نحو ملكة نقدية علمية راشدة
أ.د. إسماعيل علي محمد






إنه لمن نافلة القول أنَّ ديننا الحنيفَ دينُ العلمِ والتفكرِ وإعمالِ العقل، ورفضِ التقليدِ، والتعصب دون نقدٍ واستدلال، والقرآن الكريم والسنة المشرَّفة زاخران بتوجيه المسلمين إلى البحث والنظر، والتدبر في كتاب الله المسطور، وكتابه المنظور، وحثِّهم على الإتقان والإبداع في مجالات المعرفة، وميادين العلوم المختلفة.
ولقد ضرب علماؤنا أروع المثل في تطبيق هذا التوجه الإسلامي، فأبدعوا في شتى المجالات العلمية، كما كان لهم أكبرُ الحظ والنصيب في حركة النقد العلمي، مِن خلال نقد الأفكار والمذاهب والأديان، وجهودُهم في مقارنة الأديان، ونقدِ المنطق اليوناني ـ على سبيل المثال ـ أظهر مِن أن تخفى.
وإن طلاب العلم والباحثين يُنتظَر منهم أن يُسهموا في النهوض الحضاري، ومواجهةِ المشروعات المعادية لديننا وأمتنا الإسلامية، ومواكبة المستجدَّات، وحسن التعامل معها، وإيجاد الحلول للمشكلات والحوادث النازلة.
ولكي يصل طلابنا وباحثونا إلى تحقيق ذلك الذي ننتظره منهم، ينبغي ألا يكونوا مجردَ أوعية للعلم فقط، بل يجب أن يتمكَّنوا من ناصية البحث والاستنباط، والقدرة على النقد، والإبداع الفكري، والانعتاق من التقليد المجافي للنظر والاستدلال، كما ينبغي أن تتهيأ لهم الملكة النقدية الراشدة.
والواقع أننا نلحظ ضعفًا في الملكة النقدية لدى كثيرين من الباحثين وطلاب العلم، وهذا أمرٌ جدير بالبحث في أسبابه، والاهتمام بعلاجه، وهو ما أُحاول إلقاء الضوء عليه في السطور التالية:
إن من أسباب ضمور الملكة النقدية وضعفها: الوقوعَ في أَسْر السمعة والشهرة التي تُنسَجُ حول العلماء، أو الألقاب التي تُخلَع على أحدهم، مثل الإمام، أو العلامة، أو المفكر الكبير ...؛ فيقرأ الباحث أو الطالب وحاسة النقد لديه تكون مخدَّرة، بفعل تأثُّرِه بتلك الشهرة، وينطلق في القراءة مِن أن عقله دون عقل مَن يقرأ له، وفهمَه ومستوى تفكيره أقلُّ منه!
ويزيد مِن تكريس هذه الحالة مسلكُ بعض الأساتذة من المشرِفين على الباحثين والطلاب؛ حيث يقف لهم بالمرصاد إنْ أَعمَل أحدُهم عقلَه، وأتى بما يخالف ما هو مسطور في المراجع، أو استدرك على أحد العلماء، أو إحدى الهيئات العلمية، أو تناولهم بالنقد الموضوعي! والواقع أن هذا نهجٌ ينبغي إصلاحه.
ويجدر بنا أنْ نأخذَ بأيدي طلابنا وباحثينا لتكوين وتعميق ملكة نقدية علمية موضوعية راشدة لديهم.
وقد تكون البيئة الفكرية أو الاجتماعية في مكان ما أو زمان ما ضارةً ومعوِّقة لنموِّ وازدهار الملكة النقدية لدى الباحثين أو طلاب العلم، بسبب فَهْم وسلوكِ بعض المنسوبين للدعوة والعلوم الشرعية؛ حيث إن بعضهم غَرْقى في التعصب الممقوت للأشخاص أو الأفكار، حالُهم كالدراويش الذين يقدِّسون شيوخهم، ويرونهم على حقٍّ مهما صدر منهم، ولا يعرفون شيئًا عن النقد العلمي، ولم يتصوروه في واقعهم، ولا يتورعون عن ممارسة الإرهاب الفكري ضد من يقوم بواجبه في البيان والنقد، حين يصدمهم القولُ بأن شيخهم قد جانبه الصواب في كذا أو كذا، وهؤلاء قد يشكلون نوعًا من الرأي العام غير الصحي في البيئة الثقافية، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي!
