الحرية مسؤولية
د. عبدالله الزبير بكر


الإنسان هو محور أي عمل في الإسلام وإصلاح أحواله وزيادة شوكته وهمته، والارتقاء به وصلاحه وإنسانيته وكرامته، وعلو همته إلى أعلى وأفضل ما يمكن من مستوى - هو الشغل الشاغل لمنهج الإسلام، ومن تلك الأسس تربية الإنسان على امتلاك سيادته الذاتية، وزمام أموره، وعدم تبعيته لأي أحد على غير هدًى وبصيرة، وربَّى الإسلام داخل المسلم الإحسان لكل الناس، وعدم الإساءة لأحد حتى لو أساء له، وعدم الانقياد الأعمى لأي أحد؛ حيث قال تعالى: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 166، 167].
وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴾ [الأحزاب: 66، 67]، موضحًا التخاصم بين التابعين والمتبوعين، ولعل الفكر الإسلامي كان واضحًا في أن الحرية هي مسؤوليتك التي ترتقى بنا بعيدًا عن الانقياد الأعمى دون هدًى، والحرية هي قدرة الإنسان على فعل الشيء أو تركه بإرادته وشخصه، والحرية في الفكر الإسلامي ليست الفوضى واتباع الهوى والشهوات، دون قيد أو ضوابط شرعية، إنما هي مسؤولية الفرد عما أعطاه الله من حرية وأمانة، ومعايشته للكون والبيئة التي يعيش فيها، ومراعاته لكل البشر، وألَّا تؤدي حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العام، وتقويض أركانه، وألَّا تفوت حقوقًا أعم منها، وذلك بالنظر إلى قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها، وألَّا تؤدي حريتك إلى الإضرار بحرية الآخرين.
والإسلام ربَّى المسلم على عدة قيم تثبت ذلك؛ ومن ذلك: رفض سكوت المظلوم عن حقه المغتصب، بل اعتبر ذلك ظلمًا لنفسه، وأيضا رفض الإسلام الاعتذار الضعيف؛ حيث قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 39 - 41].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97].
وحرَّر الإسلام المسلم من الضعف والاستكانة، وجعل الرجولة الحقيقية هي الإيجابية المعترف بها للوجود الإنساني؛ بحمل الأمانة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
ومما لا شك فيه أن المسلم بإسلامه يتحرر من التبعية البغيضة، ويكافح ويربي نفسه على المسؤولية في الشدائد، ويقوِّي عزيمته وهمته لمواجهة الصعاب بشجاعة ومسؤولية ورجولة وتصميم؛ قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214].
وعن خباب بن الأرتِّ: ((شكونا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألَا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيجعل فيه فيُجاء بالمنشار، فيُوضع على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))؛ [البخاري في المناقب].
وفي كلام الحبيب تربية على التحرر من الخوف والمسؤولية، وعدم التبعية، والانقياد الأعمى بالخوف، إنما ننقاد للإسلام وأصوله التطبيقية، حتى مع اختلاف البيئات والأحوال والظروف، ويضع الإسلام المسلم في أبهى صورة وأفضل مكانة، أينما كان يعيش، وكيفما كان يعيش، والمسلم بإسلامه يكون مسؤولًا عن حريته، ومن تلك المسؤولية ألَّا يخاف؛ فالخائف مريض مختص الهمة، غافل عن كل ما حوله، فمسلم الحرية لا يخاف على حياته، ولا على رزقه؛ فقد قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 145]، وقد عبَّر عن المعنى السابق الفاروق عمر رضي الله عنه: "ألا وإنه لن يبعد من الرزق ولن يقرب من الأجل أن تقول حقًّا"، والإسلام فاز وانتشر بدافع من فهم الحقائق السابقة، فنُشرت "لا إله إلا الله محمد رسول الله" بدون الخوف على الحياة، فكانوا نبراسًا حقيقيًّا واقعيًّا، ونموذجًا تربويًّا للحرية والمسؤولية، والجهاد في سبيل الله، والموت في سبيل الله كانت أسمى أمانيهم.
والحبيب محمد صلى الله عليه وسلم كان داعيًا لأغلى سلعة؛ هي الإيمان، وصحة العقيدة، وعلو الهمة والكرامة، والحرية، وتربية الإنسانية على أن الدنيا ليست هي المحدِّدة لمقدار أرباحك عند طاعتك، فلا حدود لأرباحك في الآخرة بالنسبة لمقاييس الدنيا، فنعيمك مقيم، وفي الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
والدستور التربوي الإسلامي يضع حريتك كإنسان مسلم، ومسؤوليتك عن تلك الحرية، وعدم تبعيتك سوى لله ولرسوله، وتنفيذك لأوامر الله هي الدليل على الرجولة؛ قال تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23]، ﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ ﴾ [التوبة: 108]، ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37]، وحريتك تعطيك القدرة على حمل الرسالة، وحسن العمل على نشر "لا الله إلا الله محمد رسول الله"، وعدم الحرص والبخل والخوف، وكل ما سبق ضد الحرية والمسؤولية وفضائلهم، فديننا دين الوسط، فلا بسط فيه للصرف، ولا قبض فيه للبخل؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32]، ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67].
وكما هو شأن الإسلام دائمًا مع النزعات الفطرية للإنسان؛ حيث يبيح إشباعها، ويلبي مطالبها ضمن الحدود المعقولة، مع التهذيب والترشيد حتى تستقيم وتحقق الخير للإنسان، ولا تعود عليه بالشر، كان هذا شأنه مع نزعة حب التملك الأصلية في الإنسان؛ فقد أباح الملكية الفردية، وشرع في ذات الوقت من النظم والتدابير ما يتدارك الآثار الضارة التي قد تنجم عن طغيان هذه النزعة من فقدان للتوازن الاجتماعي، وتداول للمال بين فئة قليلة من المجتمع، ومن النظم التي وضعها لأجل ذلك نظم الزكاة والإرث والضمان الاجتماعي، ومن ثَمَّ اعتبر الإسلام المال ضرورة من ضروريات الحياة الإنسانية، وشرع من التشريعات والتوجيهات ما يشجع على اكتسابه وتحصيله، ويكفل صيانته وحفظه وتنميته.
فَلْيَنَلِ الإنسان المسلم نصيبه من الدنيا بحرية، وليدافع عن نصيبه من الدين بحرية دون الاعتداء على بني الإنسان، ودون عبادة للمال أو المنصب أو الجاه أو الخوف منهم أو عليهم؛ قال رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فبلغه غيره، فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فقه ليس بفقيه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم، ومن كانت الدنيا نيته فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غِناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة))؛ [رواه ابن حبان، وصححه الألباني].
فحقًّا وصدقًا ويقينًا: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 33، 34]، فالله هو وحده الرازق المستحق للعبادة والخوف منه سبحانه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58].
الحرية تكون حقيقة عندما يتحرر الإنسان من قيود الخوف وشهوة المال والجسد، وعندما ينطلق من سجن المادة وبطش السلطة، وأطماع الحياة، وعندما ينتصر على الأنانية المريضة، ويفك عن روحه وفكره وجسده حبائل الشيطان؛ تلك هـي الحرية.
والحمد لله رب العالمين.
----------------------
أهم المصادر:

القرآن الكريم.
تفسير ابن كثير.
صحيح البخاري.
صحيح مسلم.
سنن ابن ماجه.
مسند الإمام أحمد.
السلسلة الصحيحة للألباني.
الأخلاق في الإسلام، وزارة الأوقاف السعودية.
الأخلاق في الإسلام، الدكتور محمد عبدالقادر حاتم.
إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي.