صندوق النقد الدولي.. في ظاهـره الحل وفي بَاطِنه الأزمات


. أحمد مصطفى الغر




على الرغم من زعم صندوق النقد الدولي أن الحد من الفقر هو أحد أهم أهدافه التي يسعى لتحقيقها، إلا أن واقع الحال يُظهر أن البلدان التي اقترضت منه قد عانت من معدلات فقر أعلى وتدهورت أوضاعها الاقتصادية بصورة أسوأ مما كانت عليه قبل اللجوء إلى الاقتراض منه، فترتيبات وشروط قروض صندوق النقد الدولي عادةً ما تحتوي على ما يُطلق عليها "إصلاحات هيكلية" لاقتصاد الدولة المقترضة، لكن هذه الإصلاحات سرعان ما تسهم في محاصرة الشعوب في دائرة الفقر، إذ تتضمن تغييرات عميقة وشاملة تؤدي إلى زيادة البطالة وانخفاض الإيرادات الحكومية وزيادة تكاليف الخدمات الأساسية، إلى جانب إعادة هيكلة تحصيل الضرائب والمعاشات وبرامج الضمان الاجتماعي، وفي الوقت الذي يواجه فيه العالم أسوأ أزماته الاقتصادية منذ عقود، أصبحت الحاجة إلى مُقرِض عالمي هو الملاذ الأخير أمام الدول التي تبحث عن الحلول السهلة، هنا تتجه بوصلتها على الفور صوب صندوق النقد الدولي، فهل حقًا هو المنقذ الاقتصادي لها أم أنه مستعمر جديد يُزيد فقر الدول وينخر اقتصادها قبل أن يسقطها؟!
قــروض وشــروط
تأسس صندوق النقد الدولي في مؤتمر بريتون وودز في يوليو عام 1944م كمنظمة مالية دولية تعمل داخل نطاق عمل منظمة الأمم المتحدة، كان الهدف هو إنشاء نظام نقدي دولي يعمل على استقرار العملات ويسهل العودة إلى تجارة أكثر حرية، وكان دور الصندوق في هذا النظام هو مساعدة الدول الأعضاء التي تعاني من مشاكل قصيرة الأجل في ميزان المدفوعات، بينما يقدم البنك الدولي قروضًا طويلة الأجل لإعادة الإعمار والتنمية، يضم الصندوق اليوم 190 دولة عضو، ويديره مجلس ممثل من جميع الدول الأعضاء، من المفترض أنه يقدم قروضًا مالية للبلدان التي تعاني من انخفاض كبير في قيمة عملتها الوطنية، أو في حالة عجز ميزان المدفوعات، أي عندما تتجاوز تدفقات رأس المال الخارجة مثل الواردات تدفقاتها الوافدة مثل الصادرات أو الاستثمارات، عادةً ما تكون قروض الصندوق غير مكلفة مقارنة بالأموال التي يمكن جمعها من الأسواق من خلال بيع السندات الحكومية على سبيل المثال، كان من المفترض أن الصندوق سيساعد أعضائه على مواجهة عدم الاستقرار المالي دون إرغامهم على اتباع سياسات مؤلمة، لكن الصندوق سرعان ما انحرف عن هذا المعيار وبدأ بوضع شروط صعبة يعتبرها إصلاحات لتمكين البلدان من التطور بشكل مطرد وتجنب المشكلات الاقتصادية في المستقبل.
ظاهريًا يهدف الصندوق إلى الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والتغلب على الفقر في العالم النامي، مُظهِرًا نفسه على أنه مصدر الدعم المالي الميسّر أمام الدول التي بحاجة إلى التمويل والمسؤول عن إعطاء الجدارة الائتمانية للدول وفقًا لبياناته، لكن بعد انهيار نظام بريتون وودز في أوائل السبعينيات، تحديدًا بعدما أزال الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون ربط الدولار بالذهب، بدا أن الصندوق عاطل عن العمل، إلا أن أزمات الديون ونقص رأس المال منذ فترة الثمانينيات في بعض الدول قد أدت إلى زيادة الطلب على خدمات الصندوق مجددًا واضطرت تلك الدول إلى الاستجابة لشروطه، وبدلًا من أن تنجح تلك القروض في تحسين النمو الاقتصادي ومعايير الدخل وتعزيز الفوائد الاقتصادية لها، تسببت في تقليل معدلات النمو وتأخير التعافي الاقتصادي، إن لم تكن قد جعلته مستحيلًا.