من طرق العلاج:
إن تكوينَ وتعميقَ ملكةٍ نقديةٍ علميةٍ موضوعيةٍ راشدةٍ لدى الطلاب والباحثين - يمكن أنْ يتحقق مِن خلال محورين:
أحدهما: نظري، والآخر: عملي.
أما المحور النظري، فيكون بصياغة المناهج والمقررات الدراسية والعلمية على نحو يحارب نزعة التقليد الخاطئ والتعصب الممقوت، ويعمِّق روحَ البحثِ والتفكيرِ والابتكار في نفوس الباحثين، وينقِّيها مِن المفاهيم المغلوطة في هذا الشأن.
على سبيل المثال توجد مفاهيم مغلوطة في الوسط العلمي تُضعِف وتكبِّل النزوعَ نحو الابتكارِ والتفكيرِ المُبدِع، والنقْدِ البناء؛ مثل العبارة التي تَرسَّخ مدلولُها الخاطئُ لدى كثيرين مِن الأساتذة والطلاب، وهي: "ما ترَك الأَول للآخِر شيئًا"!
والواقع أنها بمنطوقها ومفهومها تَضرُّ بالعلم وأهلِه، بل الصواب - كما قال الراسخون في العلم المنصفون -: "كم تركَ الأولُ للآخِر".
ومِن حُسن الحظ أن أكثر علمائِنا المتقدِّمين لم يَقعوا فريسةً لمثل هذه العبارة وأشباهِها؛ وإلا مَا كنا قد رأيْنا هذه الثروةَ العلميةَ العظيمةَ التي أودعوها مصنَّفاتهم في سائر العلوم، وشتى فنون المعرفة.
ويرحمُ الله الإمامَ ابنَ مالكٍ النَّحْويَّ ـ صاحبَ "الألفية" في النحو ـ؛ إذْ قال:
"وإذا كانت العلومُ مِنَحًا إلهيَّة، ومَوَاهِبَ اختصاصيَّة، فغيرُ مستبعَدٍ أن يُدَّخَرَ لبعض المتأخرين ما عَسُرَ على كثيرٍ مِن المتقدمين، أعاذَنا اللهُ مِن حَسَد يَسُدُّ بابَ الإنصاف، ويَصُدُّ عن جميل الأوصاف".
وأما المحور العملي لتكوين ملكةٍ نقديةٍ علميةٍ موضوعيةٍ راشدةٍ، فيمكن أن يتحقق بعدة إجراءات؛ منها:
1- التوجيه والنصح المباشر، والتحفيز والتشجيع من قِبَل الأساتذة للطلاب والباحثين على التفكير الإبداعي، وحثُّهم على إعمال عقولهم فيما يطالعون ويَدْرسون.
أذكر أن شيخي وأستاذي العلامةَ المحدِّثَ الأستاذَ الدكتور "سيد نوح" ـ يرحمه الله ـ حدثنا أن الأستاذ "عبد البديع صقر" ـ يرحمه الله ـ كان يقول ـ ما معناه ـ: حينما تقرأ كتابًا: إنْ لم تجعل عقْلَك فوق عقل الكاتب، فلا أقل مِن أنْ تجعلَ عقلك في مرتبة مساويةٍ له، وهذا كي لا تتسلل الأفكار إلى عقلك دون تمحيص.
2- التوريث المنهجي والمهاري مِن قِبَل الأساتذة لطلابهم، فيرشدونهم إلى كيفية هذه الصنعة ودقائقها وأسرارها، مِن خلال خبرتهم ومسيرتهم العلمية، فيكتسب الطلاب والباحثون ملكةَ النقدِ العلميِّ الرشيد.
3- ومع التوجيه والتوريث لا بد مِن التدريب العملي للباحثين وتقويمهم، ومتابعتهم في هذا الشأن؛ حتى نطمئنَّ إلى اكتمال قدراتهم النقدية، وصوابية منهجيَّتهم العلمية.
4- على الطلاب والباحثين أنْ يُكثِروا مِن المطالعة في كتب العلماء المعاصرين المعروفين بالمهارة النقدية العلمية، والرؤية العقلية الإبداعية، مثل الأستاذ "أنور الجندي"، والدكتور "عبد الوهاب المسيري"، والدكتور "محمد البهي"، والأستاذ "محمود محمد شاكر"، والأستاذ الشيخ "أبي الحسن الندوي"، وغيرهم ـ يرحم الله الجميع.
إنه بقدر ما يُلحقه الجهل بنا من أضرار فادحة؛ كذلك تعطيل أو تعويق الملكة النقدية الراشدة، يُلحق بنا أضرارًا عظيمة، والله المعافي.