نظرات نقدية حول سخاء الذكريات, بين النحو والدلالة
(جولة في حادثة برنامج أمير الشعراء)

صخب وجدل كبير حول مقطوعة شارك بها شاب ليبي في سباق برنامج تجاري يسمى, (أمير الشعراء)، يقول فيها الشاب:
لأني كرهت الآنَ والآنُ ضيقٌ يحاصرني ما بعده فهو أضيقُ
ويشغلني عن لحظتي أن لحظتي سراب وما في لحظتي ما يُصدق
ويعجبني في الذكريات سخاؤُها إذا شحت الأوقات في الذهن تغدقُ
وآخيت كل الفاتنات لأنني أخاف إذا غامرت في الحب أخفقُ
ومن تهمتي كانت براءة تهمتي وقد يبرئ المرءَ القميصُ الممزقُ
سأل أحد أعضاء لجنة التحكيم الشاب عن رفع (سخاؤها)، ومزج تعبير الناقد عن هذه المسألة بين الإعراب والمعنى, فذكر في جانب الإعراب الرفع والنصب، وهو ما كان مثار جدل كبير في الأوساط العامة تبعا لشهرة البرنامج، وذكر جانب المعنى, وهو كون المتحدث هو المنفعل باعتبار صدور الإعجاب منه، فركزت الأوساط العامة على الناحية التركيبية للجملة، وأهملوا الإشارة المعنوية, من حيث كون الإنسان فاعلا مختارا وهو المتأثر بما حوله.
لا صلة لي بطرفي القضية، ولا أبرر لذي خطأ خطئه، ولا محصل لي من هذا غير موقف أثار فكرة قديمة لتصحيح مفاهيم وتعجب من ردة فعل حالفها الصواب مع مبالغة في حدتها.
ويا ليت النقاد انشغلوا بمسألة أخرى في القصيدة غير هذه فهي التي لعله يكون لي معها وقفة.
(وأعجبني في الذكريات سخاؤها)، جملة ما كان للسخاء فيها أن يكون فاعلا إلا بعد مخاض من التوليد والتحويل، مرورا بالمستويات اللغوية المعروفة, الصوتي، التصريفي، التركيبي، الدلالي, دلالة معجم ودلالة سياق، وكلها تشترك فيما عبر عنه العلماء قديما ب(توخي معاني النحو)، فالمختزل للإشكال في مستواه التركيبي وإن أصاب الإعراب جانبه شيء من الصواب، وقد تقدم ذكر سياق كلام الناقد بأن المنفعل هو المتحدث.
لذا كان لا بد من نظرة تحليلية نقدية قد يحالفها الصواب وقد يخذلها بالتأمل حول تحديد هوية سخاء الذكريات بين الإعراب النحوي وبين البعد الدلالي النقدي.
ومما هو بدهي أن انفصال المستويات اللغوية انفصال
اصطلاحي، فالمعالج للنصوص بالفهم والنقد لا يمكن أن يسبر غور النص ويتعامل معه في الواقع إلا من خلال المستويات اللغوية كلها، وإلا، فكيف تجسدت الذكريات التي هي عبارة عن صور ذهنية لموروثات من مواقف فأصبحت كائنا فاعلا مختارا يسخو، وكيف مارس السخاء الذي هو معنى مستعار تأثيره على الكائن البشري فصار السخاء هو الفاعل؟
كل هذا يقودنا لتحليل تلك العبارة.
الفعل (أعجب)، ثلاثي مزيد أصله, (عجب)، وهو فعل ثلاثي لازم يتعدى بحرف الجر من، فتقول: (عجبت من كذا)، ويتعدى بحرف الجر (اللام)، فتقول: (عجبت له)، فإذا زيدت الهمزة في أوله أكسبته التعدية بنفسه، فتقول: (أعجبني، أعجبك)،
أما من حيث الدلالة في المعجم, فالفعل الثلاثي (عجب) كما جاء في مادة (عجب) في لسان العرب: "إنكار ما يرد عليك لقلة اعتياده"، وفي اللسان أيضا: "قال الزجاج : أصل العجب في اللغة أن الإنسان إذا رأى ما ينكره ويقل مثله قال : قد عجبت من كذا"، وفيه أيضا: "ابن الأعرابي : العجب النظر إلى شيء غير مألوف ولا معتاد"، وفيه أيضا ما ننقله بنوع تصرف في اقتباسه،ونصه: "إنما يتعجب الآدمي من الشيء إذا عظم موقعه عنده ، وخفي عليه سببه".
