زمانك وعاؤك فلا تهمله


محمد سيد حسين عبد الواحد


ايها الإخوة الكرام: أخرج الترمزي منْ حديث مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ : " «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ » ".
قال مجاهد فَقَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ : إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ غَدًا.
ايها الإخوة المؤمنون:
لقد عنى القرآن الكريم بالحديث عن الزمان عناية فائقة.. تحدث القرآن عن الليل، عن النهار، عن الفجر، عن الضحى، وأقسم الباري بهن للدلالة على التعظيم والإجلال..
تحدث القرآن الكريم عن وقت طلوع الشمس، عن العصر، عن وقت الغروب، عن العشاء، تحدث عن السحر، تحدث عن الأيام، عن يوم الجمعة، عن يوم السبت، تحدث عن الليالي، عن الشهور، عن السنين تحدث القرآن الكريم عن يوم القيامة ....
﴿ {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى ٱلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} ﴾ ﴿ {قَالُوا۟ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْـَٔلِ ٱلْعَآدِّينَ ﴾﴿ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾}
عناية كبيرة أولاها القرآن الكريم بالحديث عن الزمان لأسباب
منها:
أن الزمان هو وعاء العمر، فما الإنسان إلا جزء من الزمان، حركته في زمن، سكونه في زمن، طعامه في زمن، شرابه في زمن، نومه في زمن، حتى أنفاس الإنسان تستغرق مساحة من الزمن، فما الإنسان إلا أياما وليالي، كلما مر على الإنسان يوم أو ليلة كلما انقضى جزء من حياة ذلك الإنسان، ورحم الله من قال: دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني،،، فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر الإنسان عمر ثان.
قال الله تعالى {﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾}
ورد عند تفسير هذه الآية قول عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ : مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَرَأَهُ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ. أَوْ : كَأَنَّهُ أَدْرَكَهُ..
وكأن الزمان يقوم بعضه مكان بعض.. ولعل هذا المعنى هو المشار إليه في قول النبي عليه الصلاة والسلام " مَا مِنِ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ يَغْلِبُهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ إِلَّا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً ".
عنى القرآن الكريم بالحديث عن الزمان:
لانه يشهد عمل المؤمن بالليل والنهار، يعنى القرآن الكريم بالحديث عن الزمان لأن الزمان محل لكل عمل نافع، فالصلاة تستغرق زمنا، والصوم يستغرق زمانا، والحج والعمرة وتلاوة القرآن والسعي إلى بيوت الله، وإصلاح ذات البين كل ذلك يستغرق زمانا، والغرس والزرع يستغرق زمانا، وقضاء حوائج الناس يستغرق زمانا، ونجدة الملهوف وإغاثة اللهفان تستغرق زمانا، وإجابة الدعوة وعيادة المرضى تستغرق زمانا، عنى القرآن الكريم بالحديث عن الزمان في عدد كبير من الآيات: لان الزمان هو الشاهد على عمل المؤمن بالليل والنهار
حياة الإنسان من الألف إلى الياء زمان في زمان، إن أحسن الإنسان إدارته، وأجاد استثمار هذا الزمن كان خير الناس في الدنيا والآخرة، وإن أساء الإنسان الإنسان إدارته زمانه، واستهلك زمانه في اللهو واللعب والزور واللغو كان شر الناس في الدنيا والآخرة..
عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضى الله عنه ، قَالَ : « أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيَّانِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : مَنْ خَيْرُ الرِّجَالِ يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ ". وَقَالَ الْآخَرُ : إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا، فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ. قَالَ : " لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» ".
عنى القرآن الكريم بالحديث عن الزمان:
ليتنبه له الإنسان فلا يتفلت منه وقته، ولا ينسل زمانه من بين يديه دون مصلحة دينية أو دنيوية..
{﴿ وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ ٱلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا۟ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا۟ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنَٰهُ تَفْصِيلًا ﴾ }
وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أصحابه فقال: اغتنم خمسا قبل خمس..
اغتنم فرغك قبل شغلك..
اغتنم حياتك قبل موتك..
اغتنم صحتك قبل سقمك..
اغتنم شبابك قبل هرمك..
اغتنم غناك قبل فقرك..
حنظلة بن الربيع الأسيدي أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو أحد كتاب الوحي بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام :
خرج حنظلة رضى الله عنه يوما من بيته فزعا.. يكاد يضرب كفا على كف يحدث نفسه في الطريق فيقول:
«كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَّرَنَا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، حَتَّى كَأَنَا رَأْيَ عَيْنٍ، فَقُمْتُ إِلَى أَهْلِي، فَضَحِكْتُ وَلَعِبْتُ مَعَ أَهْلِي وَوَلَدِي، فَذَكَرْتُ مَا كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجْتُ، فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ : يَا أَبَا بَكْرٍ، نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ : وَمَاذَاكَ ؟ قُلْتُ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَّرَنَا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَتَّى كَأَنَا رَأْيَ عَيْنٍ، فَذَهَبْتُ إِلَى أَهْلِي فَضَحِكْتُ وَلَعِبْتُ مَعَ وَلَدِي وَأَهْلِي. فَقَالَ : إِنَّا لَنَفْعَلُ ذَاكَ. قَالَ : فَذَهَبْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ : " يَا حَنْظَلَةُ، لَوْ كُنْتُمْ تَكُونُونَ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا تَكُونُونَ عِنْدِي، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ وَأَنْتُمْ عَلَى فُرُشِكُمْ وَبِالطُّرُقِ، يَا حَنْظَلَةُ، سَاعَةً وَسَاعَةً ". »
والمعنى ساعة عبادة وساعة في طلب الدنيا فيما لا يغضب الله سبحانه وتعالى..
عنى القرآن الكريم بالحديث عن الزمان:
لان الله تعالى جعل من الزمان حجة على الناس يوم القيامة فقد أحياهم الله تعالى وارسل إليهم الأنبياء والرسل وأنزل إليهم الصحف والكتب..
قال الله تعالى {﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَٰلِمُونَ ﴾}
قوم نوح هم أول من صنع الأصنام وعبدها من دون الله تعالى، هم أول من أشرك بالله عز وجل، من رحمة الله تعالى ورأفته بهم أرسل الله تعالى نوحا عليه السلام، ومد الله تعالى في عمر نوح عليه السلام حتى دعاهم ليلا ونهارا سرا وجهارا في ألف سنة إلا خمسين عاما، ورغم ذلك ما آمن معه إلا قليل..
{﴿ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَٱتَّبَعُوا۟ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُۥ وَوَلَدُهُۥٓ إِلَّا خَسَارًا ﴾﴿ وَمَكَرُوا۟ مَكْرًا كُبَّارًا ﴾﴿ وَقَالُوا۟ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ ﴿ وَقَدْ أَضَلُّوا۟ كَثِيرًا ۖ وَلَا تَزِدِ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ﴾}
في ألف سنة إلا خمسين عاما لم يجن نوح ثمرة دعوته إلا في أقل القليل ليكون كل يوم من هذه السنوات حجة على قوم نوح، كل يوم من هذه السنوات سيشهد عليهم أنهم كفروا أنهم عاندوا وتكبروا وأصروا واستكبروا استكبارا..
وإذا قامت الساعة وأدخل أهل النار النار وصرخوا من الألم وتمنوا الموت كانت الحجة عليهم أنهم عاشوا الحياة ومرت عليهم الأيام والليالي فضيعوها واستهلكوها في الهزل واللعب والحرام، ولم يعملوا فيها أعمالا صالحة..
{﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا۟ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ ﴾ ﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَٰلِحًا غَيْرَ ٱلَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا۟ فَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾ }
ما نود أن نقوله أيها المؤمنون هو: أن أمرك بيديك، وعمرك طوع أمرك، إن أخذته في طريق الخير واستثمرته استثمارا صالحا سار معك وكان شاهدا لك يوم القيامة، وإن أخذته في طريق الشر فاستهلكته استهلاكا سيئا سار معك وكان حجة عليك يوم القيامة..
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل الحياة زيادة لنا في كل خير إنه ولي ذلك والقادر عليه..
الخطبة الثانية
بقى لنا في ختام الحديث عن الزمان وعن أسباب كثرة الحديث عنه في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقى لنا أن نقول:
سياتي على الناس زمان تتفلت فيه الأوقات ، وتنتزع فيه البركة من الأيام والليالي، بحيث يمر على الرجل الزمان الطويل كلمح البصر، وتذهب فائدة الأيام من كثرة النوازل والشدائد والبلايا التي تعصف بالناس..
نسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يذهب همومنا وأن يفرج برحمته كروبنا، وان يرفع مقته وغضبه عنا، وأن يرحمنا بالأطفال الرضع والشيوخ الركع والبهائم الرتع..
الرسول صلى الله عليه وسلّم عد ذهاب البركة من الأيام والليالي والأعوام إحدى العلامات الصغرى لاقتراب قيام الساعة..
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " « لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونُ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونُ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَالضَّرَمَةِ بِالنَّارِ» ".

ليست القضية أن عمرا مضى أو أن زمانا انقضى إنما القضية أن الإنسان يسئل عن وقته وزمانه الذي عاشه بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة..
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " « لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ : عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ» ".
نسال الله العظيم رب العرش الكريم أن ينور بصائرنا وأن يصلح أحوالنا وأن يجعل الحياة زيادة لنا في كل خير وأن يجعل الموت راحة لنا من كل شر.. آمين.