من مقاصد النهي عن إحياء ذكرى المولد النبوي


ربما يعد بعض الناس أن الخلاف حول شرعية الاحتفال بالمولد النبوي قضية ثانوية، لا تستوجب هذا الاهتمام من الطرفين، وأنه لا ينبغي تجدد الجدل في كل عام حول أمر طال الحديث عنه، وعُرفت آراء الناس بشأنه؛ لذا من المهم التنويه إلى بعض المقاصد الدينية العليا المرتبطة بتأكيد بدعية الاحتفال بالمولد، والنهي عن إحياء هذه المناسبة.
أولاً: منع العبث بمبدأ تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - واتّباعه
يمكن القول بأننا أمام مفهومين أو منهجين لمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره واتّباعه:
- المفهوم الأول: وهو تعظيم أمره واتباع سنته، وهذا المفهوم كان شائعاً في القرون الأولى المشهود بخيريَّتها وفضلها ونموذجيتها في الاقتداء والاتباع للنبي -عليه الصلاة والسلام.
- أما المفهوم الآخر: فهو تحويل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مادة للاحتفال وإنشاد الاشعار والتجاوز في ذلك إلى الغلو في مدحه ووصفه، وقد انتشر هذا المفهوم في القرون الوسطى من تاريخ الإسلام بعد تغير كثير من ملامح الدين الأول الذي عرفه الصحابة وأتباعهم.
وكلما ضعف التديُّن وقلّ ارتباط الناس بتعاليم الإسلام وشرائعه، أو ضعفت معرفتهم بسنة رسولهم - صلى الله عليه وسلم - وسيرته، ترسخ المفهوم الثاني، وانحسر المفهوم الأول.
حقيقة الخلاف بين المنهجين
وحقيقة الخلاف بين المنهجين تكمن في طريقة تعامل المسلمين مع نبيهم -عليه الصلاة والسلام- وشدة ارتباطهم بسنته، فحينما يتخذون سيرته وسنته نهجاً وشعاراً ودستورا، يصبح من العبث الاهتمام بالشكليات وإحياء ذكرى ولادته بالمدائح والأشعار وصنع الحلوى؛ إذ لا معنى لذلك، والرسول - صلى الله عليه وسلم - حاضر في كل تفاصيل حياتهم، موجّه لأفعالهم وأفكارهم، ولا شيء عندهم مُقدم على العناية بحديثه جمعا وحفظاً وتدويناً وفقهاً لأحكامه ومعانيه.
في المقابل: فإنه عند ضعف التدين، وتخلي الناس عن الالتزام بكثير من الواجبات والسنن المستحبَّة، وظهور البدع الفكرية والسلوكية في حياة المسلمين،عندئذ يكون الاحتفاء والاحتفال بالرسول - صلى الله عليه وسلم - على طريقة الأشعار والأناشيد في ذكرى مولده الشريف، فالفارق بين المنهجين هو منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياة أتباعه وأمته.
المقارنة بين نهج الأولين ونهج المتأخرين
ويكفي للدلالة على ذلك المقارنة بين نهج الأولين من السلف مع نهج المتأخرين من الخلف بالنسبة لثلاثة أمور:
- شعر المدائح النبوية.
- ومستوى الغلو في تعابير الشعراء.
- ومؤلفات العلماء حول مولده الشريف - صلى الله عليه وسلم .
والنتيجة المقطوع بها بعد المقارنة: أن شعراء المتأخرين أكثر اهتماما بالمدائح النبوية بطريقة لا تقارن مع اهتمام الأولين بها، وكذلك الشأن في درجة الغلو؛ فأشعار المتقدمين تكاد تخلو من الشطح والغلو المذموم في وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخلاف شعر المديح في القرون الوسطى كما هو الحال في بردة البوصيري.
لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للمؤلفات في مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - فمعظها - وربما - كلها كُتبت بعد انقضاء المائة السادسة من تاريخ الإسلام.