فإن زيد بالهمزة كان على معنيين:
الأول, أكسبه عجبا، جاء في اللسان: "وأعجبه الأمر : حمله على العجب منه وأنشد ثعلب :

يا رب بيضاء على مهشمه أعجبها أكل البعير الينمه

هذه امرأة رأت الإبل تأكل فأعجبها ذلك ، أي : كسبها عجبا ، وكذلك قول ابن قيس الرقيات :

رأت في الرأس مني شي بة لست أغيبها
فقالت لي : ابن قيس ذا ! وبعض الشيء يعجبها

أي : يكسبها التعجب".
فلم يتغير معنى العجب، إلا أن الهمزة, همزة التعدية جعلت صاحب التجربة الانفعالية منفعلا مستجيبا لأثر خارج عنه, حسيا كان أو معنويا، أو معنويا مجسدا.
ولا أثر للهمزة في الإعجاب بما فيه من التعظيم للشيء سوى التعدية، ويكون الفرق بين الثلاثي المجرد والمزيد بالهمزة من حيث المعنى أن الثلاثي المجرد يكون فيه العجب ممارسة من صاحب التجربة الانفعالية والمزيد بالهمزة يكون فيه العجب استجابة لتأثير خارجي، هذا من حيث أثر زيادة المبنى في المعنى، وبعبارة أخرى، سبب تغاير موقع صاحب التجربة الانفعالية في التركيب بين الفاعلية والمفعولية هو أن صاحب التجربة الانفعالية في الثلاثي اللازم (عجب) مصدر للانفعال، وفي المزيد بالهمزة منفعل مستجيب، ، أفاد ذلك دخول همزة التعدية عليه، هذا من ناحية تركيبية بحسب معاني النحو.
أما من حيث عموم الدلالة فسواء أكان الكائن البشري ممارسا أو منفعلا مستجيبا فالمعنى سواء في أن الكائن البشري مصدر العجب، لا يختلف في حالتي, التعدي واللزوم، وهو الملحظ المعنوي الذي صرح به الناقد، ولكن خانه الإعراب كما خان الشاب الشاعر وصفه للسخاء بأنه الذي يقوم بالإعجاب، فالفارق تركيبي لا دلالي، وفاعل العجب الحقيقي
المعنى الثاني للإعجاب, تكون الهمزة فيه للإزالة، بمعنى زوال النكارة والغرابة في الأمر، وصيرورته مستحسنا مألوفا، ففي اللسان أيضا: "وأعجبه الأمر : سره ، وأعجب به كذلك على لفظ ما تقدم في العجب"، أو اكتسب هذا المعنى للسرور على التضمين، بمعنى ما يترتب من أثر تعظيمه من استدعاء الاستحسان والسرور، وقد مر قريبا من اللسان: "إنما يتعجب الآدمي من الشيء إذا عظم موقعه عنده ، وخفي عليه سببه"، فأشرب الفعل (أعجب) بما يدل عليه من تعظيم الشيء معنى والإفراح والاستحسان، فتعدى تعديتها، وذهب التفكر في خفاء السبب بأثر ذلك الفرح والاستحسان والمحبة، فأصبح الأمر معظما مستحسنا..
هذا ما يتلخص في فعل الإعجاب من حيث المبنى والمعنى.
فماذا عن الفاعلية؟
جاء في الأصول في النحو لابن السراج (1/72-73): "شرح الثالث من الأسماء المرتفعة وهو الفاعل:
الاسم الذي يرتفع بأنه فاعل هو الذي بنيته على الفعل الذي بني للفاعل. ويجعل الفعل حديثًا عنه مقدمًا قبله كان فاعلًا في الحقيقة أو لم يكن كقولك: جاء زيدٌ ومات عمروٌ, وما أشبه ذلك".