في مقابل مساعدته، يصرّ صندوق النقد الدولي عادة على أن تفعل الحكومات ما يراه سبيلًا للخروج من أزمتها، مثل: خفض الإنفاق العام، ورفع الضرائب، والخصخصة، وتنفيذ الإصلاحات المصممة لخفض نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وخفض الدعم للوقود والغذاء، وإلى جانب كل ذلك فإن الانصياع لمطالب مؤسسة دولية تهيمن عليها الحكومات الأجنبية يعدّ مهينًا وسماحًا بالتدخل في الشؤون الوطنية الحساسة، وعندما انهار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات، اضطلع الصندوق بأكثر مهامه طموحًا، حيث أشرف على انتقال الجمهوريات السوفيتية السابقة إلى الرأسمالية، وخلال هذه العملية أصبح الصندوق هو أقوى مؤسسة دولية مؤثرة في العالم.
الأزمة المالية الآسيوية
مع وصول صندوق النقد الدولي إلى ذروة نفوذه في التسعينيات، إنها الأزمة المالية الآسيوية والتي أدت إلى إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي على مدى السنوات الـ 25 اللاحقة، وقد أثار تعامل الصندوق معها ردة فعل عالمية عنيفة لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، فقد بدأت الأزمة في صيف عام 1997م، عندما أثار انهيار عملة البات التايلندي حالة من الذعر المالي سرعان ما انتشرت بسرعة في جميع أنحاء المنطقة، ومع تزعزع العملات هناك واحدة تلو الأخرى ، أصبح الذعر مستدامًا وحدثت فوضى اقتصادية من إندونيسيا إلى كوريا الجنوبية ووصل مداها إلى دول بعيدة مثل روسيا والبرازيل، حينها تدخل صندوق النقد الدولي بسرعة لتقديم قروض إنقاذ للدول الأكثر تضررًا، كانت تايلاند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية في مقدمة المقترضين، وتضمنت شروط قروضهم مطالب دائمة بالتقشف إلى جانب سياسات نقدية أكثر صرامة على الرغم من أن أيا من هذه الحكومات لم يكن لديها عجز كبير يستدعي ذلك، ولم تشهد الكثير من التضخم في اقتصاداتها في الفترة التي سبقت الأزمة.
أصر الصندوق أيضًا على قائمة طويلة من الإصلاحات المصممة لتحرير اقتصادات تلك الدول، هذه الحماسة الإصلاحية جعلت صندوق النقد الدولي لا يحظى بشعبية في معظم أنحاء آسيا، بدأ الغضب الشعبي من مطالب رفع القيود المفروضة على الملكية الأجنبية للشركات المحلية، حيث اندفعت الشركات الأمريكية والأوروبية لشراء المؤسسات المالية في تايلاند وكوريا الجنوبية بتخفيضات كبيرة، شجب الكثيرون صندوق النقد الدولي باعتباره مستعمرًا جديدًا يريد إرغام شرق آسيا على الخضوع، وقد اعترف لاحقا راغورام راجان، كبير الاقتصاديين في الصندوق، بأن تعامل المؤسسة مع الأزمة جعلها عرضة لاتهامات بالاستعمار المالي، هذا بخلاف ما تسببت فيه تدابير التقشف مثل خفض الدعم من أزمات معيشية حادة وأزمة بطالة واضطرابات سياسية متزايدة، وبالنسبة للعديد من الدول فقد كانت الأزمة الآسيوية بمثابة جرس إنذار وتحذير خلاصته أن تجنب أي أزمة مالية في المستقبل يستلزم تجنب استدعاء أي مؤسسات مالية دولية قد تتدخل في شؤونهم الداخلية.
