القصة القصيرة جدا: أي ماض؟ وأي حاضر؟ وأي مستقبل؟
محمد مختاري




من المعروف لدى كل متتبِّع لثنائية النقد والأدب بالعالم العربي - أنه لا يمكن لأي جنس أدبي مُستحدَثٍ أن يجد التُّربةَ الْمُواتيةَ له بالسهولة التي نتصوُّرها، وقد عانت الرِّواية من هذا الأمر كما عانته مختلف الأجناس الأدبية الأخرى كالمسرح - باعتباره نصًّا دراميًّا بالأساس - والقصة، والقصة القصيرة، وأخيرًا القصة القصيرة جدًّا التي أخذت الحظَّ الأوفرَ من الْمُعارَضة والْمُجابهة، وبما أن الحال هكذا بالنسبة للكتابة القوقجية، سنحاوِلُ في هذا الصَّدد التعريف بالقصة القصيرة جدًّا، وتبيان تاريخها مع إيراد بعض الآراء النقدية التي اهتمَّت بهذا النمط من الإبداع، ثم ننتقل بعد ذلك إلى مُقارنة وضعيَّة القصة القصيرة جدًّا بالأجناس الأدبية الأخرى - الأجناس التي يبدو أنها أثبتت وجودَها بشكل من الأشكال بالساحة الأدبية - مُختتمين بعد ذلك كلِّه بتطبيق قانون التجنيس الأدبي على فنِّ القصة القصيرة جدًّا؛ كي نصِفَ ما ستؤول إليه نتيجة عرضِها على الْمِحَكِّ الاختباري، إذًا سنُعيدُ صياغة عبارة العُنوان لنتساءل: أيُّ ماضٍ، وأيُّ حاضِرٍ، وأيُّ مُستقبلٍ للقصة القصيرة جدًّا بالعالم العربي؟


هذا ما ستضعه السطور الآتية موضعَ تساؤلٍ كي تُحاول الإجابة عنه بشيءٍ من الموضوعية.
1- مفهوم القصة القصيرة جدًّا:
يُلاحَظُ - حسب الدراسات التي عايَنت فنَّ القصة القصيرة جدًّا - أنه لا يمكن - كأيِّ جنس أو نوع أدبي كيفما كان - أن يُحاط بهذا الفن من الناحية المفهومية بنحو من الأنحاء؛ ذلك أن التعريفات تتعدَّد بِتَعَدُّد النُّقَّاد والدَّارسين؛ فإذا ابتدأنا بأوَّل ناقد يتناول هذا الفن بالدَّرس والتَّحليل، وهو أحمد جاسم الحسين، فإننا نجده يُعرِّف القصة القصيرة جدًّا بالتركيز على خاصِّيتين بارزتين؛ وهما: خاصية الانتماء الجنسي المتجلية في لفظة (قصة)، وخاصية الكمية المتمظهرة في عبارة "قصيرة جدًّا"؛ ولذلك فالقوقجة، حسب الناقد "تنتمي للقصِّ حدثًا وحكايةً وتشويقًا ونموًّا ورُوحًا، وتنتمي للتَّكثيف فِكْرًا واقتصادًا ولُغةً وتقنيات وخصائص..."[1]؛ ولذلك فهو يعتبر القصة القصيرة جدًّا جنسًا أدبيًّا حديثًا على الرغم من كونه مولودًا بِكْرًا؛ نظرًا لقلَّة الدراسات التي اعتنت به[2].

أما يوسف حطيني فيُعرِّف القصة القصيرة جدًّا بأنها: "جنس سردي قصير جدًّا يتمحور حول وحدة معنوية صغيرة، ويعتمد الحكائية، والتكثيف، والمفارقة، ويستثمر الطاقة الفعلية للغة ليُعبِّر عن الأحداث الحاسمة، ويمكن له أن يستثمر ما يُناسبه من تقنيات السَّرْد في الأجناس الأخرى"[3]، كما أنه "يتوافر على عناصر وتقنيات تجعله يختلف على الشكل الحكائي القديم، ويعد تطويرًا له، وبناءً عليه"[4]؛ ولهذا نكتشف أن يوسف حطيني يعتبر القصة القصيرة جدًّا جنسًا أدبيًّا، ويعتبرها أيضًا تطوُّرًا عن بعض أنماط السَّرْد القديم؛ كالحكاية والخبر والنادرة[5].

