تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 16 من 16

الموضوع: أعمال القلوب

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي أعمال القلوب

    أعمال القلوب


    اعتاد المكوث في المسجد بين العشائين، يقرأ القرآن، ويستقبل أصحاب الحاجات، ويبحث في مكتبة المسجد، هكذا عرفته منذ انتقلت إلى هذا الحي، قررت الأحد الماضي أن أذهب إلى العشاء الآخرة باكرا لأجالسه، كان في مكتبة المسجد ومعه أحد المصلين، استأذنت أن اشاركهما، نظر إلى جليسه كأنه يطلب إذنه فرحب، ودعاني إلى الجلوس.
    - حديثنا لا خصوصية فيه، ولعلك تستفيد أو تفيد، كنت أشكو إلى الشيخ أحوال قلوبنا، في رمضان كنا نتقلب في الطاعات، ونزداد في القربات، ونكثر من العبادات، وكذلك في أوائل ذي الحجة، وبعد أن انتهي الموسم لا نرى أثرا لما كنا فيه، ونرجع إلى ما كنا عليه!
    تحمست قليلا، وعلقت:
    - هذا حال معظمنا -إن لم نكن كلنا كذلك.
    تدخل إمامنا موضحا:
    - إن تقلب أحوال العبد في الإيمان أمر طبيعي؛ فالإيمان يزيد وينقص، ولكن العبرة هي: هل الزيادة من الإيمان إلى الإحسان، أم من الإسلام إلى الإيمان، أم من الطاعات إلى المعاصي أم من الوجبات إلى المنهيات؟ هذا ما يجب أن يقلق عليه المرء، فالصحابة -رضوان الله عليهم- شكوا حال قلوبهم.
    رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث حنظله قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فذكرنا الجنة والنار حتى كأنا رأي العين، فأتيت أهلي وولدي فضحكت ولعبت، ثم ذكرت ما كنا عليه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فخرجت فلقيت أبا بكر - رضي الله عنه -، فقلت: نافقتُ نافقتُ، فقال أبا بكر: إني لأفعله، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك فقال: يا حنظلة لو كنتم تكونون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم أو في طرقكم، يا حنظلة ساعة وساعة» صحيح على شرط مسلم.
    فالصحابة كانوا يتقلبون بين الإيمان والإحسان، وبعض الناس يستغل هذا الحديث ليسوغ تقلبه بين الطاعة والمعصية، يقول: ساعة وساعة!
    على أية حال، ينبغي على المرء أن يعلم بعض الثوابت عن أعمال القلوب، حتى يعرف كيف يحافظ على إيمانه، وثواب أعماله.
    - أولا: أعمال القلوب أعظم عند الله من أعمال الجوارح؛ ولذلك كان القلب محل نظر الرب -عز وجل- كما في الحديث: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» وأشار إلى صدره . (مسلم).
    وفي المسند عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله -عز وجل- لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
    - ثانيا: القلب السليم يثمر عملا صالحا، أما العمل الصالح فلا يدل على سلامة القلب، كما في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، متفق عليه.
    - ثالثا: أعمال القلب تؤدي إلى الخلود في النار أو النجاة منها؛ وذلك أن من أعمال القلب الشرك، والنفاق، وهذه تخلد في النار، ومن أعمال القلب توحيد الله -عز وجل- والإيمان بـ(لا إله إلا الله)، وهذه منجية من النار.
    - رابعا: أعمال القلوب إما أن تحبط أعمال الجوارح، أو تبطل نفعها، أو تقلل أجرها؛ فثواب أعمال الجوارح يعتمد على أعمال القلوب، والأدلة على ذلك كثيرة، منها: حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الرجل ليصلي ولعله ألا يكون له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها» حسن. وفي حديث الصيام والقيام عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر» صحيح الجامع.
    وهذه من أعظم أعمال الجوارح، الصلاة والصيام.
    - خامسا: أعمال القلوب تحتاج إلى عناية مستمرة، أما أعمال الجوارح فيجب مراعاتها في أثناء أدائها، وذلك أن العبد يحتاج إلى الحرص على طهارة القلب وعدم تنجسه دائما، أما طهارة البدن فلا يحتاج إليها إلا إذا أراد العبادة، وكذلك سلامة القلب من الكبر، ومن الحسد، والبغض والشحناء وإلا حرم الأجر، بل والعفو، والعتق من النار؛ بسبب هذه المعاصي القلبية، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس؛ فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء؛ فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا» مسلم.
    دخل المجلس مؤذن المسجد، قبل موعد الأذان بعشر دقائق، نبهنا إلى الوقت، ثم خرج إلى مكان الصلاة ينتظر موعد الأذان.
    تابع الإمام حديثه:
    ودعونا نختم الآن بحقيقة شديدة عن أعمال القلوب، وهي أن القلب شديد التقلب، ولذلك يحتاج إلى جهد عظيم ودائم ليبقى على استقامته، مع الاستمرار بالدعاء؛ ففي الحديث عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليا» الصحيحة، وكان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث عن أم سلمة أنها قالت: «كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم- يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقيل له في ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقامه، ومن شاء أزاغه»، الصحيحة.

