اللسانيات العامة
أ.د. عبدالحميد النوري عبدالواحد






اللسانيَّات العامَّة هي المصطلح المقابل ل Linguistique générale في الفرنسيَّة أو General linguistics في الإنجليزيَّة، ويُستعمَل المصطلح لإثبات الفرق بين اللسانيَّات العامَّة واللسانيَّات الخاصَّة، واللسانيَّات الخاصَّة هي التي تهتمُّ بلغةٍ خاصَّة، وذلك من نحو لسانيَّات العربيَّة أو الألمانيَّة أو اليابانيَّة أو غيرها، في حين أنَّ اللسانيَّات العامَّة تهتمُّ بكلِّ اللغات، أو بالأحرى بمجموع الخصائص المشتركة للُّغات.

وموضوع اللسانيَّات العامَّة على وجه الحصر، وبطبيعة الحال - هو اللغة الطبيعيَّة أو اللغة البشريَّة، وإن شِئْنا الدقَّة هو الوقوف على السمات المشتركة بين مجمل اللغات، سواء تعلَّقَتْ هذه السمات بالجانب المعجميِّ أو الدلاليِّ، أو الجوانب الصوتيَّة أو التركيبيَّة أو غيرها.

وبلا شك إنَّ لكلِّ لغة سماتها أو خصائصها اللسانيَّة؛ ولكنَّ هذا لا ينفي وجودَ خصائص مشتركة بين اللغات، والمشترك بين اللغات هو الأداء اللغويُّ ذاته، باعتبار أن اللغة قائمة على الكلام وعلى التعبير وعلى التواصُل، وهي قائمة على بنية واضحة، أو على نظامٍ لسانيٍّ يشتمل على أنساق مضبوطة، وإن اختلفت هذه الأنساق من لغة إلى أخرى قليلًا أو كثيرًا.

والكلام البشري مبدؤه واحدٌ، باعتباره أصواتًا دالَّةً، وهذه الأصوات بحاجة إلى التأليف فيما بينها؛ لتنشأ منها كلماتٌ أو وحداتٌ دالَّةٌ، ولتنشأ عن هذه الكلمات عباراتٌ أو جملٌ أو نصوصٌ لها دلالاتها ولها مقاصدها، يُعبِّر بها كلُّ فردٍ عن مقاصده.

والكلام دَفْق صوتيٌّ يتحكَّم فيه المتكلِّم بالتقديم والتأخير، والحذف والتَّكرار، وتَصحَبُه نبرةٌ أو نبراتٌ دالَّةٌ، مثلما تصْحَبه تعبيراتُ الوجه، وحركةُ الجسم واليدين، وقد تختلف طبيعة الكلام باختلاف المتخاطبَيْنِ أو المتخاطبِينَ، وباختلاف الموضوع والمقاصد الحاصلة من وراء الكلام، وقد يكون الكلام عاميًّا أو فصيحًا، وقد يكون حَسَنًا أو قبيحًا، وقد يكون حقيقيًّا أو مجازيًّا، وقد يأخذ أشكالًا شتى يُمليها المقامُ والمقالُ.

والكلام - وتبعًا لذلك اللغة - خصيصةٌ بشريَّةٌ، يتميَّز بها الإنسان وحدَه عن بقيَّة الكائنات أو المخلوقات الأخرى، وهو له علاقة لا تخفى بالقُدْرات الذهنيَّة للأفراد؛ ما يجعل للكلام جانبًا بيولوجيًّا يتعلَّق بالدماغ والمراكز الحسيَّة فيه، مثلما يتعلَّق بجهاز التصويت وأعضاء النُّطْق والسَّمْع.

ولا تتعلَّق اللسانيَّات العامَّة بالتمييز بينها وبين اللسانيَّات الخاصَّة، مثلما سبقت الإشارة إلى هذا، فحسب؛ وإنَّما تتعلَّق - ومن حيث المنهج - بطريقة وأسلوب المعالجة اللسانيَّة، فلا تقتصر اللسانيَّات العامَّة على الجوانب التقنية في التحليل اللسانيِّ؛ وإنَّما تشمل أو تهتمُّ بالجوانب الأسلوبيَّة والبلاغيَّة، والجوانب النفسيَّة والاجتماعيَّة وغيرها، الأمر الذي يجعل العالم اللسانيَّ لا تنحصر معارفُه في الجوانب التقنية وحدَها، وإنما لا بُدَّ له أن يعرف جوانب أخرى كثيرة تتعلَّق بعلم النفس ولا سيَّما علم النفس العرفاني أو الإدراكي، وفلسفة اللغة، وعلم الطبِّ وتشريح الأعصاب، فضلًا عن معارف أخرى قد تكون بعيدة عن العلوم الإنسانيَّة؛ كالرياضيات والإحصاء والفيزياء، وهو ما يجعل اللسانيَّات العامَّة اختصاصًا بينيًّا تتداخل فيه جملة من الاختصاصات الأخرى.

ولا تتقابل اللسانيَّات العامَّة مع اللسانيَّات الخاصَّة وحدها، وإنَّما هي تتقابل مع اللسانيَّات التطبيقيَّة واللسانيَّات النفسيَّة والاجتماعيَّة والعِرْقيَّة وغيرها.

وبالنظر إلى أن اللسانيَّات تقابل أو تختلف مع اللسانيَّات الخاصَّة، وبما أنَّها تنطلق من الخصائص المشتركة لجملة من اللغات، أو من كلِّ اللغات، فإنَّ عالم اللسان لا يجب أن تقتصر معرفتُه على لغة بعينها، وإنَّما لا بُدَّ له من معرفة أكثر مِن لغةٍ، أو هو بحاجة إلى معرفة أو اطِّلاع جيِّد على خصائص الكثير من اللغات؛ ليَبني تصوُّرات معقولة، ويخرج باستنتاجات هامَّة، أو ذات جدوى وفائدة.

ومن أجل أن نُحلِّل وندرس اللغة العربية الدراسة المُجدية، لا بُدَّ من دراستها في ضوء دراسة اللغات الأخرى، وفي ضوء الدرس اللسانيِّ العام، فاللغة العربية مثلها مثل غيرها، لغةٌ طبيعيَّة تقترب من لغات، وتبتعد عن أخرى، وتتفق مع الكثير من اللغات في الكثير من خصائصها المشتركة، وتختلف عن الكثير من اللغات في الكثير من الخصائص أيضًا.

ودراسة اللغة العربية في نطاق اللسانيَّات العامَّة من شأنها أن تُنير الكثير من الجوانب المعتمة في فَهْم اللغة العربية وبِنيتها من جهة، وأن تُعمِّق أو تُسهم في دراسة الجوانب النظريَّة المتعلِّقة باللغة أو باللغات بصفة عامَّة، وبذلك تُسهم في معرفة طبيعة الكلام البشريِّ واللغات الطبيعيَّة، ومعرفة المكوِّنات الذهنيَّة أو الإدراكيَّة للعقل البشريِّ.