وفي نفس السياق يحاول جاسم خلف إلياس تعريف القصة القصيرة جدًّا، بالتأكيد على أنها نوع أدبي مُتفرِّع عن أجناس أدبية أعلى منه؛ كالرِّواية، والقصة القصيرة، وبنفس الرؤية المنبثقة عن زميله يوسف حطيني، يعتبرها الناقدُ فنًّا أدبيًّا يستمد وجوده من السَّرْد القديم؛ كالنادرة، والطُّرْفة، والخبر، والأسطورة، والخرافة، والحكمة، والمثل، والحكاية الشعبية، والمقامة وغيرها...[6].

كما ارتأت الناقدة سعاد مسكين أن تعتبر القصة القصيرة جدًّا "صيغة جديدة في الكتابة لها أوليَّاتها الجوهرية التي يجب أن تُكرَّس كثوابت ومتعاليات"[7]، وهي- حسب الناقدة دائمًا - نوعٌ سَرْدي يتَّسم بمجموعة من الخصائص المميَّزة؛ كالحكائية، والمفارقة، والكثافة، ووحدة الحدث[8]، وبذلك فالناقدةُ تُسلِّمُ - ولو على نحو متردِّد - بكون القصة القصيرة جدًّا نمطًا أدبيًّا ثابتًا.

ونجد أيضًا الناقد جميل حمداوي الذي يعتبر "القصة القصيرة جدًّا جنسًا أدبيًّا حديثًا، تم استنباته في التُرْبة العربية المعاصرة، عن طريق المثاقفة مع الغرب، والاستفادة من السرد العربي القديم"[9]، إضافة إلى تَميُّزه بمجموعة من السمات الشكلية والمضمونية أيضًا، وهو بهذا يُشدِّد على أهلية القصة القصيرة جدًّا في أن تكون جنسًا أدبيًّا، كما أنه يربطها بمميزاتها الفنية والموضوعية الخاصة بها.

وبذا يتَّضح لنا أن التعريفات تختلف من ناقد إلى آخر؛ لكن أغلبية النُّقَّاد ذوي المواقف الإيجابية تجاه هذا الفن المستحدث، يؤكِّدون أن القصة القصيرة جدًّا جنس أدبي حديث يتَّصف بمجموعة من الخصائص التي تُميِّزهُ عن غيره من الأجناس الأدبية، وكما أنه يُعتبر من الآداب التي ظهَرت في الغرب أولًا، لكن الاستفادة من التراث السردي أمرٌ واردٌ، وقد سُمِّيت القصة القصيرة جدًّا تسمياتٍ عدة من قبيل: القوقجة، والومضة، والقصة البرق، والقصة اللامعة، ولقطات قصصية، وصعقات قصصية، وقصة في دقيقة... وغيرها، ولعلَّه من المفيد هنا أن نعلَم أن كثرة التسميات واختلافها تُشير إلى الاهتمام الكبير الذي لقِيه هذا الفنَّ إبداعًا ونقدًا.

2- تاريخ القصة القصيرة جدًّا:
لعلَّ أولَّ ظهور للقصة القصيرة جدًّا كان مع الكاتب الأمريكي الشهير (إرنست همنغواي)، عام 1925م، مع نصِّه الأشهر الذي عنونه بعبارة "قصة قصيرة جدًّا"، الذي لا يتجاوز عدد ألفاظه ست كلمات، وهو كالتالي: "للبيع، حذاءٌ لطفلٍ لم يُلْبَس قطُّ"، ثم توالت بعد همنغواي، كتابات مُشابِهة، عن كُتَّاب ينتمون إلى أمريكا اللاتينية من قبيل الكاتب الغواتيمالي (أوجوستو مونتيروسو)، والأرجنتينِيَّي ْن (خورخي لويس بورخيس)، و(أدولفو بيوي كاساريس)، وكُتَّاب غيرهم من مثل: (إرنستو ساباتو)، و(روبرتو بولانيو)، و(خوسي دونوسو)، و(بيخيلبو بينيرا)... وآخرين.

