طغيان الأدب العامي


عبدالله بن إبراهيم الهويش





قرأتُ كلمة جيدة للأخ الشاعر عبدالله الرشيد عن الأدب العاميّ، وقد يكون الحديث عما يسمى بـ "الأدب العاميّ" وخاصة الشعر منه، وبروزه في حياتنا الثقافية المعاصرة -: قد يكون هذا من الأحاديث المعادة المكررة، وقد لا يكون فيه مجال للإضافة أو التجديد بعد أن طُرِح على أكثر من صعيد، إلا أنه يلاحظ زيادة الاهتمام والعناية به رغم كل ما قيل عن خطورة التركيز عليه، والتوسّع في نشره وترويجه - وبخاصة المعاصر منه - فأنت ترى الصفحات الشعبية صارت تقليدًا صحفيًّا، لا يمكن الاستغناء عنه في نظر موجِّهي صحافة اليوم، وهذه النَّدوات تُعْقَدُ لدراسته وإنشاده، وهذه الشهادات تمنح في مجال خدمته، وهذه المطابع ودور النشر تتنافس في إخراج دواوينه في أشكال جذابة، وطبعات فاخرة، قلَّما يحظى ببعضها الأدب الفصيح، حتَّى إنَّ مَن يدخل مكتبة من المكتبات يكاد يصاب بالذهول والدوار؛ لكثرة ما يعرض منه، وهذا الجهد المبذول فيه، وهكذا حظي هذا الشعر العاميّ، الذي يهدم قواعد اللغة العربية وأصولها، بكل هذه العناية والرعاية في مهد العربية، ومهبِط وحيها، وعلى سمع أبنائها وبصرهم؛ بل وبأيديهم.

ولست أعني هنا الشعر العاميَّ الموروث من أمثال أشعار ابن سبيل، والعوني، وحميدان، والخلاوي، وأضرابهم، فهو شعر أدَّى دوره في زمنه، وكان وسيلة التعبير المتاحة يومئذٍ، إضافة إلى أنه سِجِلٌّ حافل بأحداث عصره، وصورة صادقة لمجتمعه، ومورد مهم في مجال التاريخ، وتحديد المواقع وغيرها.


وليس الشأن في هذا كالشَّأنِ في الشعر العامّيّ المعاصر، بعد انتشار التعليم وتيسُّر سُبُلِه، وباستطاعة من لديه الموهبة الاتجاه إلى الشعر الفصيح بدلاً مِن قتْل موهبته في هذا الشعر المَحَلِّيّ المحدود، مما يُفقده الديمومةَ والانتشار والخلود.


علمًا أن محاولة تأصيله، وترويجه بهذا الشكل الموجود الآن، هو - بدون ريب - إبقاءٌ لعصر الأُميَّة الذي كنَّا فيه، فضلاً عمَّا في ذلك من إضعاف الصّلة باللّغة الفصحى، تمهيدًا للتخلّي عنها، وإحلال اللهجات العامّيَّة محلَّها.


ثم ما معنى هذه الجهود والطاقات، التي تُبْذَلُ في مدارِسنا وجامعاتنا في سبيل تعليم الفُصْحَى وتعميمها، وتعميقها في حياتِنا المعاصرة، إذا كان مثل هذا الشعر العامّيّ سيوضع على قدم المساواة مع الشعر الفصيح؟!


ولستُ في حاجة إلى التأكيد على خطورة هذا الاتجاه، وعُمْقِ أثره على المدى البعيد، فهو يعني تركيز العامية في وقتٍ نحن في أشدّ الحاجة إلى محاربتها، وتربيةِ النشْءِ على الفصحى، لغة القرآن الكريم، والتشبثِ بها، وتوسيعِ دائرتها، وتعويدِ الألسن على أدائها، والنطقِ بها صحيحةً سليمةً.


ولعلَّ خيرَ مَن عالَج هذه القضية المهمة بعمق وأصالة، الأستاذُ الفاضل مرزوق بن تنباك، في كتابه القيم "الفصحى ونظرية الفكر العاميّ" الذي يُعدُّ بحثًا أصيلاً في هذا المجال.