تعليمية النحو العربي


د. عبدالناصر بوعلي




جامعة تمسان الجزائر


تمهيد:
ظهَرَ علمُ النَّحْو العربي في نهاية القرن الأوَّل للهجرة، لكنَّه نضجَ واكتملتْ أصولُه، واستقرَّ على حالِه الذي هو عليه الآن على أيدي الخليل بن أحمد الفراهيدي، ويونس بن حبيب، وسيبويه، والفراء، والكسائي وغيرهم من العلماء العرب في القرن الثَّاني الهجري، وهم جميعًا ممَّن وُلِد وعاش في العراق حيث المؤثِّرات الثقافية الوافدة؛ من هندية وفارسية ويونانية، ولقد كانت البيئة الفكريَّة وقتها مؤلفةً من المتكلِّمين والفقهاء والمناطقة، وفي هذه البيئة الفكرية الفنيَّة نشأ الدَّرْسُ النَّحْوي، ووُضِعَتْ أصولُه الكبرى، ويذهب بعض الدارسين إلى أنَّ النَّحْو العربي تأثَّر بهذه البيئة، فأخذ من المنطق اليوناني الصُّوري وبعض المؤثرات الأخرى من الهندية والسريالية، وتأثَّر كذلك بأصول الفقهاء وعلماء الكلام، يُؤيِّد هذا بعضُ أقوال علماء النَّحْو، فأبو سعيد السيرافي يقول: «والنَّحْوُ منطِقٌ ولكنه مسلوخٌ من العربية، والمنطِقُ نَحْوٌ ولكنه مفهومٌ باللغة»[1]، وكذلك الزجاجي حين رفض تعريفًا للاسم قدَّمه أحدُ النُّحاة، فقال: «هذا ليس من ألفاظ النَّحْويين ولا أوضاعهم، وإنَّما هو من كلام المنطقيين»[2]، وقصة الأعرابي الذي مَرَّ بجماعة من النَّحْويين وهم يتحدَّثون في النَّحْو؛ إذ قال: «أراهم يتحدَّثون عنْ كلامِنا بكلامٍ ليس من كلامِنا»[3]، ويذهب آخرون إلى أنَّ النَّحْو العربي نشأ نشأةً عربيةً خالصةً بدافع ديني حماسي، درس العربية في منابِتها الأصليَّة واسْتَقْرَى ظواهرها المتوارثة، مستندًا إلى طرائق في البحث تعتمد على أصول الفقهاء، وعلى معيارين عربيَّين كبيرَين وأصيلين في المنهج العربي؛ هما: السَّماع والقياس.

وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ معرفة قوانين النَّحْو ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، فهي التي تجعل القارئ قادرًا على التمييز بين الألفاظ المتكافئة في اللفظ، وإنَّ ما قعَّده النحاة لم يكن عملًا عشوائيًّا ترفيهيًّا؛ بل كان عملًا منظَّمًا وهادفًا، جاء نتيجة استقراء طويل وشامل لنصوص اللُّغة العربيَّة كما وصلت إليهم، فقد رسم هؤلاء العلماء خطَّتهم في النَّحْو بعد أن جعلوا نصب أعينِهم الهدف الذي يرمون إليه، وهو عصمة اللِّسان من الخطأ، ثم تيسير العربية على من يرغب تعلُّمَها من المسلمين الأعاجم، وبالمقابل هناك من يُقلِّل من أهميةِ النَّحْو بدعوى أنَّ اللغة قامت واستوت قبل أن يُوجَدَ النَّحْو، وإن تقويم اللسان يتمُّ عن طريق المحاكاة والمران المتواصل والسَّماع المباشر، ويستشهدون بشعراء الجاهلية وخطبائها الذين لم يعرفوا النَّحْو في حياتهم.

فهذا رأيٌ صحيح تاريخيًّا، لكنه باطل في عصرنا؛ لأنه لا يُتاح لمتعلِّم اللغة سماع الفصحى من أهلها، ولا تتوافر له بيئة لغوية سليمة ينغمس فيها، وقد شاع اللَّحن، وتفشَّت العاميَّة والخليط اللغوي والتداخل الدلالي بين الناس، نتيجة الغزو الثقافي والفكري بفعل الاستعمار المباشر وغير المباشر، ونتيجة هذه العولمة الموحشة التي يُراد لها أنْ تكتسِحَ المعمورة.