ثم شرع في بيان المقصود من التعريف إلى أن قالص73:
"وإنما قلت: كان فاعلًا في الحقيقة أو لم يكن, لأن الفعل ينقسم قسمين: فمنه حقيقي, ومنه غير حقيقي"
ثم شرع رحمه الله في تبيين الفعل الحقيقي أي ما له فاعل حقيقة يقوم به، أو يصدر منه ذلك الفعل، وشرع في بيان انقسام الفعل الحقيقي من حيث التعدي واللزوم، إلى أن وصل إلى بيان الفعل غير الحقيقي وهو عنده ثلاثة أضرب يهمنا منه الضرب الأول والثالث، فقال ابن السراج رحمه الله ص74:
"القسم الثاني: من القسمة الأولى: وهو الفعل الذي هو غير فعل حقيقي, فهو على ثلاثة أضرب, فالضرب الأول: أفعال مستعارة للاختصار وفيها بيان أن فاعليها في الحقيقة مفعولون نحو: مات زيدٌ, وسقط الحائط, ومرض بكر".
ثم ذكر كان وأخواتها وأنها ليست أفعالا حقيقية لدلالتها على الزمن فقط، وليس هذا من غرض المقال إلى أن قال:
"الضرب الثالث: أفعال منقولة يراد بها غير الفاعل الذي جعلت له نحو قولك: لا أرينك ههنا, فالنهي إنما هو للمتكلم كأنه ينهي نفسه في اللفظ وهو للمخاطب في المعنى. وتأويله: لا تكونن ههنا فإن "من" حضرني رأيته ومثله قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} لم ينههم عن الموت في وقت لأن ذلك ليس المهم تقديمه وتأخيره ولكن معناه: كونوا على الإسلام. فإن الموت لا بد منه, فمتى صادفكم صادفكم عليه, وهذا تفسير أبي العباس رحمه الله.
فكلمة (الرجل) في جملة, (مات الرجل) فاعل نحوا وإعرابا، مفعول به في المعنى، أي, ليس هو الفاعل في الحقيقة، وإنما هو منفعل للموت، كما أن الشاعر في قصيدته منفعل بالعجب لسخاء الذكريات، والضمير الكاف في قول القائل: (لا أريدك ههنا)، مفعول به في النحو، فاعل في المعنى، إذ هو المنهي المراد منه القيام بترك المكان، وعدم وجوده فيه، وسياق الكلام في الجملة سياق نفي يراد به النهي.والخلاصة التي نستفيدها من النص أنه لا تلازم بين أن يكون الفاعل في التركيب النحوي للجمل فاعلا في المعنى، فقد يتفقان، وقد يختلفان كما سبق نقله، وقد حاول النحاة الموائمة فقالوا كما هو منقول في كتاب (معاني النحو)، لد. فاضل صالح السامرائي]، << < ج2 ص: ٤٤-45> >>:
"الفاعل لغة من أوجد الفعل، واصطلاحا ما أسند إليه عامل مقدم عليه على جهة وقوعه منه أو قيامه به.

فالعامل يشمل الفعل، نحو قام زيد، وما ضمن معناه، كالمصدر واسم الفاعل، والصفة المشبهة، وأمثلة المبالغة، واسم الفعل، والظرف، والمجرور.

وقولهم على جهة وقوعه منه، نحو ضرب زيد، وقيامه به كلمات زيد (٢).

وجاء في (شرح الأشموني): " الفاعل في عرف النحاة هو الاسم الذي أسند إليه فعل تام، أصلي الصيغة، أو مؤول به"، فالفاعل في عرف النحاة ليس مختصا بمن أوجد الفعل، بل قد يكون ذلك وقد يكون من كان الفعل حديثا عنه، سواء قام بالفعل أم لم يقم، نحو (مات زيد) وانكسر القلم، ووعر الطريق".
ولمزيد بيان، فإن أبنية الأفعال التي تدل على الاشتراك في الفعل بين شخصين فأكثر يستأثر بمصطلح الفاعلية في الإعراب منهم الأول، بينما في الدلالة هم مشتركون في الفاعلية، ففي نحو, (اختصم زيد وعمرو)، الفاعل في النحو (زيد)، و(عمرو) ومن يقدر له أن يشترك في الفعل بعده معه مهما كثروا فلن يحظوا في الإعراب إلا بكونهم من التوابع، بينما في حقيقة المعنى أنهم مشتركون في الفاعلية، بدليل أن كثيرا ممن يتحدثون عن اختصامهما لا يدري من كان الأول في الخصومة البادئ في الفاعلية، ونظيره ما كان من أبنية المطاوعة, كقولنا, (انكسر الزجاج(، فالزجاج فاعل نحوا مفعول به في المعنى.