    د. أمير الحداد

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب (3) الإخلاص


    «الصادقون مع الله قسمان، قسم صدقوا ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل وجعلوها دأبهم، وقسم صرفوا ما فضل من الفرائض إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم من تصحيح المحبة والخوف والرجاء والتوكل، وشتان بين هؤلاء وأولئك!» ابن القيم.
    - هذه القضية وهي قضية كبرى، يغفل عنها أكثر الناس، بل أكثر الصالحين الملتزمين دين الله.
    - تعني، أعمال القلوب، والعمل على إصلاحها؟
    - نعم.
    كنت وصاحبي في رحلة قصيرة إلى المدينة المنورة، وتركنا موضوع العمرة إلى الظروف هناك إن تهيأت.
    - لا شك أن أعمال القلوب أشد وأصعب من أعمال الجوارح، أين تطهير القلب، من تطهير البدن؟ وأين مراقبة الله، من صلاة ركعتين، وأين الخوف من الله من ترك المسكرات؟ فأعمال القلوب صعبة شديدة، والفائز من تيسرت له وعمل بها.
    - مثلا، الإخلاص، عمل عظيم من أعمال القلوب، وهو أصل كل عمل صالح من أعمال الجوارح، والعبد يحتاج إلى مجاهدة عظيمة حتى يحققه ويستحضره دائما.
    وذلك أن كل عمل مهما صغر، ينشر له ديوانان: لم؟ وكيف؟
    فالأول: هو الإخلاص، والثاني هو المتابعة، ولا يقبل إلا بهما.
    ومن حقق الإخلاص في قلبه، فاز، ودخل في وصف الله -تعالى-: {عباد الله المخلصين}، كما في قوله -تعالى- عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83).
    كانت رحلتنا بالطائرة، مع أولى الرحلات المباشرة من الكويت إلى المدينة، قطع المضيف حديثنا بتقديمه القهوة والتمر.
    تابعنا الحديث:
    - دعني أقرأ لك بعض ما جمعت من كتابات ابن القيم -رحمه الله-: «ولا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة الثناء والمدح من الناس، فإذا طلبت الإخلاص فازهد في المدح والثناء».
    والإخلاص من أعمال القلوب الواجبة، التي إن تخلفت عن العبادات، حبط أجرها، وإن صاحبت العادات، ثبت أجرها.
    وفي تعريف الإخلاص ورد الكثير من أقوال العلماء ومنها، تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين، وذلك أن مدار الإخلاص في اللغة، الصفاء والتميز عن الشوائب، وهو أشد شيء على النفس؛ لأنها لا نصيب لها فيه.
    وفي بيان عظيم ثواب الإخلاص يذكر العلماء حديث البطاقة، عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مثل هذا، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه التسجلات؟ فقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء».
    يقول شيخ الإسلام -معلقا على حديث البطاقة-: «فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة».
    - يظن كثير من الصالحين أن تحقيق الإخلاص سهل ولا يستدعي كل هذا الجهد الذي تقوله.
    - ذلك أنهم لا يعلمون حقيقة الإخلاص، ودعني أذكر لك ما ورد في درجات الإخلاص حتى تبين لك صعوبته.
    الدرجة الأولى:
    إخراج رؤية العمل عن العمل، والخلاص عن طلب العوض عن العمل، والنزول عن الرضى بالعمل.
    - فالأولى: يشاهد منة الله -تعالى- وتوفيقه له على هذا العمل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ}.
    - الثانية: ليعلم أنه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضا.
    - الثالثة: مطالعته عيوبه وآفاته وتقصيره فيه.
    الدرجة الثانية:
    الخجل من العمل مع بذل المجهود؛ حيث لا يرى العمل صالحا لله مع بذل المجهود {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}، فالمؤمن جمع إحسانا في مخافة، وسوء ظن بنفسه.
    الدرجة الثالثة:
    إخلاص العمل بالخلاص من العمل، إلا بنور العلم، فيحكمه في العمل حتى لا يقع في البدعة.
    كانت ردة فعل صاحبي تلقائية.
    - لا حول ولا قوة إلا بالله، حقا إنها مهمة صعبة، أن يحقق العبد الإخلاص، ويداوم عليه، دائما في كل عمل.
    - نعم، هو عمل عظيم! قليل من يوفق فيه، والصحابة -رضوان الله عليهم- لم يسبقونا بكثرة صلاة ولا صيام ولا ذكر، وإنما بشيء وقر في قلوبهم، ومما وقر في قلوبهم: (الإخلاص).
    أما ثمرات الإخلاص، فلا يعلمها إلا الله -عز وجل- وكلها خير في الدنيا والآخرة ولكن نذكر منها:
    - تفريج الكربات (قصة الثلاثة).
    - العصمة من الشيطان: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.
    - نيل شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «قلت يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: لقد ظننت يا أبا هريرة، ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه».
    - مغفرة الذنوب ونيل الرضوان: كما في حديث البطاقة.


    د. أمير الحداد

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب - التقوى



    تمكنت من إقناع صاحبي بأداء العمرة انطلاقا من المدنية، بعد أن يسر أولو الأمر على المسلمين بتشغيل قطار الحرمين، كانت تجربتنا الأولى في استخدام هذه الخدمة الجميلة للانتقال من المدينة إلى مكة والعودة في اليوم نفسه دون الشعور بالإرهاق وتعب السفر، أخذنا مقاعدنا المريحة، وأنا شخصيا من عشاق السفر بالقطار أينما كنت، أفضله على وسائل السفرة الأخرى كافة.
    - (التقوى)، غاية كل مسلم صادق، متى دخلت القلب، انتقل العبد من ماديات الدنيا، إلى الملذات الأخروية، وارتقى من حطام الدنيا، إلى نعيم الروح، وراحتها.
    - وما السبيل لنيل التقوى؟ وهل من نالها يفقدها؟ وكيف أعلم أني تحصلتها، وأحافظ عليها؟
    - التقوى مثل أعمال القلوب الأخرى، تزيد وتنقص، وتأتي وتذهب، وتظهر وتختفي، وتحتاج إلى مجاهدة لاستحضارها والمحافظة عليها دائما، وسبل الوصول إليها، كما في أعمال القلوب الكبرى، الصدق مع الله والعلم الصحيح من الكتاب والسنة، والعلم وفق هذا العلم، ودعاء الله -عز وجل.
    - لنناقش الأمر نقطة بنقطة، ولا تكثر علي، وعُدني أحد طلابك الجدد.
    هكذا علق صاحبي، الذي يكبرني عمرا، فما كان مني إلا أن نظرت إليه مبتسما، مستنكرا.
    - أنت أستاذنا الكبير يا (أبا عبدالله).
    - التقوى، شرعا عرفها كثير من علمائنا، وأحب دائما أن أستشهد بتعريف طلق بين حبيب: «أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله».
    - هذا التعريف، جمع العلم والعمل والقصد، كلام جميل.
    نعم، والعبادات سبيل لنيل التقوى، ولكن إن لم يحافظ العبد عليها، فإنها تمضي مع انتهاء العبادة، وأوضح مثال على ذلك الصيام، كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183)؛ فالعبد ينبغي أن يستغل هذه العبادات لاستحضار التقوى، ثم يبذل الجهد للمحافظة على التقوى وزيادتها، فقد ذكر الله التقوى وما يتعلق بها في أكثر من مائتين وخمسين آية في كتابه -عز وجل-، أحيانا يأمر -تعالى- الناس جميعا، وأحيانا المؤمنين خاصة، وأحيانا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل بما يناسب مقامه.
    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الحج:1).
    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران:102).
    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119).
    {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِي نَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الأحزاب:1).
    وفي أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء كثير لعل أشهرها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع أحدكم على بيع أخيه، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا، وأشار بيده إلى صدره، ثلاث مرات، حسب امرئ مسلم من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله وعرضه». مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر.
    تركنا مقاعدنا نتجول قليلا في ممر القطار إلى أن وصلنا دون سابق قصد إلى زاوية المرطبات، أخذنا حاجتنا، ورجعنا.
    - وثمرات التقوى لا يمكن حصرها، يكفي العبد منها أنها شأن عظيم أمر الله به، ويريد من عباده تحقيقه، ولكن دعنا نذكر شيئا مما يتحصله العبد بالتقوى.
    - محبة الله، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4-7).
    - معية الله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل:128).
    - الحفظ من الشيطان: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201).
    - انتفاء الخوف والحزن: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأعراف:35)، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133).
    - النجاة من النار: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (مريم:72).
    - انفراج الكرب في الدنيا: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق:2-3).
    وغيرها كثير، لا مجال لحصرها.
    وفي البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له قلبا» البخاري.
    ومكانة العبد عند الله بما في قلبه من تقوى.
    {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).
    ولا شك أن من تمكنت التقوى في قلبه، انعكس ذلك على جوارحه وأخلاقه، فتراه لا يقصر في حق الله ولا حقوق البشر، فيأتي العبادات التي أمر الله بها، ما استطاع، ويصدق مع الناس ويفي بالعهد ويكف الأذى ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وفق شريعة الله -عز وجل- ولا تأخذه في الله لومة لائم، وينقص من ذلك كلما نقصت التقوى.
    - نعم، التقوى شأنها عظيم، وقليل من يدركها ويحافظ عليها، مع أن سبيل نيلها واضح بين لمن أرادها، ويسير لمن صدق الله.
    - أحسنت، ولعلنا نذكر أنفسنا بما يعين على تحصيل التقوى، ومن ذلك، مراقبة الله، والإكثار من ذكره، والرجوع عن الخطأ والاستغفار من الذنب حال وقوعه، والتوبة منه، وتعلم أحكام الشرع واتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومصاحبة الأخيار الذين يذكرونك الله واليوم الآخر بمجرد رؤيتهم، ودعاء الله -عز وجل- دائما باتباع الحق، والثبات عليه.


