والغلامِ والذي
فقوله: هم، إشارة إلى الضمائر، وقوله: ذي، إشارة إلى أسماء الإشارة، وقوله: هند، إشارة إلى العلم، وقوله: ابني، إشارة إلى المضاف إلى معرفة، والمعرفة هنا هي الضمير (ياء المتكلم)، وقوله: الغلام، إشارة إلى المعرَّف بـ(أل)، وقوله: الذي، إشارة إلى الأسماء الموصولة، وقد جمع الحريريُّ رحمه الله كذلك هذه المعارف الستة في (مُلحتِه)، فقال:
وما عدا ذلك فَهْوَ معرفَهْ
لا يمتري فيه الصحيحُ المعرفَهْ

مثالُهُ: الدارُ وزيدٌ وأنا
وذا وتلك والذي وذو الغِنَى



[18] وهل المعارف محصورةٌ في هذه الأنواع الستة، أم أن هناك أنواعًا أخرى من المعارف؟
الجواب: لقد ذكر النحاة - على خلاف بينهم في ذلك - نوعًا سابعًا من أنواع المعارف غيرَ هذه الأنواع الستة، وهو: النكرة المقصودة في النداء؛ نحو: يا رجلُ، تخاطب رجلًا بعينه، فـ(رجل) في هذا المثال اسم نكرة، ولكنه اكتسب التعريف مِن قصدِه بالنداء؛ كما ذكر ذلك ابن مالك رحمه الله، هذا وقد نظم بعضُ العلماء المعارف على أنها سبعة بإضافة النكرة المقصودة إليها، فقال رحمه الله:
إن المعارف سبعةٌ فيها اكتملْ *** أنا، صالحٌ، ذا، ما، الفتى، ابني، يا رجل
فأشار بقوله: يا رجل، إلى المنادى النكرة المقصودة، وقوله: أنا، إشارة إلى الضمائر، وقوله: صالح، إشارة إلى العَلَم، وقوله: ذا، إشارة إلى أسماء الإشارة، وقوله: ما، إشارة إلى الأسماء الموصولة، وقوله: الفتى، إشارة إلى المعرف بـ(أل)، وقوله: ابني، إشارة إلى المضاف إلى معرفة، وهذا القِسْم من المعارف - الذي هو النكرة المقصودة - قد أغفله أكثر النحاة، وسيأتينا إن شاء الله تعالى الحديث عنه، وعن سائر أنواع المنادي بالتفصيل، في باب المنادى من أبواب منصوبات الأسماء.

[19] تقدَّم بنا في هذا الكتاب أن أفردنا الضمائر بباب مستقلٍّ، فلا حاجة إلى إطالة البحث فيها ها هنا، وسنركز في هذا المقام على كون الضمائر كلِّها معرفةً، وعلى ترتيبها فيما بينها، وفيما بين أخواتها مِن المعارف من حيث قوة التعريف.

[20] أما الحديث عن أقسام الضمير من حيث بروزه واستتاره، والحديث عن إعرابه، فلا حاجة لذِكْره ها هنا؛ إذ إنه قد تقدَّم ذكر ذلك بالتفصيل في باب الضمائر، بما يغني عن إعادته هنا، وقد بينا هناك أن الضمائر تنقسم من حيث البروز والاستتار إلى ضمير بارز متصل، وضمير بارز منفصل، وضمير مستتر، وبيَّنا كذلك هناك أن الضمائر كلها مبنية باتفاق النحاة، وأن إعرابها إعراب محلي، وأنها قد تكون في محل رفع، أو نصب، أو جر، حسب موقعها في الجملة.

[21] ويقال فيه أيضًا: المضمر، والتعبير بالمضمر والضمير هو تعبير البصريين، أما الكوفيون فيقولون: الكناية والمكنى؛ وذلك لأن الضمير ليس بصريح، فهو يكنى به - أي يرمز به - عن الاسم الظاهر اختصارًا؛ كما سيأتينا في تعريفه، إن شاء الله تعالى، والكناية تقابل الصريح، قال الشاعر:
فصرِّح بما تهوى ودَعْني من الكنى *** فلا خيرَ في اللذاتِ مِن دونِها سترُ
وأما تسمية الضمير بالمضمَر، فهي قولهم: أضمرت الشيء إذا سترته وأخفيته، فهو مأخوذٌ من الاستتار والخفاء، ومنه قولهم: أضمرتُ الشيء في نفسي، ومن هنا كان الأصل في إطلاق الضمير على الضمير المستتر، وكان إطلاقه على الضمير البارز من باب التوسُّع، أو أن سبب تسمية الضمير بالمضمر أنه مأخوذ مِن الضمور، وهو الهُزال؛ لأنه في الغالب قليل الحروف.

[22] وبذلك يكون الضمير يُكنى به عن الاسم الظاهر اختصارًا وإيضاحًا.

[23] قد تقدَّم ذكر ألفاظ الضمائر بتفصيل واستفاضة في باب الضمائر من هذا الكتاب.