إفـلاس سريلانـكا
التجارب المريرة على الاقتراض من صندوق النقد الدولي عديدة، لعل أبرزها تجربتي سريلانكا والأرجنتين الحديثتين، فاستسهال الاستدانة من الصندوق مع إهمال الإصلاحات البنيوية دائما ما تكون نتائجه مدمرة، وهذا ما حدث مع سريلانكا التي كانت تعاني من ضائقة ديون خارجية بسبب اقتراضها المكثف منذ الأزمة المالية العالمية في 2008م، وسرعان ما عانت مجددًا بعد الهجمات الإرهابية التي وقعت في عام 2019م ثم الظروف الصعبة بسبب وباء كورونا المستجد حيث ارتفعت تكاليف الصحة العامة والرعاية الاجتماعية إلى جانب انهيار السياحة وإغلاق معظم الأنشطة الاقتصادية نتيجة تعطل سلاسل التوريد العالمية ونقص العديد من السلع، ثم تضاعفت المعاناة بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا وارتفاع الأسعار وانخفاض عائدات الضرائب، حينها تراكمت الأسباب التي تدفع سريلانكا نحو الإفلاس بعدما أصبحت غير قادرة على تسديد قروضها فضلًا عن تسديد الفوائد، وأصبحت الدولة عاجزة عن استيراد احتياجاتها الأساسية من الوقود والغذاء، وتفاقمت الأزمة بسبب الفساد السياسي وسوء الإدارة، وصاحبت الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة في سريلانكا أزمة إنسانية خطرة أوقعت أكثر من نصف مليون مواطن تحت خط الفقر منذ بدء جائحة كورونا.

فالدول النامية حين تصيبها أزمات اقتصادية يصبح أول ما يخطر ببالها هو طلب مساعدة الصندوق، لكن على العكس من ذلك قرر مهاتير رفض تنفيذ برنامج خاص تبين لاحقًا أنه كفل لماليزيا أن تكون أولى الدول الآسيوية التي تعافت من الأزمة.
في وضعٍ بائس كهذا، استيقظ العالم فجأة على مشهد فرار الرئيس السريلانكي غوتابايا راجابكسا من مقر الحكم في العاصمة كولومبو، بالتزامن مع اقتحام المتظاهرين للمجمع الرئاسي، وللخروج من أزمتها حاولت الحكومة السريلانكية الاعتماد على مساعدات من دول صديقة، لكنها لن تفِ بالغرض، فلجأت إلى الحل الأسهل وهو الاعتماد على صندوق النقد الدولي حيث توصلت معه إلى خطة إنقاذ عاجلة، لكن الأخير طلب إصلاحات هيكلية تقوم بشكل رئيسي على خفض الدعم وزيادة الضرائب بصورة كبيرة، من المؤسف أن سريلانكا المفلسة لم تتعلم من درسها السابق حين اعتمدت طوال الأعوام الماضية في نموها الاقتصادي على الديون والسياسات المالية الشعبوية، لقد لجأت إلى الاستدانة من الصندوق لتتابع مجددًا فصول أزمتها وتزيد من اتساع حلقاتها، كالمستجير من الرمضاء بالنار.
تجربة الأرجنتين المريرة
في عام 1976م، أراد قائد الانقلاب العسكري في الأرجنتين "خورخي فيديلا" ترسيخ حكمه في البلاد لذا كان بحاجة إلى تنفيذ برنامج اقتصادي يحفظ بلاده من الانهيار، لجأ ـ كالعادة ـ إلى الوصفة السهلة وهي الاقتراض من صندوق النقد الدولي، انصاع فيديلا لتعليمات الصندوق فقام بتخفيض الأجور وتحرير الاقتصاد وخصخصة الشركات الحكومية وبيعها بأبخس الأسعار إلى جانب القطاع المصرفي الذي بيع بالكامل، وقام فيديلا برفع معدلات الفائدة بغرض جذب المستثمرين الأجانب، وقام بزيادة قيمة الضرائب بصورة مجحفة وخفض الإنفاق الحكومي على الرعاية الاجتماعية، سرعان ما تحول الكثير من جنرالات الجيش إلى رجال أعمال بعدما تم إلغاء كافة اللوائح التنظيمية التي تحمي القطاعين التجاري والزراعي.