    د. أمير الحداد


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب - حب الله



    «إن القلوب لا بد لها من تعلق بمحبوب؛ فمن لم يكن الله محبوبه ومعبوده، تعلق قلبه بغيره»، إغاثة اللهفان.
    يسر الله لنا العمرة، رجعنا إلى المدينة بعد تجربة رائعة في قطار الحرمين.
    - «حب الله» قضية يدعيها كل الخلق، ويبنون عليها أن الله يحبهم!
    يدعيها اليهود والنصارى والمبتدعة وحتى أصحاب الأهواء والشهوات، وينسون أن من ادعى شيئا يجب أن يقيم الحجة على ادعائه!
    - إنها كلمة عظيمة، وعمل قلبي كبير أن يحقق العبد (حب الله)، ولا شك أن لهذا العمل أركانه ودلالاته وثمراته.
    - نعم، هو كما قلت، ولنبدأ بقوله الله -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} (البقرة:165). وقوله -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. وقوله -سبحانه-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31). في هذه الآيات أثبت الله -عز وجل- حب المؤمنين له -سبحانه وتعالى- وبيّن مقياس هذا الحب وبرهانه، فلنعمق في هذه القضية الجميلة العظيمة من أعمال القلوب.
    أول أسباب حب العبد لله، أن يعرف الله معرفة صحيحة، ولا سبيل لمعرفة الله، إلا كتاب الله وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما بينها هو - صلى الله عليه وسلم - وكما فهمها من كانوا معه من الصحابة - رضي الله عنه -، معرفة أسماء الله الحسنى، وصفاته العُلا، تورث في القلب المحبة الصحيحة لله، فتدفع العبد إلى العمل بما أمر به المحبوب، والابتعاد عما نهى عنه المحبوب، لأن محبة الله، تمتزج بتعظيمه والخوف منه، والحياء من التقصير في حقه، ورجاء رحمته وعفوه، والأمل نيل رضاه، هذه كلها مترابطة لا تنفصل عن بعضها بعضاً؛ ولذلك من سعى إلى حب الله، دون تعظيم وخوف وقع في بدع المتصوفة، الذين شبهوا حب الله بحب المخلوق من حب وغشق ووله، دون تعظيم أو خوف أو خشية!
    فإذا عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته، عظم أوامره، فأتى الواجبات وانتهى عن المحرمات، وزاد بالنوافل والمستحبات، كما في الحديث القدسي، عن أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -تعالـى- يقول: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما افترتضه عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت بشيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد منه» البخاري. كنا في صالة الانتظار نتناول مشروبات ساخنة بانتظار موعد إقلاع طائرتنا.
    - وهذا الحديث يستشهد به أهل البدع؛ لأنهم لم يفهموه كما فهمه الصحابة الذين سمعوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وباختصار، أن غاية محبة العبد لله -عز وجل- ألا يرى إلا ما يرضي الله، ولا يسمع إلا في طاعة الله، ولا يبطش إلا في أمر الله، ولا يمشي إلا في رضى الله -عز وجل-، فمن كان كذلك فقد بلغ المراد -بإذن الله-، وحديث أن البشر يقع في الخطأ والمعصية؛ فإن المحب لله، إذا عصا تاب، وإذا أذنب آب، وإذا قصّر استغفر، ولا يستغني أحد، عن التوبة والاستغفار أبدا!
    ولا شك أن حب المؤمنين لله -عز وجل- يتفاوت، ونؤمن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان أشد الخلق حبا لله، ثم الأنبياء -عليهم الصلام والسلام-، ثم الصحابة -رضوان الله عليهم-، وحتى العبد، يكون في درجات متفاوتة من حبه لرب العالمين، وإن كان الأصل موجودا في القلب إلا أن درجات المحبة تزداد بالطاعات وتنقص بالمعاصي. {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31). وليس عند القلوب السليمة أجمل ولا أطيب ولا أنعم من محبة الله -عز وجل، كما في الحديث:
    عن أنس - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار»، متفق عليه. وفي الواقع هذه الثلاث ترجع إلى واحدة (حب الله -عز وجل).
    ودلائل حب العبد لله كثيرة، منها ما ورد في هذا الحديث، ومنها الراحة والتلذذ بالطاعات، ولاسيما الفرائض، كالصلاة والصيام «وجعلت قرة عيني في الصلاة»، ومنها التلذذ بسماع كلام الله والسعادة بطاعة الله والفرحة بإنجاز أوامر الله، كالفرحة عند الفطر بعد الصيام وإتمام الحج، وختم القرآن، وقضاء حوائج المسلمين، وغيرها من الطاعات، يأتيها برغبة، ويفرح أن أداها، {وإلى ربك فارغب} الشرح، ولا يستغني العبد عن دعاء الله أن يرزقه محبته؛ فإن المطالب العظمى لا تنال إلا بتوفيق الله، وهذه نعمة عظيمة من الله يتفضل بها على من يستحقها بحق.
    فقد ورد في الحديث عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: «احتبس عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعا فثوب بالصلاة، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجوز في صلاته، فلما سلم دعا بصوته فقال لنا: على مصافكم كما أنتم ثم انفتل إلينا فقال: أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: أني قمت من الليل فتوضأت فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي فاستثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد قلت: رب لبيك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب، قالها ثلاثا قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في المكروهات، قال: ثم فيم؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام. قال: سل. قل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحبّ عملٍ يقرِّبُ إلى حُبِّك، قال رسولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إنّها حقٌّ فادرُسوها ثمّ تعلّموها». قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؛ فقال هذا حديث حسن صحيح ( تحقيق الألباني: صحيح مختصر العلو).