وإذا ما تقرر هذا فنعود لقول الشاب الشاعر, (وأعجبني في الذكريات سخاؤها)، أين الفاعل فيها؟
لا شك أن السخاء من حيث التركيب النحوي هو الفاعل، ولا يحتمل إلا الرفع، لكن هذه الفاعلية فاعلية على معنى الاستعارة ما كان السخاء ليكتسبها إلا بعد مراحل من التوليد.
القصيدة أو المقطوعة الشعرية تصف مجموعة من الانفعالات في تجربة شعورية صدقها من عدمه في بطن الشاعر كما يقولون, (المعنى في بطن الشاعر)، ضيق، خوف، إعجاب، تحير وانشغال، كراهية، فالقاسم المشترك بين أبيات المقطوعة كون صاحب التجربة الشعورية منفعلا يخضع لتأثيرات انفعالية.
اتفقت الفاعلية في المقطوعة الشعرية بين النحو والدلالة، في الفعلين, كرهت، وأخاف، فصرح الشاب الشاعر أنه مصدر الخوف والكراهية، فكان فاعلا منفعلا، بينما صرح الفعلان, يشغلني، أعجبني، بأن صاحب التجربة الشعورية منفعل كأنه مرآة عاكسة تعكس أثر ضوء خارج عنها، فتبدو المرآة مضيئة، لكنها ليست مبعث الإضاءة، وكذلك صاحب التجربة الشعورية في المقطوعة، فعلى الرغم من أنه مصدر كل الانفعالات في تجربته هذه (فاعل)، إلا أنه أنشأ كلامه على أن يكون متأثرا مستجيبا لا أنه منبع الانفعال، ساعده في ذلك موقع المفعولية في الفعلين, يشغلني، أعجبني، والحقيقة أنه مصدر الانفعالين للفعلين, العجب والانشغال، وعلى هذا فلا يعدم الناقد صوابا في كون صاحب التجربة الشعورية في المقطوعة هو الذي كان منه التجربة الانفعالية بالسرور والإعجاب، وكون صاحب التجربة منشأ الانفعالات ومصدرها يجعله هو الفاعل في الحقيقة، لكن سوق الكلام لم يكن على إرادة الفاعلية الحقيقية، وإنما كان لبيان الاستجابة لا الممارسة الإعجابية، فناسب كون مصدر الانفعالات منفعلا مستجيبا على المفعولية، أفاد ذلك في الفعل (أعجب) معنى التعدية المستفاد من الهمزة والتضمين على ما سلف ذكره.
وهل كان منفعلا للذكريات، أو لسخائها؟ هذا ما كان ليتأتى إلا على سبيل التجسيم للمعاني، وذلك بتشخيص الذكريات وإبرازها إلى عالم الحس في صورة من له اختيار وإرادة حتى أنه يكون منه السخاء، بحيث يكون الكلام, (أعجبتني شخصية الذكريات بسخائها)، فالفاعل في الحقيقة ليس السخاء وإنما تجسيم الذكريات وتشخيصه، لذا استعمل الشاب الشاعر أسلوب الالتفات في آخر البيت, (في الذهن تغدقُ)، وسوق الكلام يسعفه أن يقول, (يغدقُ)، بدل, (تغدقُ)، بحيث تستوي الفاعلية في جمل البيت بشطريه، وهذا يدل على أن الفاعلية في صياغتها في هذا البيت مرت بثلث مراحل:
الأولى, الفاعل فيها كان صاحب التجربة الشعورية، بحيث كان فاعل الاستحسان والإعجاب ومصدره, (استحسنت مجال الذكريات الواسع).
الثانية, تشخيص الذكريات بنقلها من عالم المعقول إلى عالم الحس بالتجسيد والتشخيص, (أعجبتني شخصية الذكريات بسخائها).