دخل الاقتصاد الأرجنتيني في نفق سياسات صندوق النقد الذي واصل فرض توصياته التي لم تحل ارتفاع ديون البلاد، وفي عام 2000م وصلت ديون الأرجنتين إلى 147 مليار دولار وارتفعت نسبة البطالة بعدما تمت تصفية آلاف المشروعات وانخفض معدل الإنتاج بـ 25%، وتبخرت احتياطيات البنك المركزي، في عام 2018م عادة الصندوق ليطل برأسه على الأرجنتين مقدمًا قرضًا بقيمة 57 مليار دولار، كان آنذاك هو أكبر البرامج التمويلية المعطاة في تاريخ الصندوق، بيد أن ثالث أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية عاد بعد عامين ليعاني من وصول مستويات الفقر إلى أرقام قياسية مع ارتفاع التضخم والعجز عن خدمة الدين العام، واستمرار انهيار العملة الوطنية، وعادت الأمور إلى نقطة الصفر بعدما اقترضت الأرجنتين مليارات الدولارات التي أثقلت كاهلها، والمثير للاستغراب أن الصندوق ذاته كان قد اعترف في 29 يوليو 2004م، بأن أخطاءه ساعدت في غرق الأرجنتين وإفلاسها.
عِـبرَة من ماليزيا
حين حدثت الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997م، لم يهرول مهاتير محمد ببلاده مع تايلاند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية نحو صندوق النقد الدولي من أجل الإنقاذ، لقد رفض الرجل الذي شغل منصب رئيس وزراء ماليزيا من 1981 إلى 2003، الذهاب إلى الصندوق والانصياع لشروطه المرهقة، وعندما كان يُسأل لاحقًا عن سر نهضة بلاده كانت إجابته دائما: "لقد خالفتُ توصيات صندوق النّقد الدولي، وفعلت عكس ما طلبه من إجراءات"، لم يكن قرار ماليزيا بمخالفة توصيات صندوق النقد سهلًا، فالدول النامية حين تصيبها أزمات اقتصادية يصبح أول ما يخطر ببالها هو طلب مساعدة الصندوق، لكن على العكس من ذلك قرر مهاتير رفض تنفيذ برنامج خاص تبين لاحقًا أنه كفل لماليزيا أن تكون أولى الدول الآسيوية التي تعافت من الأزمة.
في أغسطس 1998، استعانت مهاتير بأكثر من 200 منظمة ومتخصص لصياغة برنامج إنقاذ وطني تم الإعلان عنها في الشهر ذاته، نجح البرنامج بعد تطبيقه في جعل ماليزيا تتحول من الاعتماد على تصدير المواد الخام إلى تطوير القطاع الصناعي بجانب قطاعي الخدمات والسياحة، وهو ما جذب استثمار أجنبي مباشر بقرابة 80 مليار دولار، تم تخفيض النفقات الحكومية والدفاع عن العملة الوطنية (الرينجت) من خلال تشديد السياسات النقدية، عملت الحكومة على حل مشكلة الديون المتعثرة عن طريق ضخ نقد مالي موجه وإعادة بناء القطاع المصرفي.