مزايا تعليم النحو:
ومن هنا بات تعلُّمُ النحو ضرورةً ملحَّةً لصيانة اللغة العربية من التحريف والتشويه، وإذا كان تعلُّمه وسيلةً لا يستغني عنها دارسُ هذه اللغة، فهذا لا يعني إطلاقًا أنَّ كل ما خلَّفه لنا النُّحاة كان ضروريًّا.

إننا نجد في اجتهاد النحويين تجاوزًا للواقع اللغوي إلى نوع من التَّفلسفِ، أو التَّرف الفكري، الأمر الذي أدَّى إلى خلافات من ذلك ظاهرة العامل التي شغلت الناس فتصدَّى لها البعضُ، ووقف آخرون يُؤيِّدونها ويذودون عنها، ومن الأمثلة الظَّريفة في ذلك أن عضد الدولة سأل يومًا الإمامَ أبا علي الفارسي (الحسن بن أحمد ت 377 هـ): لماذا ينصب المستثنى في نحو: قامَ القَوْمُ إِلَّا زَيْدًا؟ فقال: بتقدير فعل "أستثني زيدًا"، فقال عضد الدولة: لم قدَّرت أستثني؟ هلا قدرتَ "امتنَع"، فنقول: جاءَ القومُ وامتنعَ زيدٌ، فلم يحر جوابًا[4].

ولعلَّ ما قاله ابنُ مضاء القرطبي هو عين الصواب في هذا الباب، حين قال: «إني رأيت النَّحْويين رحمهم الله قد وضعوا صناعة النَّحْو لحفظ كلام العرب من اللَّحن وصيانته من التَّغيير، فبلغوا من ذلك إلى التي أَمُّوا، وانتهوا إلى المطلوب الذي ابتَغوا، إلا أنهم التزموا ما لا يلزمهم، وتجاوزوا فيها القدر الكافي فيما أرادوه منها، فتوعَّرت مسالكُها، ووهنتْ مبانيها، وانحطَّت عن رتبة الإقناعِ حججُها»[5].

إن هذه الوعورة وتلك المسالك التي أشار إليها ابن مضاء القرطبي، هي الجوانب الفلسفية في النحو التي تجاوزت الواقع اللغوي، والتي عدَّها البعضُ مواطنَ النفور في النحو وجوانب الاستصعاب، والتي لا تفيد في شيءٍ طالبَ تعلُّم اللغة؛ وإنما تكون محطَّ دراسةٍ في المستويات العليا جدًّا.

ولعله من المفيد للغة العربية وأهلها أن نعرض ما قاله ابن خلدون بهذا الشأن، فقد أدرك بحسِّه اللغوي السليم وتذوُّقه لجمال العربية أهميةَ النَّحْو والإعراب، ثم ميَّز تمييزًا مستنيرًا واعيًا بين صناعة الإعراب بذاتها وبين الملكة اللغوية التي ينبغي العمل من أجل تكوينها في لسان طالب اللغة العربية، وعدم الانشغال بقوانين الإعراب المتشعبة التي لا طائل تحتها في الكتابة والتعبير والمعنى، فقد جعل هذا العالم علم النحو أحد الأركان الأربعة لعلوم اللسان العربي: (اللغة - النحو - البيان - الأدب)، ورأى أنَّ المقدم هو علم النحو؛ إذْ بِهِ تتبيَّن أحوال المقاصد بالدلالة، ولولاه لجهل أصل الإفادة، ولكنه يميِّز بوضوح تامٍّ بين مَلَكَة هذا اللسان وبين صناعة العربية، والسبب في ذلك أن: «صناعة العربية إنَّما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة، فهو علم بكيفية لا نفس كيفية، فليست نفس الملكة؛ وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علمًا ولا يحكمها عملًا، فإن العلم بقوانين الإعراب، إنما هو علم بكيفية العمل؛ ولذلك نجد كثيرًا ممَّن يحسن هذه الملكة، ويجيد الفنَّين من المنظوم والمنثور، وهو لا يُحسِن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المفعول من المجرور، ولا شيئًا من قوانين صناعة الكتابة؛ من هذا تعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وإنها مستغنية عنها بالجملة»[6].

إنَّ ما نستنتجه من مقولة ابن خلدون هذه يمكن إجماله في النقاط الآتية:
1- ضرورة العناية التامة بالنحو ومعرفة قوانينه التي لها أثر في فَهم المعنى وتحديد الدلالة.
2- إنَّ معرفة النحو وسيلة وليست غاية، ولا يجوز الانشغال بالوسيلة إذا لم تكن عاملًا مساعدًا للوصول إلى الغاية.
3- إن عملية التعلُّم ينبغي أن تجمع بين النظري والتطبيقي.
4- إن امتلاك ملكة اللسان العربي تُغني كثيرًا عن النحو.