الثالثة, الفاعلية على معنى الاستعارة، بحيث كان يمكن سوق الكلام على البدلية, (أعجبتني شخصية الذكريات سخاؤها)، فيجري الفاعل على الأصل في المرحلة التي سبقته، ويكون التركيز على السمة سبب الإعجاب عن طريق بدلية الاشتمال، لكنه أمر لا يسعفه الوزن، إضافة إلى ضياع الذوق الجمالي للاستعارة، فجعل السخاء فاعلا مسبوقا بظرفية حرف الجر (في) التي تنم عن براح تأملي مع الاستجابة الانفعالية المستفادة من صوغ الفعل (أعجبني) وارتباطه بياء المتكلم التي هي مفعول به نحوا، فاعل في الدلالة، هو الذي يعطي هذا التركيب قيمته الجمالية، وهو الذي سوغ كون السخاء فاعلا، وليس في حقيقة الأمر هو الفاعل.
يصعب على من لم يمارس العربية بمستوياتها اللغوية المختلفة أن يستوعب هذه التفاصيل وإن كان يمارسها ويتذوق التعبيرات المختلفة بشكل تلقائي وإن لم يدرك تفاصيلها، وتفاصيل تولدها وتشكلها في المراحل المختلفة، ، ولذا اشتد النكير على الناقد، مع أن لكلامه وجها من حيث الدلالة، وجميع ردود الأفعال تركزت حول المستوى التركيبي دون غيره، ولو سألتهم: هل السخاء صفة توصف بها الذكريات؟ هل يقع من الذكريات سخاء لتكون فاعلا؟ وهل الذكريات شخوص بحيث تكون لها القدرة على الفاعلية, القيام بالأفعال؟ فستكون الإجابات تقليدية؟ بدون أن يعبر لك بالمصطلحات العلمية, استعارة، تضمين، تعدية، وما أشبهها، والمتذوقون للشعر يعرفون أن الإنسان هو مصدر انفعالاته والمستجيب لها، فلا يشكون أن مصدر الإعجاب هو صاحب التجربة الشعورية، وأن المقصود هنا وصف صاحب التجربة الشعورية نفسه بالتأثر لا نفي كونه مصدر انفعال الإعجاب.
خلاصة القول: أن السخاء فاعل نحوا، وليس هو فاعلا حقيقيا من حيث الدلالة، اكتسب موقع الفاعلية بعد مراحل من التوليد والتحويل، والمفعول به هنا، وهو صاحب التجربة الشعورية هو الفاعل من حيث الدلالة.
على أنه لا ينبغي إنهاء الأسطر الممجوجة هذه إلا بعد التنبيه على أمر مهم، ركز النقاد على جملة, (وأعجبني في الذكريات سخاؤها)، وهناك ما كان ينبغي أن يعار اهتماما غير هذه الجملة، وهو قول الشاب الشاعر: (لأني كرهت الآنَ والآنُ ضيق)، هل يمكن لظرف الزمان (الآن) أن يكون مفعولا به وقع عليه فعل الكراهية من صاحب التجربة الشعورية؟
وقد اختلف أهل اللغة في أصل الآن, هل هو واوي, (أون)، أو يائي, (أين)، فصاحب اللسان ذكره في مادة (أين)، فقال: " أين : آن الشيء أينا : حان ، لغة في أنى ، وليس بمقلوب عنه لوجود المصدر قال:
ألما يئن لي أن تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى ؟ بلى قد أنى ليا
فجاء باللغتين جميعا".
ثم قال صاحب اللسان: " وقالوا : الآن فجعلوه اسما لزمان الحال ، ثم وصفوا للتوسع فقالوا : أنا الآن أفعل كذا وكذا".
ثم فصل القول في لزوم الألف واللام لهذه الكلمة، ونقل فيها كلام ابن جني ثم قال: " قال سيبويه : وقالوا الآن آنك كذا قرأناه في كتاب سيبويه بنصب الآن ورفع آنك ، وكذا الآن حد الزمانين ، هكذا قرأناه أيضا بالنصب".