وعلى الرغم ممَّا انتشر في الساحة النقدية - وهو أن ناتالي ساروت صاحبة الكتاب الذي ترجمه فتحي العشري بـ"انفعالات"، هي أول من يكتب القصة القصيرة جدًّا في العالم؛ أي: التشديد على أن البداية كانت من أوروبا - فإن هذا ليس صحيحًا، ذلك بأن فتحي العشري جنَّس هذا الكتاب بـ"قصص قصيرة جدًّا"، وهو في الأصل عبارة عن رِواية؛ ممَّا جعل الكثير من النُّقَّاد يعتمدون على مغالطات سبَّبتها الترجمة الخاطئة، وبهذا يتأكَّد أن أول عمل قصصي يتناول القصة القصيرة جدًّا، كان مع الكاتب الأمريكي (إرنست همنغواي).

وفي العالم العربي تلامَحت بعض التجليَّات التي انبثقت عن غير قصد كما هو الحال عند بعض الكُتَّاب العرب، من مثل: جبران خليل جبران في بعض كتاباته كـ "التائه" و"المجنون"، وغيرها.

لكن البداية الفعلية والواعية للقصة القصيرة جدًّا في العالم العربي، كانت في العراق، حينما "نشر في الأربعينيَّات المحامي نوئيل رسام قصصًا قصيرة جدًّا كما يقول الناقد باسم عبدالحميد حمودي، فعُدَّ ذلك بداية ظهور هذا الفن في العراق"[10]، لتتوالى بعد ذلك محاولات في نفس المجال لمبدعين من مختلف أقطار العالم العربي، وبذلك اتَّسعت رقعة المبدعين والنُّقَّاد المهتمين بهذا الفن، ونذكر من المبدعين: يوسف حطيني، ومحمد منصور، وهيثم بهنام بردي، ومحمد إبراهيم بوعلو، وجمال بوطيب، ومحمد العتروس، وسعيد منتسب، وعبدالله المتقي، وحسن برطال، وميمون حرش، وجمال الدين الخضيري، وآمنة برواضي، وآخرين كثيرين، ومن النُّقَّاد نجد: حميد لحمداني، وأحمد جاسم الحسين، ويوسف حطيني، وجاسم خلف إلياس، وهيثم بهنام بردي، وعبدالدائم السلامي، وجميل حمداوي، وسعاد مسكين، وعبدالعاطي الزياني، ومسلك ميمون، ومحمد داني... والقائمة طويلة.

3- مواقف النُّقَّاد حول القصة القصيرة جدًّا:
يمكن تقسيم الآراء المتضاربة حول فن القصة القصيرة جدًّا إلى ثلاثة مواقف:
موقف لا يني يُدافع عن القصة القصيرة جدًّا، ويندرج ضمن هذا الفريق كلٌّ من حميد لحمداني، ويوسف حطيني، وجميل حمداوي، وعبدالعاطي الزياني، وعبدالدائم السلامي... وآخرين، وهم نُقَّاد يعتبرون القصة القصيرة جدًّا جنسًا أدبيًّا حديثًا له من المميزات الخطابية والمضمونية، ما يجعله قادرًا على اعتلاء عرش السَّرْد الحديث.

موقف وسطي لا يُعبِّر عن رأيه بشكل مباشر وواضح، وندرج هنا كلًّا من (سعاد مسكين، وسلمى براهمة)[11]، بدعوى أن ظهور القصة القصيرة جدًّا ما زال مُبكِّرًا؛ ولذلك - حسب الناقدتين - يجب ألَّا نتسرَّع في قبول هذا النمط الجديد من الكتابة.

