حدثني عن هدفك

صالح الشناط




إنَّ الهدفَ الأكبرَ من وجود الإنسان في هذه الدنيا، ومقصده هوَ عبادةُ الله ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ولكن ماذا عن الأهداف والخطط لخدمة الهدف الأكبر؟



قال البخاري رحمه الله: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح.



فالبخاري عرف أن الهدف عبادةُ الله، ولكن لم يجلس في بيته للصوم والصلاة وحسب، بل وضع هدفاً لخدمة الهدف الأكبر، وترك الأثر، فكان الصحيح أصح كتاب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى، وكم استفادت الأمة من ذلك المصنف.. فحدثْني عن هدفك؟



إن أناساً تمر أيامهم وسنواتهم دون إنجاز يذكر، إنما هي أعمال الدنيا الروتينية، من طلب رزق ونوم وطعام وزيارات ومحادثات واقعية وافتراضية، لو جمعت إنجازاتهم العظيمة على مدار سنوات لقابل ذلك أعمال صاحب همة من الصالحين في يوم واحد!



لله درُّهم أولئك أصحاب الهمم العالية، أصحاب الإنجازات، الذين لا ينشغلون بالتفاهات ولا يسيرون وراء الهتافات، إنما هي ساعات مليئة بما برضي رب الأرض السماوات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يحب معاليَ الأمور وأشرافها، ويكره سَفْسافها".



ما هي أهدافنا اليوم، لماذا صغرت وحَقُرت، لماذا باتت اهتمامات المشاهير والفنانين والرياضيين وغالب من يتصدر الإعلام هي اهتماماتنا، وبات الوصول إلى ما وصلوا إليه أعظم أهدافنا، أين أهدافنا من أهداف أسلافنا؟



يقول الإمام ابن الجوزيِّ رحمه الله تعالى:

"أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدئ، ولا صاحب ورع فيستفيد منه المتزهد، فالله الله، وعليكم بملاحظة سير القوم، ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم... ولقد نظرت في ثَبَت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد, وفي ثَبت كتب أبي حنيفة، وكتب الحميديِّ، وكتب شيخنا عبدالوهاب، وابن ناصر، وكتب أبي محمد الخشاب، وكانت أحمالاً، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه، ولو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعدُ في الطلب، فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه مَن لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب، ولله الحمد". يا الله، ما أنفس هذا الكلام!



سأل عالم ابنه: يا بني أي غاية تطلب في حياتك؟ وأي رجل من عظماء الرجال تحب أن تكون؟

فأجابه: أحب أن أكون مثلك يا أبت.



فقال العالم: ويحك يا بنيّ! لقد صغرت نفسك، وسقطت همتك، فلتبك على عقلك البواكي، لقد قدرت لنفسي يا بني في مبدأ نشأتي أن أكون مثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فما زلت أجد وأكد حتى بلغت المنزلة التي تراها، وبيني وبين علي رضي الله عنه ما تعلم من الشأو البعيد والمدى المستطيل، فهل يسرك وقد طلبت منزلتي أن يكون ما بينك وبيني من المدى مثل ما بيني وبين على رضي الله عنه.



عليك يا رعاك الله بوضع هدف وخطة للوصول إليه، فالأهداف بدون خطط كالأحلام والسراب.

وما نَيل المطالب بالتمنِّي ♦♦♦ ولكن تؤخذُ الدنيا غلابا



كن صاحب همة عالية لا تعرف التقهقر والكسل، ولا التعثر والملل، ولا يحول دون وصولها لهدفها مغريات ولا شهوات ولا شبهات، واستعن بالله ولا تعجز، قال ابن القيم رحمه الله تعالى واصفاً الهمّة العالية:

"علو الهمَّة ألا تقف (أي النفس) دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية. فالهمّة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمّة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان".



لا تقبَل أن تموت ويموت معك عملك، فربما في قبرك تحتاج لحسنات وكذلك في يوم العرض، فكن ذكياً زكياً فطناً تاجراً بالحسنات، ولا تجعلها تموت بموتك، واترك أثراً. ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12]، وكان من دعوة إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84].


قد مات قومٌ وما ماتَتْ مكارمُهم ♦♦♦ وعاش قومٌ وهم في الناسِ أمواتُ