    د. أمير الحداد

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب - الخوف والرجاء





    التقينا بعد انقطاع السفر في الصيف، قضى صاحبي عطلته الصيفية في أوروبا، وقضيتها أنا في شرق آسيا، ثم تركيا، لفترة امتدت أسبوعين تقريبا، كان أول لقاء لنا بين العشائين.
    المراقبة أساس أعمال القلوب جميعا، ولقد جمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصول أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة (الإحسان): «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
    - صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكما قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون» مسلم.
    - لماذا لا يذكر الخوف إلا وذكر الرجاء، ولا يذكر الرجاء إلا وذكر الخوف وكأنهما مقترنان أبدا؟
    - تعجبني ملاحظتك الدقيقة يا (أبا أحمد)، نعم هما مقترنان، ودعني أقرأ لك من كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله:
    «الخوف سوط يضرب به العبد نفسه؛ لئلا تخرج عن الدرب، والرجاء حاد يحدوها، يطيب لها السير، والحب قائدها زمامها الذي يسوقها به». وفي موضع آخر: «الخوف يبعدك عن معصيته، والرجاء يخرجك إلى طاعته، والحب يسوقك إليه سوقا». وفي موضع ثالث: «القلب في سيره إلى الله -عز وجل- مثل الطائر، المحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه».
    كان حديثنا في الديوان الملحق بالمسجد، وهو مكان للراحة، وفيه أدوات إعداد القهوة والشاي، ومكتب صغير، نستخدمه في عقود الزواج، وغير ذلك.
    - أراك تستشهد كثيرا بكتب ابن القيم مؤخرا!
    - نعم، لأننا نتحدث عن (القلب)، وما يتعلق به، والإمام ابن القيم مرجع في هذه القضايا، يفصل فيها تفصيلا لا تجده عند غيره.
    إليك بعض ما كتب:
    الخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة التي عليها مدار مقامات السالكين جميعها، وهي الخوف والرجاء والمحبة، وقد ذكره -سبحانه- في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء:57)، فجمع بين المقامات الثلاثة؛ فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو التقرب إليه بحبه وفعل ما يحبه، ثم يقول: ويرجون رحمته ويخافون عذابه؛ فذكر الحب والخوف والرجاء.
    وقد أثنى -سبحانه- على أقرب عباده إليه بالخوف منه؛ فقال عن أنبيائه -بعد أن أثنى عليهم ومدحهم-: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} (الإنيباء:90)، فالرغب الرجاء، والرهب الخوف، وقال عن ملائكته الذين قد أمنهم من عذابه: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل:90)، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والله إني لأعلمكم بالله -عز وجل- وأخشاكم له» مسند الإمام أحمد. فكلما كان العبد بالله أعلم، كان له أخوف، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - وكفى بخشية الله علما. والخوف ينشأ من ثلاثة أمور، أحدها: معرفته بالجناية وقبحها، والثاني: تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها، والثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب، فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه.
    وورد عن أمير المؤمنين على - رضي الله عنه -: «لا يرجوَنَّ عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه» فجعل الرجاء متعلقا بالرب- سبحانه وتعالى-؛ لأن رحمته من لوازم ذاته وهي سبقت غضبه، وأما الخوف فمتعلق بالذنب فهو سبب المخافة حتى لو قدر عدم الذنب بالكلية لم تكن مخافة.
    فإن قيل فما وجه خوف الملائكة وهم معصومون من الذنوب التي هي أسباب المخافة، وشدة خوف النبي مع علمه بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأنه أقرب الخلق إلى الله، قيل عن هذا أربعة أجوبة، الجواب الأول أن هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنزلة عنده، وكلما كان العبد أقرب إلى الله، كان خوفه منه أشد.
    الجواب الثاني: أنه لو فرض أن العبد يأتى بمقدوره كله الطاعة ظاهراً وباطناً؛ فالذي ينبغي لربه -سبحانه- فوق ذلك وأضعاف أضعافه.
    الجواب الثالث: أن العبد إذا علم أن الله -سبحانه وتعالى- هو مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرء وقلبه، وأنه - سبحانه وتعالى - كل يوم هو في شأن، فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه، ويزيغه بعد إقامته؟ وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقولهم: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} (آل عمران: 8)، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه ألا يزيغ قلوبهم.
    الجواب الرابع: أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يخلق أفعال العبد الظاهرة والباطنة؛ فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلب، ويجعل التوبة والإنابة والإقبال والمحبة والتفويض وأضدادها، والعبد في كل لحظة مفتقر إلى هداية يجعلها الله في قلبه، وحركات يحركها بها في طاعته.
    والخوف يزول في الجنة؛ لأن تعلقه إنما هو بالأفعال لا بالذات كما تقدم، وقد أمنهم ما كانوا يخافون منه؛ فقد أمنوا ألا يفعلوا ما يخافون منه، وأن يفعل بهم ربهم ما يخيفهم ولكن كان الخوف في الدنيا أنفع لهم؛ فبه وصلوا إلى الأمن التام فإن؛ الله- سبحانه وتعالى- لا يجمع على عبده مخافتين اثنتين؛ فمن خافه في الدنيا أمنه يوم القيامة، ومن أمنه في الدنيا ولم يخفه أخافه في الآخرة، وناهيك شرفا وفضلا بمقام ثمرته الأمن الدائم المطلق!.


    د. أمير الحداد

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب - اليقين


    {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة3-4).
    جاري في المنزل المقابل، أستاذ جامعي من السودان، ويدرس الشريعة في إحدى الجامعات الخاصة، وهو دمث الخلق، جميل المعشر، لا تفارق الابتسامة محياه، ولا يتردد في إلقاء الخواطر، والمواعظ الخفيفة القصيرة، في أي مجلس مكان.
    - أما اليقين، فهو العلم الجازم الذي لا يشوبه شك، واستقرار هذا العلم في القلب؛ فلا يتزعزع ولا يضطرب، ومنه يقال (ماء يقن)، إذا استقر عن الحركة. و(اليقين) ضد الشك، وهو ركن من الإيمان، بمعنى أن الإيمان إن لم يكن عن يقين، ينتقض، فالإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، كلها يجب أن تكون عن يقين لا شك فيه، بكل ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة.
    - هل اليقين درجة واحدة، أم درجات يسعى العبد لتحقيقها، ويرتقي فيها؟
    كان السائل أحد طلبة العلم، كثير الاطلاع والمتابعة للدروس والمحاضرات، التفت إليه الشيخ بابتسامته المعهودة.
    - سؤال جميل، وجيد، لا شك أن اليقين درجات يرتقي خلالها العبد، والناس يتفاوتون في درجات اليقين، ولكن الحد الأدنى هو اليقين بما أخبر به الله -عز وجل- وثبت في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من أمور الغيب كالإيمان بالله والملائكة والجنة والنار، والجن، والصراط والحوض، وغيرها وإليكم بعض التفصيل في ذلك:
    {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (النمل:3) و(لقمان:4)، أما الكفار فقد أخبر الله عنهم: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِي نَ} (الجاثية:32)، فهذه علامة فارقة بين الإيمان والكفر. يقول ابن القيم: «ودرجات اليقين ثلاث: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وقبول ما غاب من الحق والوقوف على ما قام بالحق، استوقفت صاحبي:
    - مهلا شيخنا الفاضل، أرجو أن تحدثنا بطريقة أسهل حتى تصل المعلومة لعامتنا، ابن القيم يخاطب طلبة علم متخصصين.
    - لك ذلك.
    أما قبول ما ظهر من الحق فهو قبول أوامر الله ورسوله والإذعان لها وعدم رد شيء من الآيات أو الأحاديث أو الأوامر أو النواهي، وقبول ما غاب من الحق، كالإيمان بما ورد من قضايا الغيب، والوقوف على ما قام بالحق، وتطبيق شرع الله والعمل بمقتضى أمر الله، أما عين اليقين: فهو مشاهدة ما كان غائبا، من أمور الآخرة ويحصل ذلك بعد الموت، مشاهدة بعض ما أخبر الله عنه كالملائكة وأنواع النعيم وأنواع العذاب، وكل ذلك يشاهد في الآخرة أيضا.
    أما حق اليقين فهو التلبس بالأمر بعد دخول الجنة للمؤمنين والنار للمجرمين، ولذلك وصف الله -تعالى- كتابه بأنه ينبغي أن يكون في أعلى درجات اليقين، فقال -سبحانه-: {وإنه لحق اليقين} (الحاقة:51).
    وهذا ما ينبغي أن يسعى إليه المؤمن ليناله فينعكس ذلك على جوانب حياته كافة، في النعماء والضراءوفي كل تقلبات الدنيا كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: «يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم لو أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (صحيح أحمد والترمذي).
    فاليقين يجب تحقيقه في قضايا الإيمان، ويحتاج إليه المؤمن في أمور الحياة ليعيش حياة مطمئنة، كما في الدعاء، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلس حتى يدعو بهذه الدعوات لأصحابه: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا» (حسنه الألباني)، وكذلك يحتاج العبد لليقين في دعائه لله -عز وجل- كما في الحديث: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة؛ فإن الله لا يستجيب لعبد دعاء عن ظهر قلب غافل» (الصحيحة).
    - وأين يكون التفاوت بين الناس؟
    - التفاوت يكون بما يستقر في القلب من اليقين، وحتى يتحصل العبد على اليقين يجب أن يتحصل على العلم ويعمل بمقتضاه ويدعو الله -عز وجل- أن يرزقه اليقين، والله يعطي كل عبد ما يستحق من الخير؛ لأن الله يعلم ما في القلوب، والقلب هو محل نظر القلب.
    كعلم العبد أن الله رب كل شيء وملكيه، ولا خالق غيره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ فهذا قد تصحبه الطمأنينة إلى الله والتوكل عليه وقد لا يصحبه العمل بذلك، إما لغفلة القلب عن هذا العلم، والغفلة هي ضد العلم التام، وإن لم تكن ضد أصل العلم، وإما للخواطر التي تسنح في القلب من الالتفات إلى الأسباب وإما لغير ذلك. فأهل اليقين إذا ابتلوا ثبتوا، بخلاف غيرهم فإن الابتلاء قد يذهب إيمانه أو ينقصه.
    وأما كيف يحصل اليقين فبثلاثة أشياء: أحدها: تدبر القرآن، والثاني: تدبر الآيات التي يحدثها الله في الأنفس والآفاق التي تبين أنه الحق. والثالث: العمل بموجب العلم.
    تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تفتتح بالمحبة واليقين وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم. (من مدارج السالكين).


    د. أمير الحداد

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب - محبة النبي محمد صلى الله علي