ساد توقع عام بأن البرنامج الماليزي سيفشل لا محالة، إذ كيف لدولة ناشئة مثل ماليزيا تعصف بها وبمعظم بلدان القارة الآسيوية أزمة ضخمة بهذا الحجم أن تنجو بلا أضرار ودون مساعدة دولية، كانت المفاجأة في عام 1999م عندما سجلت ماليزيا معدل نمو 6.1%، وهو ما يعكس أنها كانت أول المتعافين من الأزمة مقارنةً بمثيلاتها من الدول الآسيوية التي عصفت الأزمة باقتصاداتها أيضًا، ومع نجاح الحكومة في هدفها تضاءلت الفجوة بين طبقات المجتمع، وأصبحت ماليزيا في مصاف الدول صاحبة الدخل المرتفع.
أزمـات على الطريـق
على مدى العقد الماضي بذل الصندوق جهودًا كبيرة لإصلاح سمعته، وأصبح من المعتاد لمسؤوليه الاعتراف علنًا بأن التقشف يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية وأن معالجة عدم المساواة أصبحت أحد الاهتمامات المركزية للصندوق، لكن بالرغم من ذلك لم تتم إعادة النظر في الاستخدام الانتقائي لشروطه أو حتى مراجعتها بما يضمن عدم إفلاس الدول أو خراب اقتصاداتها، لقد أظهرت العديد من الدراسات أن السياسة التي يتبعها صندوق النقد الدولي والشروط التي يضعها للمقترضين هي جميعها تقريبًا لها تأثيرات مدمرة، وقد تسببت بالفعل في رفع معدلات الفقر في البلدان المقترضة، بالرغم من ذلك لا أحد يتعلم من دروس الماضي، هذه نماذج لأزمات على الطريق:
1ـ الأزمة الباكستانية:
خلال الصيف الماضي وبعد عدة أشهر من الأمطار الموسمية الغزيرة، شهدت باكستان أسوأ الفيضانات في تاريخها، وقع دمار هائل في مقاطعتي السند وبلوشستان، لكن البعض قدر أن ما يصل إلى ثلث البلاد قد غمرته المياه، حيث أصبحت بعض المناطق الزراعية الأكثر خصوبة في البلاد بمثابة بحيرات عملاقة، وهو ما أدى إلى غرق الماشية وتدمير المحاصيل وتدهور حالة البنية التحتية، تسببت الفيضانات في وفاة أكثر من 1700 شخص، وشردت 32 مليون آخرين وهذا العدد يفوق مجموع سكان القارة الأسترالية، وتُقّدر تكلفة هذه الكارثة الطبيعية حتى الآن بعشرات المليارات من الدولارات، وبحلول شهر أغسطس الماضي تفاقم حجم الكارثة وأصبح واضحًا بشكل كبير بعدما اقترب موعد سداد ديون خارجية قديمة، لجأت الحكومة الباكستانية إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي كحل سريع وسهل كي تتجنب التخلف عن سداد ديونها الخارجية في ظل الكارثة الطبيعية التي تعاني منها، كانت شروط الصفقة مع الصندوق مؤلمة، لقد عرض على الباكستانيين خطة إنقاذ بقيمة 1.17 مليار دولار فقط بعد أن أظهرت التزامًا حقيقيًا باتباع سياسات تقشفية غير مسبوقة كان أبرز صورها هو خفض دعم الطاقة.
انضمت باكستان إلى صندوق النقد الدولي في عام 1950م، وبعد 8 سنوات من ذلك التاريخ تقدمت بطلب الاقتراض الأول حيث كانت هذه بداية عمليات الاقتراض التي لم تتوقف أبدًا، وتعد باكستان حاليًا رابع أكبر مدين لصندوق النقد الدولي، ولم تعد الأزمة الباكستانية واحدة، بل صارت أزمات؛ الفيضانات المدمرة مع احتمالية وقوع كوارث طبيعية أخرى قادمة، وخطر الانهيار الاقتصادي، والاضطراب السياسي المستعر، ثم الوقوع في براثن صندوق النقد الدولي والانصياع لشروطه بعد أن وافق على حزمة إنقاذ لباكستان بقيمة 6 مليارات دولار في عام 2019، ثم وافق على تمديد البرنامج حتى يونيو 2023 بقرض إضافي قدره مليار دولار، لكن تراجع الحكومة عن التزاماتها بشروط الصندوق في ظل حالة الغضب الشعبي واضطراب الأوضاع السياسية أدى إلى تأخير صرف شرائح الدعم ومن ثمَّ تفاقم حالة عدم اليقين في الأسواق الباكستانية، لقد باتت إسلام آباد في وضعِ لا تُحسد عليه؛ سواء استكملت الحصول على شرائح القرض حيث ستتراكم ديونها، أو توقفت عنها حيث ستتذبذب الأسواق وتزداد أزمتها بسبب نقص الاحتياطي الأجنبي، وبين هذا وذاك يضيع المزيد من الوقت دون حلول اقتصادية ناجعة.