موقف سلبي يُعبِّر عن كل رفضه لهذا الجنس، ولا يعتبره جنسًا البتة، وفي هذا السياق نجد أغلب الرِّوائيين الذين اعتادوا الكتابة المسهبة، فتبدَّت لهمُ القصة القصيرة جدًّا شيئًا خفيفًا، لا يستحق الاهتمام، وإضافة إلى ذلك نجد من الرافضين كلًّا من: أحمد بوزفور، وعلي صديقي... وآخرين.

4- القصة القصيرة جدًّا والأجناس الأدبية:
أ*. القصة القصيرة جدًّا والرِّواية:
تعد الرِّواية النموذجَ الأمثل للسَّرْد المسهب والطويل[12]؛ ولذلك فهي غالبًا ما تُعاين تفاصيل الأحداث عبر تقنيات الوَصْف التي يُوظِّفها الرِّوائي، وهذا السَّرْد التفصيلي يجعل من القارئ مُستهلكًا فقط؛ أي: متابعًا ما ستؤول إليه الأحداثُ التي يبنيها الرِّوائي بمفرده، بينما القارئ في القصة القصيرة جدًّا يكون مُنتِجًا أكثر مما يكون مستهلكًا، فالسَّرْد القصير جدًّا مملوء بالبياضات والإيحاءات التي يُسبِّبها عنصرَا الإيجاز والتكثيف، وبذلك يحتاج الأمر إلى قارئ يسدُّ هذه الفراغات عبر إعادة بناء القصة بتوظيف تقنيات التخيُّل.

في عصر السرعة، لم يعدِ الوقت كافيًا لقراءة الرِّوايات المسهبة التي تحتاج إلى وقت طويل؛ فالقارئ المعاصر يحتاج إلى أدب يُساير حركة عصرِه، وذلك لا يتحقَّق إلا بالقصة القصيرة جدًّا الوامضة، التي لا تأخذ إلا دقائق معدودات إضافة إلى الأثر البالغ الذي تتركه في المتلقِّي، كما أنها لا ترغمه على هيئة محددة كي يقرأها، بل على العكس من ذلك، يمكن أن يتأمَّلها وهو خارج من منزله، أو ذاهب إلى عامله، أو حتى في استراحة قصيرة من العمل... وهذا ما لا يمكن للرِّوايات أن تقوم به، فهي تشترط زمانًا ومكانًا محدَّدَين.


ومن جانب آخر؛ يُلاحظ أن بعض الرِّوائيين بدؤوا يكتبون القصة القصيرة جدًّا، وبذلك يُعبِّرون عن مدى المتعة التي يُقدِّمها لهم هذا الفن، وفي هذا السياق نجد نجيب محفوظ أشهر الرِّوائيين في التاريخ يُصرِّح لغالي شكري عام1987 قائلًا: "من الآن فصاعدًا ستجدني أكتب القصة القصيرة جدًّا، هل تسمعني؟! القصة القصيرة جدًّا جدًّا، الكتابة أصبحت عمليةً صعبةً للغاية، ومنذ أسبوعين فقط أخبرني الطبيب أن ضمورًا قد أصاب شبكيَّة العين، فكيف أكتب الرِّواية؟!"[13]، وهذا الكلام يُشير إلى أمرين: أولهما أن القصة القصيرة جدًّا نالت إعجاب أعظم أدباء التاريخ؛ مما يدل على أنها أدبٌ قائم بنفسه، وثانيهما يُشير إلى أن الكتابة ليست مُتعبةً بالنسبة للقارئ فقط، بل بالنسبة للكاتب أيضًا، أما القصة القصيرة جدًّا فلا تُسَبِّب أي عناءٍ!

ب*. القصة القصيرة جدًّا والقصة القصيرة:
تتميَّز القصة القصيرة بميلها إلى التمطيط والوصف[14]، بينما تنعدم التقنيتان في القصة القصيرة جدًّا، كما تنماز أيضًا بتعدُّد الأحداث وتواليها، وفي القصة القصيرة جدًّا نصبح أمام وحدة الحدث ومركزيَّته.