    من تمام محبة الله، محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه أحب الخلق إلى الله.
    - ما تقول في تلك القصائد التي تمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاسيما في المجالس التي تعقد للاحتفال بميلاده؟
    صاحبي من بلاد المغرب العربي، حريص على الصلاة، محب لكل ما هو من الدين، ينقصه الكثير من العلم الشرعي، مجتهد في عمله.
    - لا شك أن حب النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب على كل مسلم، سواء بأمر الله، أم بما لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - من صفات وأخلاق، أم لما أداه، وسوف يؤديه لهذه الأمة يوم القيامة، كلها توجب حب النبي - صلى الله عليه وسلم -، حبا صادقا خالصا، وهذا لا يقتصر على الصاحبة الذين عاشوا معه - صلى الله عليه وسلم - بل على جميع الأمة إلي يوم القيامة؛ لأن مقتضبات محبته قائمة دوما. ففي الحديث، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين» (البخاري).
    - وكيف ينال العبد هذا الشعور بصدق؟ لأني صراحة أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن لا أشعر أنه أحب إلي من كل شيء! هذا شعور نظري وليس واقعيا.
    عجبت من صدق صاحبي وصراحته.
    - محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب أن ينميها العبد في قلبه، وذلك بخطوات، أولا: أن يعلم يقينا أن هذه المحبة واجبة، فيسعى إلى تحصيلها، وذلك بأمور عدة، أولا: يتعرف على حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته، ولاسيما بعد أن بعث رسولا لهذه الأمة، ويحرص على هذا العلم كلما سنحت له فرصة، فيقرأ ويستمع ويتابع سيرته - صلى الله عليه وسلم .
    - ثانيا: يعرف مكانة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الله -عز وجل- وكيف أن الله اصطفاه، ورباه، وشرفه، وأكرمه، وفضله على باقي الأنبياء والرسل، ورفع ذكره، وجعل له مكانة في الآخرة وهي (الوسيلة) وليست لأحد غيره، كما في الحديث، عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي صلاة صل الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو؛ فمن سأل لي الوسيلة، حلّت عليه الشفاعة» مسلم.
    - ثالثا: يتعلم مدى حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأمة وحبه لها، كما قال الله -تعالى-: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:128). وقال -تعالى-: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف:6). وقال - صلى الله عليه وسلم - في وصف حاله مع هذه الأمة، عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه -: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا؛ فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النارس، وأنتم تفلتون من يدي» مسلم.
    وهو - صلى الله عليه وسلم - أشد حرصا على هذه الأمة يوم القيامة، حتى أصحاب الكبائر ومن دخل النار من هذه الأمة يشفع له النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في الحديث:
    أَخِرُّ له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأَخْرِجْ منها من كان في قلبه مثقال ذرة - أو خردلة - من إيمان فأخرجه، فأنطلق، فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقول: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي، وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله». (متفق عليه).
    كان صاحبي منصتا طوال الحديث، قاطعني:
    - وهل تعتقد أنه يمكن أن نرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة، وأن نتحدث إليه ونجالسه؟
    - هل اشتقت لرؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم
    - صدقا، نعم، وتخطر لي هذه الخاطرة أحيانا، فأبتسم خفية.
    - ولم لا؟ إليك بعض البشارات، التي نرجو أن تنال شيئا منها:
    عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا! قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد؛ فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض (صحيح).
    عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أشد أمتي لي حبا، ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رأني بأهله وماله» مسلم.
    عن أنس - رضي الله عنه -: «أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: «وماذا أعددت لها»؟ قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أنت مع من أحببت»، قال أنس: فما فرحنا بشيء، فرحنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنت مع من أحببت»! قال أنس: «فأنا أحب النبي -[- وأبو بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم».
    - وهل تريد أن أقدم لك نصيحة محب؟
    - دائما.
    - أكثر من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى لو جعلتها أكثر ذكرك، واحرص على اتباع سنته، وادع الله صادقا أن يرزقك حب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما الأدلة على ذلك، باختصار:
    {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31).
    عن أبي بن كعب قال: قلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: «ما شئت» قلت: الربع؟ قال: «ما شئت فإن زدت فهو خير لك»، قلت: النصف؟ قال: «ما شئت فإن زدت فهو خير لك» قلت: فالثلثين؟ قال: «ما شئت فإن زدت فهو خير لك» قالت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: «إذا يكفي همك ويكفر لك ذنب»، رواه الترمذي (حسنه الألباني). عن محمد بن علي قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة (صحيح) (نسي: ترك).
    عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة». حسن لغيره (الألباني). وليس من وسائل محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - الاحتفال بمولده أو السفر لزيارة قبره والدعاء عنده، أو اطراؤه ومدحه بما لم يأمر به - صلى الله عليه وسلم -، وإنما الحب، باتباع سنته وتعظيم حديثه وتوقير هديه ونشر دعوته الصحيحة والتخلق بأخلاقه، والحمدلله رب العالمين.



    د. أمير الحداد


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب - الحب والبغض في الله




    «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله».
    - اتخذ إمامنا لوحة بيضاء متوسطة الحجم، علقها على الحائط الأيمن من مدخل حرم المسجد، يكتب عليها حديثا صحيحا كل أسبوع، ذهبت لصلاة المغرب بنصف ساعة، وجدته يكتب الحديث أعلاه، وذيله بعبارة (السلسلة الصحيحة).
    وتمامه، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: أي عرى الإيمان أوثق؟ قال أبو ذر: الله ورسوله أعلم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: الحديث، سألته:
    - أظن أنه من الأفضل أن تكتب شيئا عن معنى ألفاظ الحديث.
    - لقد خطر على بالي وربما يكون من الأفضل كتابة مختصر المعنى.
    بحث صاحبي عن شرح الحديث لكتابة شيء مختصر، أخذ يقرأ من (فيض القدير)، (أوثق) أقوى وأثبت وأحكم.
    (عرى) جمع عروة، استعير لما يتمسك به من أمر الدين (في الله) فيما يرضي الله موالاة وتركا. وعند الطبراني عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل الصحابة: «تدرون أي عرى الإيمان أوثق؟ قلنا: الصلاة، قال: الصلاة حسنة وليست بذلك، قلنا: الصيام؟ قال: الصيام حسن وليس بذلك، قلنا: الجهاد في سبيل الله، قال: الجهاد حسن وليس بذلك، فقال: أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله».
    - شرح جميل، وعمل عظيم من أعمال القلب، ينفع العبد يوم القيامة.
    - نعم، الأحاديث في بيان عظم هذا العمل القلبي كثيرة.
    عن معاذ بن جبل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله -عز وجل- عبادا ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى بيده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم، وقربهم من الله، انعتهم لنا جلهم لنا -يعني صفهم لنا شكلهم لنا، فسر وجه النبي -صلى الله عليه وسلم - بسؤال الأعرابي، فقال رسول الله -[-: هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون» (صحيح الترغيب والترهيب). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي»، رواه مسلم.
    وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «زار رجل أخا له في قرية، فأرصد الله له ملكا على مدرجته، فقال: أين تريد؟ قال: أخا لي في هذه القرية، فقال: هل له عليه من نعمة تربها؟ قال: لا إلا أني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك أن الله أحبك كما أحببته» (مسلم).
    عن أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ حيث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم». (رواه مسلم).
    دخل المؤذن المسجد، شاركنا الحوار، بعد أن تأكد من موعد الأذان.
    - لدي زميل في العمل يشتكي من سوء أخلاق المتدينين، يقول في التجارة يتلاعبون، وفي المواقف يتلونون، وفي المعاملات يتبعون مصالحهم، وإذا أقيمت الصلاة ركضوا إلى المصليات.
    - ابتداء، لا يمكن التعميم، من المصلين من يلتزم شرع الله بطريقة صحيحة، ومنهم من فيه من العيوب، وكذلك من غير المصلين، فلا يمكن التعميم، والعبد الصالح يلتزم شرع الله كاملا في العقيدة والمعاملة والعبادة، ومن لم يفعل ذلك ظلم نفسه، وليس ذلك بسبب عيب في دين الله، ومن هذا الأصل فإن العبد قد يجمع في المرء حبا وبغضا، يحب في المرء التزامه بالصلاة وحرصه على الجماعة وصلاة الفجر، ويبغض فيه كثرة كذبه في المزاح، وإخلافه لعهوده، وعدم التزامه بديونه، فربما غلب بغضه حبه، ولكن كلاهما موجود.
    يقول العلماء في هذا الباب:
    وهذا أصل من أصول الإيمان، وأصل عظيم، الحب في الله والبغض في الله، وهو أن تحب ما يحب الله من شخص؛ فتحب هذا الشخص؛ لأنه مستقيم على طاعة الله؛ لأنه يؤدي فرائض الله، ولو كان بعيداً، ولو كان أعجمياً، ولو كان في المشرق وأنت في المغرب، وتبغض من كان مستروحاً للمعاصي والكبائر والآثام ، والشرك، ولو كان قريباً لأمك وأبيك، فهذا من الأصول العظيمة التي أميتت في هذا الزمن، وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور، وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وذاك.
    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «من أحب إنسانًا لكونه يعطيه، فما أحب إلا العطاء، ومن قال: إنه يحب من يعطيه الله، فهذا كذب، ومحال، وزور من القول، وكذلك من أحب إنسانًا لكونه ينصره، إنما أحب النصر لا الناصر، وهذا كله من اتباع ما تهوى الأنفس، فإنه لم يحب في الحقيقة إلا ما يصل إليه من جلب منفعة أو دفع مضرة، فهو إنما أحب تلك المنفعة ودفع المضرة، وليس هذا حبًّا لله ولا لذات المحبوب، وعلى هذا تجري عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض، لا يثابون عليه في الآخرة ولا ينفعهم، بل ربما أدى هذا للنفاق والمداهنة؛ فكانوا في الآخرة من الأخلاء الذين بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، وإنما ينفعهم في الآخرة الحب في الله وحده، وأما من يرجو النفع والضر من شخص، ثم يزعم أنه يحبه الله، فهذا من دسائس النفوس ونفاق الأقوال» الزهد والورع ج 1-45.