الولايات المتحدة بصفتها أكبر مساهم في صندوق النقد الدولي تعدّ هي الأكبر تأثيرًا والأقوى تصويتيًا، وهو ما منحها سيطرة لا مثيل لها على أنشطة الصندوق، حيث ترمي واشنطن إلى الوصول لأهدافها عبر القروض التي يمنحها الصندوق
2ـ أزمات عربية:
لم تسلم الدول العربية من فخ الاستدانة من صندوق النقد الدولي، فتونس تعاني تونس أزمة اقتصادية ومالية تفاقمت حدتها جراء تداعيات جائحة كورونا وحرب أوكرانيا إضافة إلى عدم الاستقرار السياسي الذي تعيشه، وهو ما جعلها تواجه خطر التعثر بعد أن قارب عجز ميزانيتها 10%، كما ارتفع الفرق في عوائد سنداتها، لجأت تونس إلى التفاوض مع الصندوق للحصول على قرض تمويلي، وبطبيعة الحال فرض الصندوق شروطه لإعادة هيكلة المؤسسات العمومية والتحكم في كتلة الأجور هناك، أما مصر فتعاني من مستويات دين عام مرتفعة وقد شهدت نزوحًا قويًا للنقد الأجنبي خلال الفترة الأخيرة، وفي ظل معاناتها من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية أصبحت ديونها الخارجية تقدر بنحو 160 مليار دولار تستحق على مدى السنوات الخمس المقبلة، جزء كبير من هذه الديون التي تحتاج مصر إلى سدادها هي لصالح صندوق النقد الدولي.
أما لبنان الذي يعاني من أزمة تلو أخرى، فقد دخل مع صندوق النقد الدولي في مفاوضات دامت أكثر من عامين كي يحصل على قرض، لكن حتى اليوم لا يزال الصندوق يطلب المزيد من الإصلاحات ويملي عليه سياساته النقدية فيما تتفاقم أزمات اللبنانيين ولا يفكر قادته إلا في القروض كحل لتلك الأزمات، أما السودان فقد اتفق في يونيو 2021 مع الصندوق على قرض بقيمة 2.5 مليار دولار، لكن حتى اليوم لم يسر الاتفاق كما كان مقررًا له، فالصندوق ينتظر عودة الاستقرار السياسي الكامل في البلاد التي تواجه متاعب اقتصادية متصاعدة.
3ـ أزمات أخرى:
يطول الحديث عن الدول المتعثرة أو التي تعاني من أزمات اقتصادية وتلجأ للصندوق كحل سريع وسهل، ظنًا منها أن هذا هو الحل، كأمثلة سريعة على تلك الدول نجد أوكرانيا التي تعاين من غزو روسي عنيف لأراضيها الآن والتي بلغت ديونها قرابة 20 مليار دولار، والإكوادور التي تعاني من ديون بأكثر من 40 مليار، وتشمل لائحة الدول في دائرة الخطر أيضا إثيوبيا وغانا وكينيا وبلاروسيا ونيجيريا، بالإضافة بعض الدول التي تجاوز حجم ديونها نحو 75% من ناتجها المحلي، مثل: جيبوتي وأنجولا وموزمبيق وزامبيا والرأس الأخضر وموريشيوس.