وبعد هذه المقدِّمة حول أهمية النحو في تعليم العربية وامتلاك ناصيتها، ينبغي أن نقف وقفة نقدية تأملية لحال لغة طلابنا وهم يتخرجون، فلا بد أن نذكر أن طلبة المدارس بعد إنهائهم اثنتي عشرة سنة من الدراسة، ليس بإمكانهم - إلَّا مَن ندَر - التكلُّم أو الكتابة دون لحن أو خطأ، كما أن كثيرًا من طلبة الجامعات هم على هذه الحال كذلك؛ فلا بد إذًا من بحث وتقييم الطرق التي يدرس بها الطلاب اللغة العربية، فهل الخطأ في إعداد الطَّالب؟ أو في إعداد المدرس والأستاذ؟ أو الخطأ في مادة وطريقة التدريس؟ أو في البرامج وفي الكتاب المدرسي؟ أو الخطأ في أكثر من جهة واحدة؟

الكلُّ يعلم أنَّه سبق وأن شُكِّلَتْ لجانٍ على أَعْلَى المستويات للنظر في هذا الأمر، وإيجاد الحلول، لكن دار لقمان بقيت على حالها، إن لم نقُل: تفاقَم وضعُها، ومن هنا نرى أهمية إثارة هذا الموضوع والبحث فيه، وقبل طرح مقترحاتنا في هذا المجال، يجدر بنا رصدُ أهداف تدريس النحو وتبدو لنا كما يأتي:
1- إدراك أهمية النحو في عصمة اللسان العربي من اللحن؛ حرصًا على سلامة اللغة العربية، وصونها من عبث العابثين.

2- إدراك موقع النَّحْو من النظام اللغوي العام الذي بدوره يمثِّل الكيان الإنساني بأوجهه المختلفة.

3- إدراك الصلة العضوية بين النحو الوظيفي وفروع اللغة الأخرى.

4- تدريب الطلاب على ضبط لغتهم تحدُّثًا وقراءة وكتابة بشكل يتدرج مع مستواهم العقلي واللغوي في سُلَّم التعلُّم التصاعدي.

5- القدرة على اكتشاف الخطأ اللغوي عند مشاهدته مكتوبًا، نظرًا عينًا أو سماعًا أُذْنًا، أو عند الوقوع فيه دون قصد، ثم المبادرة إلى تصحيحه إذا كان الموقف يستدعي ذلك.

5- الآن إذا كان للنحو كل هذه الأهداف السامية، فإن القول بالاستغناء عنهُ أو عدم إعطائه العناية القصوى، لا يختلف عن الدعوة إلى القضاء على اللغة ذاتها، وإنَّ محنة العربية ليست في طبيعة نحوها؛ إذ لا بد أن نُفرِّق بين نحو اللغة باعتباره جزءًا من طبيعة اللغة وجوهرها، وبين أساليب دراسة هذا النحو، ونحن نعتقد أنه في طليعة أسباب هذا النفور من النحو يأتي الجمود في اتِّباع القدماء النحويين في سرد القواعد من غير عرضها على كلام العرب وشعرهم الخالي من الضرورة، والتزام أقوالهم كأنها مما يَحرُمُ الاجتهادُ فيه، وقد أتى النحوَ الجمودُ في مدارسنا، وصار مع الأسف غاية في ذاتها؛ لا وسيلة للتعبير عن المعاني والأحاسيس، ولم يستطع المؤلِّفون في النحو من المعاصرين تجاوُزَ هذه المحنة، وكل ما كان من اجتهاداتهم جاء مرتجلًا لتجاوز مرحلةٍ سَرعان ما يبرز قصورُها وتظهر نقائصُها؛ لأنها لم تخضع لدراسة معمَّقة وشاملة.

6- ومع ذلك لا ننكر أنه كانت هناك جهود في هذا المجال أثمرت أحيانًا، ثم ظهر قصورُها في الكثير من الأحايين، وأرجع وأطرح الغاية من هذا الحديث في طريقة تدريس النحو العربي، وهنا أقترح إيجاد مرحلتين في تعليم النحو العربي:
مرحلة تعليم النحو التربوي الذي يوجه للتلاميذ في مراحل التعليم الأولى وحتى لطلبة الجامعات في مرحلة التدرُّج.
مرحلة النحو المتخصِّص الذي يتعلَّق بالبحث في أمور اللغة.