و"من خصائص القصة القصيرة جدًّا [التي تُميِّزها عن القصة القصيرة] التجرُّد من الزيادات والإطالة والحشو؛ فهي لا تتضمَّن إلَّا ما يهم القارئ ويريده ويُؤثِّر فيه... بالإضافة إلى رسم الشخصيات في كلمات قليلة جدًّا وبمهارة عالية؛ حيث يجب أن يقدم الموقف بسرعةٍ فائقةٍ، وبرسم الجو والخلفيَّات بضربات قليلة حاذقة...، [وبهذا] نستنتج أن القصة القصيرة جدًّا تحتاج إلى مهارة أكثر، وسرعة أكبر، وتكثيف أشد، وبراعة أعظم مما تتطلَّبه القصة القصيرة الاعتيادية"[15].


كما يُلاحَظُ أن معظم كتاب القصة القصيرة عزفوا عن كتابة هذا اللون، وبدؤوا يهتمُّون بالكتابة القوقجية؛ من مثل: القاص الكبير إبراهيم بوعلو، وميمون حرش، وعبدالرحيم التدلاوي... وغيرهم.


وانطلاقًا من الفروق المذكورة أعلاهُ، يتبيَّن مدى خصوصية القصة القصيرة جدًّا عن باقي الأجناس السردية؛ فهي متميزة بومضها وسرعتها وكثافتها وإيجازها وإدهاشها ومفارقاتها... وغيرها من الصفات التي وجدت اهتمامًا بالغًا؛ سواء في نصوص المبدعين، أو في اهتمامات النقَّاد في التنظير لهذا الجنس الأدبي المستحدث، "وأن هذا الضرب من السَّرْد القصصي، ضربٌ فنيٌّ أصعب من سواه؛ لأنه سَرْدٌ فاضح لمن لا يمتلك موهبةً قصصيةً حقيقيةً؛ لأنه يلزمه اللعب فوق رُقعة محددة، وإمكانات مقتضبة، بمهارة رجل السيرك الحاذق؛ فإما النجومية أو السقوط المدوي"[16].

5- القصة القصيرة جدًّا وقانون التجنيس الأدبي[17]:
يعد قانون التجنيس الأدبي من أنجع الإستراتيجيَّات التي تمكننا من التعرُّف على أن فنًّا أدبيًّا ما يستحِقُّ أن يحمل وصف "الجنس الأدبي"؛ وذلك بعد مُعاينة مجموعة من المميِّزات التي تجعل من هذا الفن الأدبي أو ذاك جنسًا قائم الذات، وفي هذا القصد سنحاول أن نُخضِع القصة القصيرة جدًّا للمِحَكِّ الاختباري؛ كي نرى ما ستؤول إليه النتائج.

أ*. قانون المماثلة:
وتتحدَّد هذه الخطوة في كونها تحاول أن تُبرز أوجه المماثلة والاشتراك بين النصوص الأدبية؛ حيث يُمكننا أن نقول عن فئة أدبية ما أنها تحمل نفس العناصر المشتركة؛ مما يجعلها تنضوي تحت جنس معين، والقصة القصيرة جدًّا تتوافر على مجموعة من الخصائص التي تشترك فيها مع كل النصوص القصيرة جدًّا الأخرى؛ من مثل: النزعة القصصية والإيجاز والتكثيف والحذف...

ب*. قانون التواتر:
ويعني هذا القانون استكشاف السمات المتردِّدة والمتكرِّرة والمتواترة في النصوص الأدبية، وفي القصة القصيرة جدًّا نجد مجموعة من السمات المتكرِّرة مِن نصٍّ قصير جدًّا إلى آخر من قبيل: الإدهاش والتشذير والفانتاستيك والباروديا والتنكير... وغيرها.