    د. أمير الحداد


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب - التوحيد



    «إن لله على العبد عبوديتين: عبودية باطنة وعبودية ظاهرة؛ فقيامه بالعبودية الظاهرة مع تعريه عن العبودية الباطنة لا يقربه إلى الله، ولا يوجب له الثواب؛ فإن المقصود امتحان القلوب وابتلاء السرائر» (الفوائد).

    كنت في مطار (كوالامبور) بانتظار رحلة العودة إلى الكويت، أتيت باكرا؛ لأنه لم يكن ما أنجزه في المدينة بعد انتهاء مدة إقامتي في الفندق، ذهبت إلى المصلى قبل أذان المغرب، وهذه من الأمور التي أحببتها هناك، توفر المصليات النظيفة الواسعة في كل مكان، أدينا المغرب والعشاء، جمعا وقصرا، وأنا في طريقي للعودة إلى بوابة السفر، سلّم عليّ أحدهم، ونبهني إلى أن قراءتي تحتاج إلى مراعاة المدود، شكرته ومضيت.

    التقيته مرة أخرى، في صالة الانتظار، كان عائدا إلى مصر، بعد دردشة قصيرة بدأ حوارنا.

    - لا شك أن التوحيد، الذي هو إفراد الله -تعالى- بما اختص به من الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، أعظم أعمال القلوب، من مات عليه نجا من الخلود في النار، ومن نقضه حرم من دخول الجنة، فهو نفي وإثبات في الحديث. «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله» (مسلم)، فلا يكفي أن يقول العبد «لا إله إلا الله»، بل يجب أن يكفر بما يعبد من دون الله، من قبور وأضرحة ومزارات وقبب ومشاهد، يعظمها بعض الناس، ويتقربون إليها بالنذور والذبائح والهدي والتمسح وغيرها، وهذه تنفي تلك.

    - هذه أفكار الوهابية!

    نظرت إليه منكرا عليه مقولته، أردت أن أنهي الحديث معه، استجمعت هدوئي، وقررت متابعة الحوار.

    - أقول لك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: وهابية؟! هل نطقت أنا بهذه الكلمة، أو ذكرت شيئا عدا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن دعنا نتحاور فيما ثبت عن الله في كتابه وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته الصحيحة.

    يقول الله -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَفَمِ نْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (النحل:36). {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25).

    وفي سورة الأعراف يذكر الله -تعالى-، نوحا، وهودا، وصالحا، وشعيبا، وكلهم يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، وهكذا مع جميع الأنبياء والرسل؛ فلأجل التوحيد أرسل الله الأنبياء وأنزل الكتب، وخلق الجنة والنار، فالتوحيد سبب الخلق وغايته وتوحيد الله، مكانه القلب أولا، فإذا تمكن من القلب أفلح العبد ونجا.

    - هل تعني أن ما يفعله عامة المسلمين عند ضريح السيدة زينب أو ضريح (أبو مسلم)، أو (البدوي)... وغيرها، ينقض قولهم (لا إله إلا الله)؟

    - نعم، هذه تنقض تلك، وما يفعله إلا الجهلة من الناس، فالعبد كلما ازداد علمه الصحيح بالله -عز وجل-، ازداد عبادة له، وبعدا عن الشرك به، هؤلاء جهلوا معنى التوحيد، ومعنى العبادة، وأسماء الله وصفاته، فتعلقت قلوبهم بالموتى، من الأنبياء والأولياء والأئمة والمشايخ، وجهلوا أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله -عز وجل-، ولا يعطي ويمنع إلا الله -عز وجل-، ومن كانت له حاجة فليتوجه بها إلى الله مباشرة، كما أمر الله -تعالى-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر:60). وقال -تعالى-: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (المائدة:76).

    قاطعني:

    - ولكنهم لا يعبدون هذه الأضرحة، لا يصلون لها ولا يسجدون لها!

    - وهل العبادة الصلاة، والسجود فقط؟ العبادة بتعريفها الشرعي (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة)، فالدعاء عبادة، بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النعمان بن بشير: «الدعاء هو العبادة» صحيح الجامع، ولو تدبرت قول الله -تعالى- في الآية التي ذكرت سابقا. {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (غافر:٦٠)، ذكر أولا الدعاء، ثم ذكر العبادة، وفي وقوله -تعالى عن إبراهيم عليه السلام-: وَأَعْتَزِلُكُم ْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (مريم: ٤٨-٤٩).

    فذكر الدعاء أولا، ثم ذكر أنها العبادة. فالدعاء عبادة، والنذر عبادة، الحلف عبادة، بل أعظم من ذلك، أعمال القلب، من الخوف والرجاء عبادة، والخشية والرضا عبادة، والتوكل عبادة، وغيرها من أعمال القلوب، كما أن الصلاة عبادة، والسجود عبادة، لا ينبغي صرف أي شيء منها لغير الله؛ فهي تبدأ في القلب، وتنعكس على الجوارح، سكت صاحبي، فتابعت الحديث:

    - فالتوحيد عمل قلبي أولا، يظهر أثره على الجوارح، وهو أعظم قربة يتقرب بها العبد إلى الله -عز وجل-، وشعاره: (لا إله إلا الله)؛ لذلك من عرف هذه الكلمة صادقا مخلصا، نجا من النار، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «أتاني جبريل فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: يا جبريل وإن سرق وإن زنا؟ قال: نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم وإن شرب الخمر» (الصحيحة).