لا يقتصر الأمر على ما سبق؛ فشواهد التاريخ والحاضر يؤكدان حقيقة الارتباط بين مستوى التدين والتمسك بالسنة لدى المسلمين في زمان ما، وبين اهتمامهم بإحياء ذكرى المولد.
وعليه فتخصيص ذكرى ولادته - صلى الله عليه وسلم - بإظهار الفرح وانشاد المدائح له دلالة على النهج الذي تعتمده الأمة في التعامل مع نبيها ومنزلته في حياتهم، والنهي عن إحياء هذه المناسبة أمر ضروريّ لترسيخ مكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمته موجّهاً وقائداً وقدوة، ومنع تحويله إلى مجرّد رجل عظيم، يُستدعى كل عام لاستذكار مآثره والتغنّي بجميل صفاته، كما تفعل سائر الأمم مع عظمائها ورموزها الروحية والسياسية.
ثانيا: محدثات الساسة وأفعال العوام ليست من الدين
يقر الموافق والمخالف بأن إحياء المولد النبوي كان من عمل بعض الأنظمة الحاكمة التي تسلطت على بلاد الإسلام، وأن هذه العادة ارتبطت بالرعاية والدعم السياسي لها، وأنها قبل ذلك لم تكن مألوفة في المجتمعات المسلمة في القرون الثلاثة الأولى، وبعد أن شرعت السياسة إحياء المولد وتتابع العوام على فعله، التمس بعض العلماء الأدلة على فضله ومشروعيته واستحسان العمل به، فالنهي عن هذه العادة يأتي في سياق محاربة الدخيل من الأفكار والسلوكيات، سواء تلك الوافدة من الأديان والأمم الأخرى، أم تلك التي استحسنها الملوك والولاة وشرعوها لشعوبهم، وتنقية الدين من هذه العوائد من أهم أعمال المصلحين المجددين، ولا يحْسن بالعالم أن يكون متابعاً وموافقا لما أحدثته السياسة وجرى عليه عمل العوام، وتأكيد بدعية المولد يصل حاضر الأمة بماضيها الأول وطريقة الأسلاف في التعبُّد والتديّن، ويمنع من الاعتراف بشرعية ما لحق بالدين من طقوس وأفكار ليس لها أي سند صحيح أو وجه مقبول في الدين.
ثالثاً: سدّ منافذ الغلو في النبي -صلى الله عليه وسلم
من أعظم مقاصد النهي عن إحياء المولد: سدّ منفذ من منافذ الغلو في شخصه - صلى الله عليه وسلم -، وهو الأمر الذي حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - مبكرًا.
ويقترن الغلو المذموم ببدعة المولد من وجوه عدة نقتصر على اثنين منها:
1-الخروج عن الحد المشروع في وصفه والثناء عليه - صلى الله عليه وسلم - : وقد فتح البوصيري للشعراء الباب أن يطلقوا ألسنتهم بما شاؤوا من عبارات المدح، وقد توسع الشعراء والصوفية في ذلك توسّعًا كبيرًا، فنسبوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خصائص الألوهية فقصدوه بالدعاء مستغيثين به كما يسأل العباد ربهم ويستنجدونه، وزعموا أنه سبب وجود الأكوان والعوالم، ولولاه لم يخلق الله الأفلاك وأجرام السماء والعرش والكرسي، وأن الكون خُلق من نور محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونحو ذلك من المبالغات والغلو الممقوت شرعا وعقلاً ولا صلة له بمحبة النبي وتوقيره - صلى الله عليه وسلم .
2-القيام عند ذكر ولادته: ومن وجوه الغلو التي ابتدعها المتأخرون في ذكرى المولد، والحكم بكفر من يرفض القيام أو الزعم بأن ترك ذلك من علامات الابتداع.