[24] وقد مثل ابن آجروم رحمه الله عليهما بالضميرين (أنا، وأنت)، ولم يُمثِّل رحمه الله على ضمائر الغَيبة، ووجهُ ذلك: أن ذكر بعض الشيء للدلالة على كل شيء مِن الاصطلاحات المتبعة عند اللُّغويين وغيرهم.

[25] وليعلم أن ضمائر التكلم والخطاب تختص بالعقلاء، وأما ضمائر الغيبة، فإنها تصلح للعقلاء وغيرهم إلا الواو و(هم)، فتختصان بالعقلاء مِن الذكور، فلا يصح أن يقال: النقود صرفوا لأربابهم، والصواب: النقود صرفت لأربابها، ولا أن يقال: البنات لا يستطيعون أن يفارقوا أمهاتهم، والصواب: البنات لا يستطعن أن يفارقن أمهاتهن.

[26] لكن الضمائر، وإن كانت كلها معارف إلا أنها تختلف فيما بينها في قوتها التعريفية، كما سيأتينا بعد قليل إن شاء الله تعالى.

[27] ومن هنا تعلم لماذا ابتدأ ابن آجروم رحمه الله ذكر المعارف الستة بالضمائر، دون غيرها من أنواع المعارف.

[28] إلا أن العلماء رحمهم الله استثنَوا من عموم قاعدة أن الضمائر أعرف المعارف، استثنوا من ذلك أسماء الله تعالى المختصة به، التي لا يسمى بها غيرُه سبحانه؛ مثل، الله، الرحمن، رب العالمين، الرب المعرف بـ(أل)[*]؛ فإن هذه الأسماء أعرف من الضمائر بالاتفاق؛ لأنها لا تحتمل غير الله تعالى، ولا تصح إلا لله وحدَه سبحانه، وهذا بخلاف الضمير (أنا) مثلًا، فإنه وإن كان يدل على أن المراد هو الشخص المتكلم، إلا أنه يصح إطلاقه على كل متكلم، فالضمائر وإن كانت تعين مرجعها إلا أن فيها اشتراكًا، بخلاف أسماء الله تعالى المختصة به، فإنها ليس فيها اشتراك؛ إذ إنها لا تتعداه إلى غيره سبحانه، فلهذا قالوا: إن الضمائر هي أعرف المعارف ما عدا الأسماء المختصة بالله عز وجل، فهي أعرف من الضمائر، بل هي أعرف المعارف على الإطلاق.
[*ٍ] فإنه إذا عُرِّف بـ(أل) كان من أسماء الله تعالى المختصة به، التي لا تطلق على غيره، قال النووي رحمه الله في (المجموع) 1 /334: "قال العلماء: (الرب) بالألف واللام لا يُطلَق إلا على الله سبحانه؛ اهـ، وانظر، الفتح 5 /179، وهذا بخلاف كلمة (رب) المضافة إلى ضمير أو إلى اسم طاهر، فإنها لا يشترط فيها أن تكون من أسماء الله المختصة به، فقد يكون المراد بها الله عز وجل، وقد يكون المراد بها غير ذلك من البشر، كما في قوله تعالى: ﴿ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 50]، فقد تكرَّرت كلمة (رب) في هذه الآية مرتين، وكانت في المرة الأولى مضافةً إلى الضمير (الكاف) ربك، وفي المرة الثانية مضافة إلى الضمير ياء المتكلم (ربي)، وكان المراد بها في المرة الأولى مَلِك مصر الذي كان على عهد النبي يوسف صلى الله عليه وسلم، بينما كان المراد بها في المرة الثانية الله عز وجل.

[29] فالضمير تاء الفاعل - كما تقدم مرارًا - له أشكال ستة، شكل واحد يدل على المتكلم المفرد بنوعَيْه المذكر والمؤنث، وهو التاء المضمومة التي لم يلحَقْها حرف يدل على التثنية أو الجمع؛ كالتاء في الفعل (رأيت) مثلًا، وأما الأشكال الخمسة المتبقية، فإنها تدل على الخطاب، وانظر ما تقدم في باب الضمائر.

[30] وعليه فترتيب الأقسام الثلاثة للضمير من حيث قوة التعريف؛ هكذا: المتكلم، ثم المخاطب، ثم الغائب.

[31] فإن قال قائل: فأين الضمائر وواو الجماعة، وألف الاثنين والاثنتين، ونون النسوة، لماذا لم تذكر في أي من هذه الأقسام الثلاثة؟
فالجواب: أن هذه الضمائر لما كانتْ صالحةً للدلالة على الخطاب أحيانًا، وللدلالة على الغَيبة أحيانًا لم يمكن وضعُها في قسم دون آخر، ولذلك نقول: إنها إن دلَّت على الخطاب دخلت في ضمائر القسم الثاني (ضمائر الخطاب)، وإن دلت على الغيبة دخلت في ضمائر القسم الثالث (ضمائر الغيبة).