7- وما يعنينا هو مرحلة النحو التربوي، ونجد لها بُعْدًا تاريخيًّا يرجع إلى الجاحظ الذي قال: «لا يَجِبُ أن ينشغلَ قلبُ الصبيِّ إلَّا بمقدارِ ما يُؤدي إلى السَّلامةِ مِنْ فاحشِ اللحنِ، ومن مقدارِ جهلِ العوام في كتابٍ إن كتبه، وشعرٍ إن أنشدَه، وشيء إنْ وصفهُ، وما زادَ على ذلكَ، فهوَ مَشْغلةٌ عمَّا هو أَولى به من رواية المثل والشاهد والخبر الصادق والتعبير البارع، وعويص النحو لا يجدي في المعاملات ولا يُضطر إليه في شيء»[7]، وتماشيًا مع هذا الرأي اقترح الأستاذ إبراهيم مصطفى الابتعاد عن فلسفةِ النحو، وإلغاء نظرية العامل، والاحتكام في الإعراب إلى المعنى[8]؛ إن ربط الإعراب بالمعنى هو خطوة جادة في وظيفة النحو، وتيسير فهمه، ونضرب في ذلك مثلًا: فدرس نائب الفاعل كيف نتمكَّن من إقناع التلميذ في جملة " فُتِحَ الْبَابُ" بأن الباب نائب فاعل وهو مفعول به أصلًا، إذا لم نشرح له أغراض حذف الفاعل، وهو جانب يختصُّ بالمعنى؛ إنَّ الجهل بالفاعل أو الخوف منه، أو الخوف عليه، أو التستُّر عليه أو.... هو الدافع إلى ذلك.

8- على معلم النحو إذًا ألَّا يعزل الإعراب عن المعنى، ومتى تم ذلك جنح إلى الصَّنْعة النحوية بدل تعليم اللغة العربية، وإلى فلسفة النحو بدل تعليم أغراض النحو.

9- وانطلاقًا من قوليْ ابن مضاء القرطبي والجاحظ السالفين، فإننا نقترح وجوب الاقتصار على موضوعات وظيفية محددة في النحو في مراحل التعليم ما قبل الجامعي، وبدلًا مِن حَشو عقول الطلبة بقواعد مجردة هي فوق مداركهم العقلية، يعسر عليهم استيعابُ مضامينها وأهدافها، تقدم لهم موضوعات ذات صلة بالاستعمال اللغوي مقرونة بأعمال تطبيقية وتدريبات لغوية متكاملة هادفة، يظهر أثرُها في تعبيرهم الشفهي والكتابي.

10- إنَّ عملية تقديم دروس النَّحْو ينبغي أن يسلك فيها الحوار بصورة حسنة يؤدي إلى حصول ملكة اللغة، فالحوار يُسهِّلُ عمليةَ حصول الملكة، وفي نظر ابن خلدون أن القول والعمل والتعبير يساعد على إجادة الكلام، فمثلًا تلميذ يكتب على السبورة عليه أن يكتب ويُعبِّر: أنا أكتب في السبورة؛ فهذا قول + عمل + فعل بخلاف إن لم يكتُب (أي: لم يعمل)، فيقول: أنا أكتب في السبورة، فهنا يصعب تعلُّم هذه الجملة، أو ربما يتمُّ نسيانها بسرعة؛ لأنها لم ترتبط بواقع أو عمل[9]، فتعلُّم اللغة حسب رأي ابن خلدون يمرُّ عبر: سماع + تكلُّم + ممارسة + تكرار، وهذا تجسيد لمقولته المشهورة: والسَّمْعُ أبو الملَكات.

ومن جهة أخرى ينبغي التنبيه إلى طبيعة اللغة التي يستعملها المعلم، فلا بدَّ أن تكون لغتُه صافيةً سليمةً فصيحةً؛ ذلك أنَّ اعتماد لغة تعليم مغايرة للغةِ المراد تعليمها تطرح إشكالًا وتناقضًا كبيرين، ومن المعلوم جدًّا أنَّ مجتمعاتنا العربية تُعاني من ازدواجية اللغة، لغة المجتمع المغايرة للغة التعلُّم، وهي مسألة تطرح نفسها في مجال اللِّسانيات التَّطبيقيَّة.