ثم نقل صاحب اللسان فقال: " وقال الخليل : الآن مبني على الفتح ، تقول نحن من الآن نصير إليك ، فتفتح الآن لأن الألف واللام إنما يدخلان لعهد ، والآن لم تعهده قبل هذا الوقت ، فدخلت الألف واللام للإشارة إلى الوقت ، والمعنى نحن من هذا الوقت نفعل ؛ فلما تضمنت معنى هذا وجب أن تكون موقوفة ، ففتحت لالتقاء الساكنين . وهما الألف والنون".
" وقال أبو عمرو : أتيته آئنة بعد آئنة بمعنى آونة . الجوهري : الآن اسم للوقت الذي أنت فيه ، وهو ظرف غير متمكن ، وقع معرفة ولم تدخل عليه الألف واللام للتعريف ، لأنه ليس له ما يشركه".
إلى أن قال: " وأصل الآن إنما كان أوان ، فحذفت منها الألف وغيرت واوها إلى الألف كما قالوا في الراح الرياح".
فلفظة الآن مفعول فيه, ظرف زمان، لا مفعول به، وأصله, (أون)، أو (أين)، والألف واللام لازمتان فيه
وللظروف تقسمان, من حيث الإبهام والاختصاص، ومن حيث التصرف وعدمه، وهو مقصد هذه الأسطر.
جاء في كتاب (شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو"، لزين الدين الأزهري المصري الوقاد ف 905هـ)، (1/526):
" "فصل":
"الظرف" الزماني والمكاني "نوعان:
متصرف وهو ما يفارق الظرفية إلى حالة لا تشبهها، كأن يستعمل مبتدأ، أو خبرًا، أو فاعلًا، أو مفعولًا" به، "أو مضافًا إليه، كـ: اليوم" فإنه يستعمل مبتدأ وخبرًا، "تقول: اليوم يوم مبارك" برفعهما1، وفاعلا تقول: "أعجبني اليوم، و" مفعولًا، به تقول: "أحببت يوم قدومك"، ومضافًا إليه تقول: "سرت نصف اليوم".
إلى أن قال" "وغير متصرف وهو نوعان:
ما لا يفارق الظرفية أصلًا كـ: قط" في استغراق الماضي، "و: عوض" في استغراق المستقبل لا يستعملان إلا بعد نفي. "تقول: ما فعلته قط، و: لا أفعله عوض".
إلى أن قال:
" والنوع الثاني "ما لا يخرج عنها" أي: الظرفية "إلا بعد دخول الجار عليه"، وهو "من" خاصة".
وقد بين على أن النوع الثاني يبقى في الظرفية ولو دخلت عليه من الجارة فقال ص527:
" "إذ لم يخرجن عن الظرفية إلا إلى حالة شبيهة بها" أي: الظرفية "لأن الظرف والجار والمجرور أخوان" في التوسع فيهما، والتعلق بالاستقرار إذا وقعا صفة، أو صلة، أو خبرًا، أو حالًا".
وقد مر أعلاه أن (الآن) لا تتغير ولو دخل عليها حرف الجر من، ولم يدخلها الرفع إلا في مثال سيباويه, (الآن آنك)، بنصب الآن ورفع آن المضافة، بمعنى, الوقت موات لك في التو واللحظة إن أردت أن تفعل.
والمحافظة على بناء لفظة الآن في عبارة سيبويه على تقدير متعلق هو كائن أو ثابت أو حاصل أو مستقر، وأصل الكلام, (وقتك كائن الآن لما تريد أن تفعله)، حينها لا تكون لفظة الآن في هذا المثال مع نصبها إلا مفعولا فيه ملازما للتحلية بأل.
وقد قسم سيباويه رحمه الله الكلام المركب إلى ستة أقسام فقال في الكتاب (1/25-26):
" هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة
فمنه مستقيم حسنٌ، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب.
فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتُك أمْسِ وسآتيك غداً، وسآتيك أمس.
بطاقة الكتاب || إخفاء التشكيل
وأما المستقيم الكذب فقولك: حَمَلتُ الجبلَ، وشربت ماء البحر " ونحوه.
وأما المستقيم القبيح فأنْ تضع اللفظ في غير موضعه، نحو قولك: قد زيداً رأيت، وكي زيداً يأتيك، وأشباه هذا.
وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمسٍ".