ج. قانون الأهمية:
ويتمثل هذا القانون في الخاصية الاستثنائية التي توجد في الجنس الأدبي؛ ممَّا يجعل هذا الجنس - ومن خلال هذه السمة الأساسية - ذا أهمية مقارنة مع الأجناس الأدبية الأخرى، وكذلك في القصة القصيرة جدًّا نجد قِصَرَ الحجم، والتكثيف، والتنكير، والتسريع... كلها تُشكِّل سمات مهمة تجعلها مميَّزةً عن باقي الأجناس.

د. قانون القيمة المهيمنة:
وقد ارتبط هذا المصطلح بالبنيوي الشهير "رومان جاكوبسون"، ويعني به تلك الخاصية أو العنصر الذي يطفو على حساب العناصر الأخرى المكونة للنصِّ الأدبي الذي تشتغل كل المكونات الأخرى لصالحِه، وفي القصة القصيرة جدًّا تُعَدُّ القصصية الْمُرَكَّزة هي العنصر المهيمن في النصِّ، وهي التي تُشكِّل حبكتَهُ وسرديَّته.

هـ. قانون الثبات:
ويتصل هذا القانون بالشروط الثابتة التي تُميِّز نصوصًا أدبية بعينها، والتي لا يُمكنها أن تتغيَّر أبدًا؛ لأنها قارة ومرتبطة أشدَّ الارتباط بالنصِّ الأدبي، وفي هذا السياق نجد أن أهم الخصائص الثابتة التي تُميِّز القصة القصيرة جدًّا، هي: القصصية، والحجم القصير، والإيجاز والتكثيف.

و. قانون التطور:
ويعني هذا أن الأجناس الأدبية تعتبر تطوُّرًا عن أنماط خاصة من الإبداع، فمثلًا "يرى فرديناند برونوتيير أن خطب الوعَّاظ في القرن السابع عشر - بعد فترة انقطاع - تَحوَّلت إلى الشعر الغنائي في القرن التاسع عشر ميلادي"[18]، وهكذا بالنسبة لباقي الأجناس، أما القصة القصيرة جدًّا، فقد تطوَّرت عن اتجاهين اثنين: أولهما يربطها ببعض أنماط السَّرْد القديم؛ كالمثل، والخبر، والنكتة، والْمُلْحة، وما إلى ذلك... والقصة القصيرة جدًّا تأخذ من بعض سمات هذا النوع من النصوص الموجودة في التراث العربي، وأما الاتِّجاهُ الثاني فيجعلها متطورة عن الرِّواية والقصة القصيرة؛ نظرًا لأن بعض الرِّوائيين؛ مثل: جبران خليل جبران، ونجيب محفوظ، كتبوا في الرِّواية، ثم بعد ذلك انتقلوا إلى الكتابة في القصة القصيرة، لينتهوا إلى كتابة القصة القصيرة جدًّا[19] باعتبارها آخر حلقة؛ وبهذا يتَّضح أن قانون التطوُّر يسري على القصة القصيرة جدًّا.

ز. قانون العدد أو الكم:
ويتعلق هذا القانون بالتراكم الكمي الذي وصلت إليه النصوص المشترِكة في نفس الثوابت، فكلما كانت دائرة الكمِّ واسعةً، كان لهذه النصوص حظٌّ أكبرُ في أن تكون جنسًا أدبيًّا، وبالنسبة للقصة القصيرة جدًّا، فقد وصلت عدد الأضمومات التي احتوت قصصًا قصيرة جدًّا، في آخر إحصاء لها[20] بالمغرب فقط، ما يربو عن 210 أضمومة قصصية قصيرة جدًّا، أما في العالم العربي والعالم ككل، فالعددُ أصعبُ من أن نُحصيه.

ح. قانون أفق الانتظار:
ويتعلق هذا القانون بالمتلقِّي خاصة، فالنصُّ الأدبي الذي يُمكنه أن يخيب أفق انتظار القارئ هو النص القمين بأن يندرج تحت جنس أدبي، ما دام هذا النصُّ يملك هذه الفعالية الكبيرة في إرباك القارئ، ونفس الأمر نجده في القصة القصيرة جدًّا، فهي تُربِك المتلقِّي، وتخيب أفق انتظاره عن طريق خاصيات المفارقة والإدهاش والفانتاستيك والسخرية... وغيرها.

