التقطيع المزدوج
أ.د. عبدالحميد النوري عبدالواحد




إن مصطلح التقطيع المزدوج في العربية، هو المقابل للمصطلح الفرنسي double articulation، وهو مصطلح أنشأه أندري مارتيني الفرنسي في إطار نظريته اللسانية الوظيفية، وهذا المصطلح الذي يعبِّر عن مفهوم أو تصوُّر كلي تتميَّز به جميعُ الألسن، ويتمثل هذا التصور في أن كل الألسن البشرية بإطلاقٍ قائمةٌ على التقطيع المزدوج.

والتقطيع هو تقطيع الحروف أو الأصوات في جهاز التصويت، ما يجعل هذه السِّمة ملازمة للكلام أو للمنطوق، باعتبار أن الألسن جميعها هي في الأصل ألسن منطوقة قبل أن تكون مكتوبة، وباعتبار أولوية المنطوق على المكتوب في مختلف النظريات اللسانية البنيوية.

وهذا التقطيع يتجلى بالكيفيتين التاليتين:
♦ الأولى وتتمثل في الوحدات الصغرى الدالة؛ أي: المورفيمات morphemes.
والثانية وتتمثل في الوحدات الصوتية الدنيا؛ أي: الفونيمات phonemes.

وأما بالنسبة إلى الوحدات الصغرى الدالة، فهي تعرف بدَلالتها، أو المعاني التامة أو الجزئية التي تتضمَّنها، وهذه الوحدات في الحقيقة كثيرة وتوجد في جميع الألسن، بما في ذلك العربية بطبيعة الحال، وللتدليل على ذلك يُمكن أن نُشير إلى أن الكلمات بصفة عامة هي من ضمن هذه الوحدات، وكذلك الجذور والجذوع، والجذور سِمة الألسن الاشتقاقية، والجذوع سِمة الألسن الإلصاقية، ومثلما تشمل هذه الوحدات الأدوات أو حروف المعاني كما تسمَّى في تراثنا النحوي، وذلك مثل: حروف الجر والنفي والنهي والاستقبال، وهي تشمل أيضًا كل العلامات أو القرائن الدالة؛ من نحو علامات الإعراب، والضمائر المتصلة بالأفعال، أو الأسماء، أو الصفات.

وهي تشمل كل اللواصق؛ من سوابق مثل: حروف المضارعة، ولواحق مثل: علامات التأنيث والنسبة، ودواخل؛ من نحو العلامات الدالة على التصغير والتكسير، وتشمل عمومًا كلَّ العلامات الدالة على الجنس والعدد والتعريف والتنكير، والزمن والوجه mode، وغيرها.

هذه الوحدات مثلما يمكن أن يُشار إليها قد تكون وحدات حرة مستقلة، وذلك من نحو كلمة "قط"، أو "قلم" مثلًا، وقد تكون وحدات مقيدة؛ أي: لا تَرِدُ في سياق الكلام إلا مجتمعة أو متصلة بغيرها، ولا معنى لها في حد ذاتها، وذلك من نحو السين أو سوف الدالتين على الاستقبال، أو تاء التأنيث في الأسماء أو الأفعال، أو الألف واللام علامة التثنية، وقِسْ على ذلك.

وهذه الوحدات في مجمل الكلام تُمثِّل كلها التقطيع الأول الذي يكون ملازمًا لها، وكل هذه الوحدات باختلاف قيمتها اللسانية ينسحب عليها مصطلح الدليل اللساني المشتمل على الدال والمدلول.

وأما التقطيع الثاني، فهو تقطيعٌ صوتي، وهو يتعلق بالوحدات الصوتية الدنيا؛ أي: الفونيمات phonemes، والفونيم يشمَل الوحدات الصوتية المميزة في لغة أو لسان ما، وتشتمل الفونيمات على الصوامت أو السواكن، مثلما تشتمل على الصوائت؛ أي: الحركات، ويكون الفونيم مميزًا في لسان ما إذا تقابَل مع فونيم آخرَ في كلمة ثانية، وتكون الكلمتان مختلفتين ذات دلالتين مختلفتين أو أكثر، وذلك من نحو قولنا: "تين" بالتاء و"طين" بالطاء، وبالتالي فإن كلا الفونيمين "التاء" و"الطاء" هما فونيمان متمايزان، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصوائت أو الحركات، وذلك كالتمايز الموجود في الفتحة والكسرة في أمثلة من نحو: "سِنة" و"سَنة" مثلًا.

بهذا المعنى يعبر أندري مارتيني عن التقطيع المزدوج، وهو سمة عامة لكل الألسن، ولا يخرج أي لسان عن هذا النطاق، مع الاختلاف القائم بطبيعة الحال بشأن وحدات التقطيع الأول والتقطيع الثاني في كل لسان أو لغة على حِدَةٍ.

وأما أهمية التقطيع المزدوج عند مارتيني، فتتمثل في استغلاله في التحليل اللساني للكلام أو الخطاب، وفي التمييز بين التقطيعات الدالة وغير الدالة، وفي إيجاد آليات إجرائية يتمكن الباحث من خلالها من النظر في تقسيم الكلام وتجزئته، وضبط الوحدات اللسانية المختلفة، سواء كانت من التقطيع الأول، أو من التقطيع الثاني.