وإذا ما تقرر هذا ففي أي نوع يمكن إدراج قول الشاب الشاعر: (لأني كرهت الآن، والآن ضيق)؟ وبعبارة أخرى, هل لفظة الآن المحلاة بأل تعني جنس الوقت فتدخل في لفظة (آن) المتصرفة التي جاءت مرفوعة في عبارة سيبويه ، فيجوز عندها تحليتها بأل وإضافتها؟ أم تعني الوقت الحاضر فلا تكون إلا منصوبة محلاة بالألف واللام لزوما وتعني الحاضر؟
لو كانت الأولى، فسيكون الكلام, (كرهت الوقت، والوقت ضيق)، وسيتعارض مع ما بعده, (يحاصرني ما بعده، فهو أضيق)، وليس بعد الوقت إلا الوقت الذي هو داخل في جنس الوقت، فسيكون من قسم المحال.
وإذا كان الثاني، يكون الكلام,(كراهيتي للحاضر تجعل المستقبل بالنسبة لي أضيق)، وذكر المحاصرة على سبيل تجسيد المعاني كما سبق، وهذا هو المعنى المتبادر من بيت الشاب الشاعر، فيكون مضمون البيت, (لأني كرهت الحاضر، والحاضر ضيق، يحاصرني ما بعده وهو المستقبل فهو أضيق).
ولكن، على قواعد النحويين المبنية على استعمالات العرب لا يمكن التصرف في لفظة (الآن) بمعنى التو واللحظة، بحيث تجعل مفعولا به ومبتدأ, فبناؤها على لزوم التحلية بالألف واللام ولزوم النصب ولو دخل عليها حرف الجر من، لا يمكنها إلا أن تكون على المفعولية فيه، أي الظرفية، ترى، بماذا سيجيب من نصره النحو بفاعلية سخاء الذكريات؟ وكيف فاتته هو والناقد هذه الملحوظة؟
إن المتدرج في سلك التعلم الأكاديمي في الأدب والبلاغة والنقد لا بد أن تقابله في دراسة بداية كل عصر أدبي إشارة دارسي العصر تبعا لنظرية التطور الأدبي والنقدي للجديد في توليد المعاني من شعراء ذلك العصر، ابتداء من عصر الإسلام إلى عصرنا الحاضر، وتبعا لهذا التجديد في توليد المعاني تتباين معايير الشاعرية في كل عصر، وكلما أوغل الشاعر في براح التعبيرات وتفنن في توليد المعاني عن طريق تجسيدالمعاني وجمال الاستعارات كان الحكم عليه بالشاعرية، إلى أن وصل الحال في بعض أشعارنا المعاصرة إلى رمزية مقيتة قسمت جمهور المتذوقين للشعر إلى قسمين, قسم يستمع إلى القصائد ذات الرمزية المقيتة على أنها كلمات متقاطعة يحتاج إلى حلحلة رموزها في صفوف الأعمدة الأفقية والرأسية, ليدخل في شبكة ما أسهل أن ترجعه نفرته منها للأشعار الشعبية سهلة المأخذ لما فيها من عذوبة ألفاظ ومعاني تتسلل للنفوس بانسيابية، وقسم آخر يتعالى على القسم الأول بوصفه بقصور الفهم، وضيق المخيلة، وضعف الإدراك، وأفراده عادة يكونون من الشعراء الذين أدمنوا هذا النوع من الشعر، والنقاد الذين يعجبهم هذا النوع من الشعر، ولن تخطئ إن قلت إن أفراد هذا القسم الواحد قد تختلف قراءاتهم للنص الواحد من هذا النوع، وقد تجد في تحميلهم للمعاني في هذا النص نوع تعسف أو قصور.
ومع أنني لست متتبعا جيدا لهذا البرنامج ولا لغيره من البرامج في القنوات، إلا أن شيئا مما عرض لي من المعارك الكلامية بين لجنة التحكيم وبين المتقدمين تفصح عن هذا، فتصف اللجنة بعض النصوص بأنها مجرد هراء، على حين يدافع المتقدم ودعواه عليه أن هذا كان على سبيل المجاز، وقد أجازه نقاد آخرون.