ط. قانون التقسيم:
ويقصد بهذا القانون إمكانية هذه النصوص التي تُشكِّل جنسًا كبيرًا، أن تتفرَّع بعد ذلك إلى أنواع أخرى تحتها، ففي القصة القصيرة جدًّا يمكن أن نتحدَّث عن القصة الشذرية، والقصة الشاعرية، والقصة المسرحية... وغيرها.

ي. قانون المأسسة:
وهذا القانون يشترط في الجنس الأدبي أن يتوافر على مجموعة من القواعد والمقاييس الخاصة؛ كي نتمكَّن من تصنيف نَصٍّ ما يحترم قواعد جنس ما داخل هذا الجنس؛ مما يُعطيه طابع المأسسة، فنحن لا يمكننا أن ندرجَ داخل جنس القصة القصيرة جدًّا نصًّا ما إذا ما لم يحترم قواعد هذا الجنس؛ من مثل: القصصية، وقصر الحجم، والتكثيف، والإيجاز؛ أي: ما يُشكِّل عناصر ثابتة ومميزة لهذا الجنس.

ك. قانون الاختلاف:
يتحدَّد الجنس الأدبي في اختلافه مع الأجناس الأدبية الأخرى، فإذا كان مماثلًا لهذه الأجناس، فلا يمكن أن يكون مستقلًّا، هذا وعلى الرغم من أنه اشتُرِطَ في التجنيس خاصية المماثلة بين النصوص الأدبية، فإن ذلك لا يكفي لكي نقول عن هذه النصوص أو تلك: إنها تُشكِّل جنسًا أدبيًّا، فعلاوة على ذلك، يُشتَرَطُ في النصوص الأدبية المندرجة تحت نفس الجنس أن تكون مختلفةً ومتنوعةً، وإلا فإننا سنكون أمام نسخة واحدة، فالقصة القصيرة جدًّا تختلف عن الرِّواية، والقصة القصيرة بمميزاتها الخاصة كالحجم القصير جدًّا، والإيجاز والتسريع، والحذف.. إلخ، كما أن القصة القصيرة جدًّا متنوعة من حيثُ خصائصُها، فليست كل القصص على قالب فني واحد، فقد تأتي القوقجة في صور عدة وبخصائص متنوعة؛ كالغموض، والتهجين، والمفارقة، والتجريد... وما إلى ذلك.

ل. قانون الجمال:
ويعني هذا القانون أننا لا يُمكن أن نتحدَّث عن جنس أدبي ما دون تميُّزه بالخصائص الجمالية، فالأدب هو الجمال؛ لذلك فمن غير المعقول خُلوُّه من هذا القانون، وبذا يمكن أن نقول: إن القصة القصيرة جدًّا تتميَّز بمجموعة من الخصائص الجمالية والفنية التي تجعلها تتَّسم بخاصية الأدبية.

6- تركيب:
انطلاقًا من اجتياز القصة القصيرة جدًّا لكل القوانين التي أوردناها ونجاحها فيها، يُمكننا القول - بشيءٍ من الموضوعية - أن القصة القصيرة جدًّا جنسٌ أدبيٌّ حديث، يتَّصف بمجموعة من الخصائص التي تُميِّزه عن باقي الأجناس الأدبية، والتي تجعله قمينًا بأن يحظى باهتمام النقَّاد، وأن يحمل وَسْم "فن المستقبل"؛ لأنها حاضرة بقوة في مجال الإبداع والنقد، إضافة إلى الحفاوة التي تحظى بها في مختلف مناطق العالم عن طريق المهرجانات والندوات... وبهذا يصعُب أن نقول: إننا على صوابٍ إذا أكَّدنا أن القصة القصيرة جدًّا لا مكان لها بين في رقعة الأدب، ولعلنا لا نُغالي حين نلحُّ على أن وجود القصة القصيرة جدًّا لا يعني إلغاءً للأجناس الأدبية الأخرى؛ بل إن كل جنسٍ يُثبتُ وجودَهُ بمميِّزاته الخاصة.


