أدلةٌ وآثار عن أئمة الإسلام في تعليم الصبيان القرآن


د. لؤي الصمادي

روى البخاري عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: «جمعتُ المُحكَم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، فقلت له: وما المحكم؟ قال: «المفصَّل»، ترجمَ الإمام البخاري لهذا الأثر في صحيحه بقوله: (بابُ تعليم الصبيان القرآن)، قال الإمام ابن كثير الشافعي: «فيه دلالةٌ على جواز تعليم القرآن في الصِّبا، وهو ظاهر، بل قد يكون مستحَبًّا أو واجبا؛ لأنَّ الصبىَّ إذا تعلَّم القرآن بلَغَ وهو يعرف ما يُصلَّى به، وحفظُه في الصِّغَرِ أولى من حفظِه كبيرًا، وأشدُّ علوقًا بخاطرِه، وأرسخُ وأثبت، كما هو المعهود في حال الناس». (فضائل القرآن ص 226).
وقال ابن المنيّر المالكيّ: «لو استشهد - أي البخاري - بمثل «غطّوا است قارئكم»، وكان طفلاً لم يلتزم ستر عورته بعد، لكان أقعد بتعليم الصبيان». المتواري (ص393)، ومقصوده بالحديث ما أخـرجه البخاري في كتاب المغازي من صحيحه، بسنده عن عمرو بن سلمة قال : «... لم يكن أحد أكثر قـرآنًا مني لما كنت أتلقّى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي : ألا تغطّون عنا است قارئكم ؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصًا فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص».
علامة خيرٍ في الأمَّة
وتحفيظ الصبيان القرآن علامة خيرٍ في الأمة، ومذهبةٌ لسخط الربّ -سبحانه-: فقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب (العيال) عن عبدالله بن عيسى قال: «لا تزال هذه الأمة بخير ما تعلم ولدانها القرآن»، وروى عن ثابت بن العجلان قال: «إن الله -عز وجل- ليريد أهل الأرض بالعذاب فإذا سمع أصوات الصبيان يتعلمون الحكمة صرفه عنهم». قال مروان بن محمد: «الحكمة: القرآن»، وروى عن مالك بن دينار، قال: «بلَغَنا أن الله -عز وجل- يقول: إني أهُمّ بعذابِ خلقي، فأنظر إلى جُلَساء القرآن، وعُمّار المساجد، ووِلدان الإسلام فيسكن غضبي».
من طريقة علمائنا وأسلافنا
وهو من طريقة علمائنا وأسلافنا التي جرى عليها عملهم، فقد ذكر النووي الشافعيّ -رحمه الله- في المجموع (1/38) أنه ينبغي للطالب «أن يبدأ من دروسه على المشايخ وفي الحفظ والتكرار والمطالعة بالأهم فالأهم، وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز؛ فهو أهم العلوم، وكان السَّلَف لا يُعلِّمون الحديث والفقهَ إلا لمن حفظَ القرآن». ومن أمثلة ذلك ما رواه الخطيب البغدادي الشافعيّ في الجامع (1/108) عن الوليد بن مسلم، قال: «كنا إذا جالسنا الأوزاعي فرأى فينا حَدَثًا (أي صبيًّا)، قال: يا غلام، قرأتَ القرآن؟ (يعني حفظته؟) فإن قال: نعم، قال: اقرأ: {يوصيكم الله في أولادكم}، وإن قال: لا، قال: اذهب، تعلَّم القرآن قبل أن تطلب العلم». وهذا الإمام الشافعي يقول: «حفظتُ القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطَّأ وانا ابن عشر سنين». (تاريخ بغداد 2/401)، ويقول: «كنتُ في حِجْر أُمّي، وأنا غلام، فدفعتني أمّي إلى الكُتّاب، ولم يكن عندها ما تُعْطِي المعَلِّم، فكان المعَلِّم قد رضي مني أنْ أخْلُفَه إذَا قام. فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء». (مناقب الشافعي للبيهقي 1/105).
شعارٌ من شعائر الدين
وقال ابن خلدون المالكيّ في مقدمته (3/220): «اعلم أن تعليم الولدان للقرآن، شعارٌ من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصلَ التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعدَه من المَلَكات؛ وسببُ ذلك: أن تعليم الصِّغر أشدُّ رسوخاً، وهو أصلٌ لما بعده، لأنَّ السابق الأول للقلوب كالأساس للمَلَكات، وعلى حَسَب الأساس وأساليبِه يكون حالُ ما ينبني عليه».
أصل من أصول الإسلام
وقال السيوطي الشافعيّ -رحمه الله-: «تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول الإسلام، فيَنشؤون على الفطرة، ويَسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة، قبل تمكن الأهواء منها، وسوادِها بأكدار المعصية والضلال». (التراتيب الإدارية للكتاني 2/198).