لقد كان الشعراء فيما سبق من العصور يولدون المعاني مع محافظتهم على الدلالات والتراكيب العربية، ومن العصر الذي نقلت فيه بواكير النقد في الأدب العربي بما في ذلك قصة حسان رضي الله مع النابغة وغيرها كان النقد لا يتجاوز الأسلوبية العربية، كان لحسان رضي الله عنه وجوه من الرد، ولكنها على الأسلوبية العربية:
" وبعض ذي بكثرة وضعا يفي كأرجل والعكس جاء كالصفي].
"
يعني قد يأتي ويراد به جموع الكثرة.
ولعل الارتباك لم يسعف حسان رضي الله عنه في الجواب عن هذا وغيره على الأسلوبية العربية، ولو قدر لأحد نقادنا أن يتخطى الزمن فيدخل في مساجلة نقدية مع النابغة، لسمعنا عجبا.
إن الرمزية المعاصرة تجاوزت بكثير الاستعارات المؤسسة على التشبيه بأنواعها، والمجاز في اللغة على اختلاف علاقاته ومعولها في ذلك التأويل بأدنى ملابسة.
لقد طرق سمعي ذلك المتقدم في البرنامج الذي قال في قصيدته التفعيلية, (يا صمت يا ابن الأنبياء)، فبادره أحد أعضاء اللجنة متسائلا عن علاقة الصمت بالإنبياء)، وحدثت عن قصيدته في غير هذا البرنامج التي يحتاج فيها لعين تحك جسده النزق، وقرأت عن الشاعر الذي تضاربت أحكام المحاكم في الحكم عليه بين الكفر والإيمان، تبعا لآراء من استعانت بهم المحكمة تضاربت الأحكام حول قصيدته تلك التي زعم الشاعر فيها أن يوسف عليه السلام ليس مقصودا به شخص النبي، وإنما هو رمز للادعاءات اليهودية في القصة، فمنمن استعانت بهم المحكمة من قدر أن الرمزية تسعفه، ومنهم من أخذ بظاهر لفظ القصيدة وفيه تعد صريح على المعتقدات.
كثيرا ما تأول النقاد أمثال هذه القصائد التي تصدم القداسة الدينية تحت ذريعة قداسة الشعر واختلاف لغته، ومع الأسف قل أصحاب النظرة الأخلاقية في النقد الأدبي، فلا حدود للرمزية التي يعطيها مناخ البوح المجال الأرحب، فيباح للشاعر تحت راية الرمزية أي تعبير، لا قيود، وإذا كانت المقدسات والمعتقدات لم تعفَ، فكيف بالأسلوبية العربية.
هون عليك أيها القارئ، فليس هذا استطرادا، فالشاب الشاعر تخطت رمزيته قوانين النحو التي نصرته في معركته مع الناقد، وجسد إجازة اللجنة للنص إقراره على هذا، فكان المفعول فيه مفعولا به، ومبتدأ، وما أسهل أن يوجد له المبرر في طريقة نقدنا المعاصرة، ولربما لم يخطر هذا بباله الشاب الشاعر، كما لم يخطر ببال النقاد من اللجنة، ولو تنبهوا له ما أسهل أن يجدوا له المخارج التي من أقربها مأخذا كون النظم لا يساعد، ويا ليت شعري، لو عاصر النابغة ومن بعده من النقاد كثيرا من أشعارنا التي سادتها الرمزية المقيتة التي جعلت الشعر يتخطى كل الحجب والقيود بما في ذلك الأسلوبية العربية ماذا كانوا سيقولون؟، بينما الشعر التقليدي عند نقادنا يأنفون حتى من تسميته الأصيلة، فنقلوها إلى تسميته بالكلاسيكية، انسجاما مع الرمزية المستوردة.
فلا ييأس الشاعر من شاعريته في عصرنا, فلكل نمط شعري جمهوره، فالذي يسمونه كلاسيكيا بما فيه من تشبيهات أو استعارات قريبة ما يزال له جمهوره، لكن الشاعر قد يصدم لأنه ألقى قصيدته في جمهور غير جمهوره الأصليين، وما قد يعاب من التقرير أو الخطابية له غرضه اللائق به وإن عابه من عابه بالبعد عن تلك الرمزية، كل ما سبق إيراده من معايير عصرنا يعكس بجهة أو أخرى الفوضى النقدية في عصرنا ، ويعكس نفور الناس من الشعر الفصيح، والله أعلم.