مستعمرون مانحـون
تتمثل الطريقة التي يعمل بها صندوق النقد الدولي في جمع الموارد المالية من الأعضاء ومن ثمَّ تقديم المساعدة لهم على المدى القصير في حالة الصعوبات المالية، يقع مقر الصندوق في واشنطن العاصمة ويعمل به ممثلون عن وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية من جميع أنحاء العالم، ونظرًا لأن القوة التصويتية مرجحة بالمساهمة المالية لكل دولة، فإن الولايات المتحدة بصفتها أكبر مساهم في صندوق النقد الدولي تعدّ هي الأكبر تأثيرًا والأقوى تصويتيًا، وهو ما منحها سيطرة لا مثيل لها على أنشطة الصندوق، حيث ترمي واشنطن إلى الوصول لأهدافها عبر القروض التي يمنحها الصندوق، فعلى سبيل المثال عند منح قروض إلى الدول غير الصديقة أو المعادية لها يتم وضع شروط تقشف قاسية وهو ما يؤدي بشكل أو بآخر إلى إحداث اضطرابات سياسية واحتجاجات شعبية تنتهي في الغالب بتغيير النظام الحاكم، وقد استخدمت الولايات المتحدة هذه الحيلة ببراعة خلال الحرب الباردة وأسقطت من خلالها بعض الأنظمة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وذلك في إطار هدفها المتمثل في احتواء الشيوعية حول العالم.
المؤسسات المالية العالمية ـ وعلى رأسها صندوق النقد الدولي ـ تعتبر امتدادًا للقوة السياسية والمالية للدول الغربية، فهي جزء لا يتجزأ من وسائلها الحديثة للهيمنة، يلعب الصندوق دورًا مؤثرًا في الاقتصاد العالمي لكونه المؤسسة الوحيدة التي لديها موارد وتفويض مفتوح للوصول العالمي لمساعدة أي بلد لكن وفقًا لتوصيات معينة يفرضها عليها، يقول الخبير الألماني "أرنست فولف"، أستاذ الفلسفة في جامعة بريتوريا، في كتابه "صندوق النقد الدولي: قوة عظمى في الساحة العالمية": "إن تدخلات الصندوق في الواقع أشبه ما تكون بغزوات جيوش متحاربة، ففي كل تدخلاته ينتهك سيادة الدول ويجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الشعوب، والمؤسف أنها تخلّف وراءها ساحة عريضة من الخراب الاقتصادي والاجتماعي، لا يستخدم الصندوق أسلحة أو جنودًا، لكنه يستعين بوسيلة بسيطة من آليات النظام الرأسمالي، وهي عملية التمويل".
بعيدًا عن صندوق النقد الدولي، نجد الصين اليوم أكبر دولة مُقرِضَة في العالم بعدما وضعت نفسها بشكل أكبر كبديل مباشر لصندوق النقد، وهي حقيقة ولدت قلقًا كبيرًا في الغرب، لا سيما وأن الصين تقرض غيرها من الدول بدون قيود سياسية أو شروط مُذلّة مثلما تفعل المؤسسات المالية الغربية، بالرغم من ذلك فإن بكين متهمة بما يُمكن وصفها بدبلوماسية "فخ الديون" وذلك من خلال تقديم قروض للدول للاستثمار في مشاريع للبنية التحتية التي لا يمكن تحملها، وعندما لا تتمكن هذه الدول من سداد ديونها، يبدأ الصينيون في الحصول على الأصول القيّمة، مثلما حدث في سريلانكا في عام 2017م عندما حصلت بكين على عقد إيجار مدته 99 عامًا لأهم وأكبر ميناء استراتيجي في سريلانكا المفلسة التي لم تتمكن من الوفاء بسداد ديونها للصين أو غيرها، ومن السهل جدًا عما قريب رؤية دول أخرى عديدة مثل سريلانكا كضحايا لقروض صندوق النقد الدولي ذات الشروط المجحفة أو لدبلوماسية فخ الديون الصينية.