[1] د. أحمد جاسم الحسين، القصة القصيرة جدًّا، دار الفكر، سوريا، دمشق، الطبعة الأولى سنة 1997م، ص: 11.

[2] د. أحمد جاسم الحسين، نفسه، والصفحة نفسُها، وللإشارة فإن حديث جاسم الحسين عن قلَّة الدراسات كان في عام 1997م، أما الآن فقد وصل عدد الدراسات النقدية التي اهتمَّت بالقصة القصيرة جدًّا بالمغرب فقط، ما يزيد عن 50 كتابًا نقديًّا، إضافة إلى عدد لا يُستهان به من المقالات والدراسات المنشورة في الصحف والمجلات الورقية منها والإلكترونية؛ يُنظر في هذا السياق كتاب "بيبليوغرافيا القصة القصيرة جدًّا بالمغرب؛ لجميل حمداوي، ومحمد مختاري، مكتبة سلمى، تطوان، المغرب، الطبعة الأولى 2017م.

[3] د. يوسف حطيني، دراسات في القصة القصيرة جدًّا، مطابع الرباط نت، المغرب، الرباط، الطبعة الأولى 2014م، ص: 108.

[4] د. يوسف حطيني، القصة القصيرة جدًّا بين النظرية والتطبيق، مطبعة اليازجي، سوريا، دمشق، الطبعة الأولى 2004م، ص: 7-8.

5- د. يوسف حطيني، المصدر نفسه والصفحة نفسها.

6 - جاسم خلف إلياس، شعرية القصة القصيرة جدًّا، دار نينوى، سوريا، دمشق، الطبعة الأولى 2010م، ص200.

[7] سعاد مسكين، القصة القصيرة جدًّا بالمغرب (تصورات ومقاربات)، دار التنوخي، المغرب، الرباط، الطبعة الأولى، 2011م، ص: 141.

[8] المرجع نفسه، ص 42.

[9] جميل حمداوي، من أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جدًّا (المقاربة الميكروسردية)، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، الأردن، عمان، الطبعة الأولى 2013م، ص 477.

[10] عبدالواحد أبجطيط، خصائص القصة القصيرة جدًّا عند ميمون حرش، مطبعة القبس، المغرب، الناظور، 2015م، ص 21.

[11] سعاد مسكين، القصة القصيرة جدًّا (تصوُّرات ومقاربات)، م. س.ص:41-42.

[12] جميل حمداوي، المقطع والمتخيل في القصة القصيرة جدًّا، مطبعة القبس، المغرب، الناظور، الطبعة الأولى، 2017م، ص: 70.

[13] محمد مريني، سرد حديث، مطبوع جامعي 2015-2016 بالكلية متعددة التخصصات بالناظور، مكتبة ووراقة العمران، ص 55.

[14] محمد داني، حفريات في القصة القصيرة جدًّا، مطبعة سجلماسة الزيتون، المغرب، مكناس، الطبعة الأولى 2017م، 25.

[15] المرجع السابق نفسه، ص 30.


[16] د. صالح هويدي، السرد الوامض مقاربة في نقد النقد، الإمارات، الشارقة، كتاب الرافد، أبريل 2017م، ص 107 – 108.

[17] اعتمدنا، في هذا المحور، بشكل كبير، وبشيء من التصرُّف على كتاب: جميل حمداوي، نظرية الأجناس الأدبية، إفريقيا الشرق، المغرب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2015م.

[18] المرجع السابق، الصفحة: 34.

[19] جميل حمداوي، نظرية الأجناس الأدبية، م. س. ص: 111.


[20] جميل حمداوي ومحمد مختاري، ببليوغرافيا القصة القصيرة جدًّا بالمغرب، م.س.