وفكرُ ابن خلدون واضح في هذا المجال: «إنَّ التعلُّم في لغة مغايرة للغة الأمِّ يعيق عملية التعلُّم»[10]، ولو عاش ابن خلدون في أيامنا هذه لَأوْلَى هذه المسألة اهتمامه، ولكَانَ أوَّل من نادى بتعريب العلوم، وتعديل نظام التعليم بحيث يتوافر كليًّا، وفي كل المستويات في اللغة الأُمِّ، ولعل التجربة التي تخوضها الجزائر في المنظومة التربوية لو أُحكِمَتْ جيِّدًا لآتَت ثمارًا مُشجِّعةً.

طرائق تدريس النحو:
إنَّ النَّاظر في طرائق تدريس النَّحْو المعتمدة في الكتب التربوية، يجدها مهما تنوَّعت لا تخرج عن طريقتين اثنتين؛ هما:
1- الطريقة الاستقرائية الاستنباطية: تبدأ هذه الطريقة بملاحظة الأمثلة والشواهد المختلفة، ثم استخلاص القاعدة النحوية التي تجمع بينها، ويمكن القول: إنَّ هذه الطريقة في الاستدلال والتفكير هي التي لجأ إليها علماء اللغة القدامى حينما قعَّدوا النَّحْو، وضبطوا أحكامه، وذلك عندما نظروا في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والشواهد الشعرية والنثرية، وخرجوا من بحثهم الاستقرائي هذا بالقوانين النَّحْوية التي رصدوها بالملاحظة والمشاهدة والتحليل والتركيب والمقارنة، ثم أثبتوها في مؤلَّفاتهم اللغوية[11]، وهي الطريقة ذاتها التي مكَّنت الخليل من وضع علم العروض، علمًا بأنَّ بعض المربِّين ينسبون هذه الطريقة إلى العالم الألماني فريدريك هربارت، وأنها تقوم على نظرية علم النفس الترابطي، ومعلوم أَنَّ العلماء المسلمين كانوا روَّادًا في الاستدلال الاستقرائي الذي يقوم على الملاحظة والتجربة والقياس، على أنَّ ما يعيب هذه الطريقة عندنا في تعليم النحو أن بعض المعلمين يقدمون لها بأمثلة تافهة معزولة، تكاد تكون مفصَّلة على قد القاعدة النحوية ليس غير، تجعل المتلقِّي يحصر ما تعلَّمه في هذا المثال دائمًا، ولا يمكنه ممارسة الإبداع، ولا توليد جملٍ مغايرة، كما نجد هذه الأمثلة خالية من عناصر الإثارة والتشويق، وهكذا كان اختيار هذه الأمثلة البتراء عاملًا من عوامل الإساءة لفهم النحو.

2- الطريقة القياسية الاستنتاجية: وهي التي تبدأ بعرض القاعدة النحوية ثم بتقديم الشواهد والأمثلة لتوضيحها، وبعد ذلك تُعزَّز وتُرسَّخ في أذهان التَّلاميذ بتطبيقها على حالات مماثلة، «ويُلاحظ أنَّ هذه الطريقة تعتمد على التفكير القياسي الاستدلالي الذي يقوم على الانتقال من المقدمات إلى التصميمات إلى الوقائع، علمًا بأنَّ هذه المبادئ والقواعد نكون قد توصَّلنا إليها بالاستدلال الاستقرائي»[12]، ويرى بعضُ الدارسين أنَّ هذه الطريقة تُتيح للمعلم التحكُّم بالمنهج المقرر وتوزيعه على مدار العام الدراسي بيُسْرٍ وبسهولة، إلَّا أنَّها تشغل عقل الطالب بحفظ القاعدة واستظهارها على أنَّها غاية في ذاتها، وتحرمه من المشاركة في اكتشاف القوانين النحوية، كما تصرفه عن تنمية قدرته على التطبيق.

والملاحظ أنَّ أكثر كتب النحو وُضِعَتْ على هذه الطريقة، لقد تفرَّعت عن هاتين الطريقتين طرق اجتهد كل مُرَبٍّ في تحديد خطواتها، ورسم أهدافها، وتعدَّدت التَّجارب، وتم الانتهاء إلى اتخاذ طريقة الوسط التي يطلق عليها البعض الطريقة النشيطة، يمكن أن نرتضيها لأنفسنا منهاجًا ونُلخِّصها فيما يأتي: يُعفى التلاميذ من دراسة النحو في المراحل الأولى من التعليم الابتدائي بالصُّورة الاصطلاحية، ونكتفي بتعويدهم على الاستعمال الصحيح للغة العربية البسيطة التي يتعامل بها في حياته اليومية كاستعمال أسماء الإشارة والاستفهام والأسماء الموصولة والضمائر والأفعال، دون تعريفها الاصطلاحي، وذلك من خلال عروض شائقة في تدريب التَّعبير والمحادثة، وهنا تطرح كفاءة المعلِّم وفِطنته في استمالة ميول الأطفال، وقدرته في إدارة هذا النَّشاط اللُّغوي.