رابعاً: إحياء المولد مخالف لمبدأ الاحتفال الديني في الاسلام
لو قصدنا الحديث عن الأعياد والاحتفالات الدينية في الإسلام سنجد أنها مميزة بأمرين:
- الأول: تخصيص الشارع لها دون غيرها من الأيام والمناسبات كيوم الفطر (عيد الفطر) ويوم النحر (عيد الأضحى).
- الآخر: أن مظاهر الاحتفال في الأيام الفاضلة التي ميزها الشارع وخصها دون غيرها تقتصر على العبادة دون أي طقوس أخرى.
- ففي يوم عاشوراء: شُرع الصيام.
- وأيام التشريق وصفها الشارع بأنها أيام أكل وشرب وذكر لله -عز وجل.
- وفي يوم الجمعة الذي ورد النص أنه يوم عيد جعله الله للمسلمين: شُرع الاغتسال والتبكير إلى صلاة الجمعة والإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتفرغ للدعاء في آخر ساعة من نهارها؛ رجاء لإدراك الإجابة.
- وفي الاثنين اليوم الذي ولد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وبُعث، استُحب الصيام، وذلك عامٌّ في سائر السنَة دون تحديد شهر أو يوم بعينه.
وليس فيه تخصيص لذكر المولد بل هو مقرون ببعثته و نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم ، وذكر ولادته يوم الاثنين من باب الخبر، ونظيره: خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يوم الجمعة هو خير يوم طلعت عليه الشمس، فيه خُلق آدم، فالجمعة خير من الاثنين مع أن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأنبياء وسيدهم.
بل حتى صيام يوم الاثنين استحب لأسباب أخرى، ورد في الخبر من ذلك أن أعمال العباد تُعرض أو تُرفع إلى الله يومي الاثنين والخميس، وفي هذا تأكيد؛ لأن علمنا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد يوم الاثنين كعلمنا بأن آدم -عليه السلام- خُلق يوم الجمعة، فهي معرفة لا يتبعها أي عمل سوى الصيام، وذلك طيلة أسابيع السنة طلباً لارتفاع الأعمال والعبد صائم.
فسائر الأيام والمناسبات التي خصها الشارع بالذِّكر وميّزها دون غيرها من الأيام لم يُشرع غير العبادة دون أي مظهر آخر من مظاهر الاحتفال، ولذلك لم يعرف المسلمون الأوائل الاحتفال بذكرى بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ولادته أو هجرته، أو ذكرى الإسراء والمعراج فضلا عن ذكرى الفتوح والمعارك الكبرى التي شهدها النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتصر فيها على الكفار كيوم بدر الذي وصفه الله بأنه يوم الفرقان، ويوم الخندق وفتح خيبر وفتح مكة.
خامساً: عدم الاغترار بآراء فقهية صدرت في زمن سيادة التصوف
سبق أن ذكرنا أن الحديث عن شرعية المولد واستحبابه جاء متأخراً عن العمل به، وفي مسائل التعبد والاعتقاد ينبغي الحذر من فتاوى صدرت في القرون الوسطى من تاريخ الإسلام حينما هيمن التصوف على الحياة الدينية، وألقى بظلاله على آراء العلماء في مسائل عديدة، تابعوا فيه ما اختاره الصوفية وشرّعوه للعوام، أو لما اعتاده العوام جيلا بعد جيل دون نكير أو تحذير من علماء زمانهم، ورد هذا النوع من الفتاوى يكون بمناقشتها ونقض أدلة المجيزين من جهة، ومعارضتها بفتاوى معارضة لمبدأ المولد من جهة ثانية.
وينبغي تأكيد أن الحكم ببدعية المولد ليس رأياً للسلفيين المعاصرين، بل هو رأي جمع من علماء المالكية، كالشاطبي والفاكهاني وآخرين، ذكرهم الونشريسي في المعيار المعرب، فضلا عن الشوكاني، إلى محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي ومحمد رشيد رضا ومحمد البشير الإبراهيمي والخضر حسين من المتأخرين.


مركز سلف للبحوث والدراسات