ثم تأتي المرحلة الثانية، وتتجسد في المرحلتين المتوسطة والثانوية، يتمكَّن التَّلاميذ من دراسة النَّحْو في ثوبه الاصطلاحي وفي تدرُّج وتكامل، وَفقًا لبرنامج يُعَدُّ خصِّيصًا لكل مرحلة، مع مراعاة أهمية الدروس ذات الاستعمال الواسع من جهة، وقدرات التلاميذ السنية ومستواهم التعليمي ووضعية كل مدرسة.

ولتحقيق هذا الغرض لا بدَّ من انتهاج طريقة كفيلة بإزالة كل ما يكتنف المادَّة من دعوى الجفاف والجمود والغموض، ومحو ما استقَرَّ في بعض الأذهان من أنَّ النحو غاية يدرس لذاته، وليس وسيلة للقضاء على وباء اللحن الذي تفشَّى في ألسنتنا وإذاعاتنا وصحافتنا ومؤلفاتنا، وحتى في واجهات الحوانيت ولافتات المحال العامة.

وتتمثل الطريقة المقترحة في أنْ يُختارَ نصٌّ من الأدب الشائق المثير بين يدي القاعدة، ينتقل الأستاذ من قراءته إلى شرحه شرحًا يسيرًا له، ثم يتَّجه بعد هذا بتلاميذه إلى الجمل والكلمات التي يهدف الوصول إلى القاعدة عن طريقها، ويشرع في مناقشتها معهم؛ حتَّى يمكِّنهم من وراء المناقشة الاهتداء إلى القاعدة واستنباطها بأنفسهم ما أمكَن لهم ذلك، ثم يتدخَّل الأستاذ بمزيد من الضبط والإيضاح مع الإكثار من التدريبات.

والسُّؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو: هل من الممكن أن يُوضَع منهج النحو العربي من خلال نصوص تتوافر فيها خصائص النص الجيِّد؛ من سهولة الأسلوب، ووضوح المعنى، وسلاسة التركيب؟ والجواب على ذلك بالإيجاب؛ فالنصوص الجميلة تملأ بطون الكتب، وبخاصة كتب التراث في العصور الإسلامية القديمة، فهناك الكثير مما يصلح لذلك، مع الإشارة إلى أنَّ اعتماد النصوص ينبغي أن يكون منذ بواكير عهد الطلاب بهذه المادة، لا أن يعمل به في مرحلة دون أخرى، إنه الاتجاه الطبيعي الذي ينبغي أن يعمَّ جميع مراحل التعليم المختلفة.

الخلاصة: يبقى النَّحْو عمود اللغة العربية، لا يمكن الاستغناء عنه مهما اجتهد المجتهدون، فهو السبيل الأساسي في صيانتها من الفساد والخَطَل، وهو العامل الأول في المحافظة على وجودها ودوامها، وتعليمه للناشئة من الضروريَّات العلمية، وتبسيط طرائق تدريسه وتيسيرها، يُسهم في استيعاب دروسه والاستفادة من أحكامه في الممارسات اللغوية؛ لذلك بات من المؤكد الاهتمام بقواعده وبطرائق تعليمه للناشئة.


[1] ياقوت الحموي، معجم الأدباء، دار المأمون القاهرة 8/ 195.

[2] الزَّجَّاجي، الإيضاح دار النفائس، بيروت ص 48.

[3] نفسه، ص 72.

[4] الدُّكتور نايف محمد معروف، خصائص العربية وطرائق تدريسها، ص171.

[5] ابن مضاء القرطبي، الرد على النحاة، ص80.

[6] ابن خلدون، المقدمة، ص 560.

[7] السيِّد حاتم محمد، الموجز في طرائق تدريس اللغة العربية، ص 194.

[8] مصطفى إبراهيم، إحياء النَّحْو، ص73.

[9] الدكتور حسين زروق، النَّظريات العربية حول تعلُّم ملكة اللُّغة، ص146.

[10] ابن خلدون، المقدمة، ص 48.

[11] ابن الأنباري، الإغراب في جدل الإعراب، ص95.

[12] الدكتور نايف محمد معروف، خصائص العربية وطرائق تدريسها، ص182.