    د. أمير الحداد

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب - الإنابة





    «التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة» (مدارج السالكين لابن القيم).
    - أعمال القلوب تزيد وتنقص، فيرقى العبد في الدرجات بزيادتها، وتنخفض منزلته بنقصانها، ويتفاوت العباد، بما في قلوبهم.
    هكذا بدأ ضيفنا الشيخ خاطرته، أقدر أنه لم يتجاوز الأربعين عاما، ولكنه له صيت في الرقائق، وتخصص في كتب الإمام ابن القيم؛ حيث كان موضوع أطروحته الدكتوراه لديه، تابعنا حديثه متلهفين.
    - والإنابة، من أعمال القلوب، وتختلف عن التوبة، ومدارها على الرجوع إلى الله في كل وقت، والإنابة إنابتان، الأولى: إنابة الخلق جميعا، ويشترك فيها المؤمن والكافر ولا ميزة لها ولا ثواب عليها، كما قال -تعالى-: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (الروم:33).
    - والثانية: إنابة المؤمنين والأولياء والأنبياء، وهي إنابة العبودية لله، وتتضمن أربعة أمور، محبة الله والخضوع له -سبحانه-، والإقبال عليه والإعراض عما سواه، فلا يستحق اسم (المنيب) إلا من حقق هذه الأربع. كانت المحاضرة مسجلة، وتبث مباشرة عبر قنوات التواصل الاجتماعي، وكثير من الحضور كانت بيده كراسة يكتب فيها ملاحظات. يقول ابن القيم في مدارج السالكين، ج1، ص432:
    إذا استقرت قدم العبد في منزل التوبة، نزل بعده منزل الإنابة، وأثنى على خليله بها، فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (هود:75)، وقال شعيب -عليه السلام- لقومه: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود:88)، وعن داوود -عليه السلام-: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (ص:24)، وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها أهل الإنابة ويتذكرونها ، فقال: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق:8)، إلى أن قال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} (ق:8)، وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} (غافر:13)، وقال -تعالى-: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الروم:31).
    {منيبين} منصوب على الحال من الضمير المستتر في قوله: {فأقم وجهك} (الروم:30)؛ لأن هذا الخطاب له ولأمته، أي أقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه، ويجوز أن يكون حالا من المفعول في قوله: {فطر الناس عليها} (الروم:30)، أي فطرهم منيبين إليه، فلو خلوا وفطرهم لما عدلت عن الإنابة إليه، ولكنها تتحول وتتغير عما فطرت عليه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مولد إلا يولد على الفطرة» متفق عليه، وأخبر أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة، فقال: {ووَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (ق:31-34)، وأخبر -سبحانه- أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة، فقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} (الزمر:17).
    وأمر الله -تعالى- بها فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}.
    وفي كتب التفسير: المنيب: الملازم للطاعة، ويظهر أن معنى أناب صار ذا نوبة، أي ذا رجوع متكرر وأن الهمزة فيها للصيرورة، والنوبة: حصة من عمل يتوزعه عدد من الناس وأصلها: فعلة بصيغة المرة؛ لأنها مرة من النوب وهو قيام أحد مقام غيره، ومنه النيابة، ويقال: تناوبوا عمل كذا، وفي حديث عمر: «كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينزل يوما وأنزل يوما» الحديث، فإطلاق المنيب على المطيع استعارة لتعهد الطاعة تعهدا متكررا، وجعلت تلك الاستعارة كناية عن مواصلة الطاعة وملازمتها، قال -تعالى-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (هود:75). واتباع (سبيل من أناب) هو الاقتداء بسيرة المنيبين لله، أي الراجعين إليه، المقلعين عن الشرك وعن المنهيات التي منها عقوق الوالدين، وهم الذين يدعون إلى التوحيد ومن اتبعوهم في ذلك. {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُون} (الزمر:54).
    لما فتح لهم باب الرجاء أعقبه بالإرشاد إلى وسيلة المغفرة معطوفا بالواو وللدلالة على الجمع بين النهي عن القنوط من الرحمة، وبين الإنابة جمعا يقتضي المبادرة، وهي أيضا مقتصى صيغة الأمر.
    أمر -تعالى- بالإنابة إليه، والمبادرة إليه فقال: {وأنيبوا إلى ربكم} بقلوبكم {وأسلموا له} بجوارحكم، وإذا أفردت الإنابة، دخلت فيها أعمال الجوار.
    همس لي صاحبي مستحسنا ما نسمع:
    -كلام جميل، مشوق.
    تابع الشيخ حديثه:
    - فالإنابة عمل قلبي دائم، كما أعمال القلوب الأخرى، يجب على العبد أن يتعاهده دائما، ويتزود منه، نعم مطلوب من المقصرين (الإنابة إلى الله)، بالإقلاع عن المعاصي والعمل بالطاعات، وكذلك الصالحون مطلوب منهم الإنابة القلبية، وهي الرجوع إلى الله بزيادة التقرب إليه، وأشدالخلق إنابة إلى الله، أشدهم إيمانا، الأنبياء والرسل، وكان في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل: «اللهم لك أسلمت، وبك أمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت؛ فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وأسررت وأعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت» (البخاري).
    وأختم بقول الإمام ابن القيم: «الإنابة هي عكوف القلب على الله -عز وجل- كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وإجلاله وتعظيمه، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -». (الفوائد: ج/196).



    د. أمير الحداد


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب - التوكل



    سر التوكل هو اعتماد القلب على الله وحده.

    وأعمدته: الإيمان بالقدر، وحسن الظن بالله، واتخاذ الأسباب.

    دخلت وصاحبي محلا صغيرا يبيع أدوات كهربائية ولوازمها، وضع صاحب المحل لوحة، كتب فيها: (توكلت على الله)، لا يمكن للمرء ألا يراها.

    بعد السلام

    - لوحة جميلة، ومعبرة، وأشرت إلى تلك اللوحة.

    - نعم،ورثتها عن والدي -رحمه الله-، وكان يملك مخبزا صغيرا في قريتنا بالشام، وانتقلت هنا وعملت في هذا المجال، ثم توفي والدي منذ سبع سنوات؛ فبعنا المحل وأخذت هذه اللوحة، أشعر بالراحة والأمان كلما قرأتها، قضينا حاجتنا، وفي طريقنا إلى مركبتنا علق صاحبي:

    - كلام صاحب المحل جميل عن لوحة (توكلت على الله).

    - نعم، ولكن قليلا من الناس من يحقق التوكل الصحيح، ذلك أن التوكل عمل قلبي عظيم، لا يكفي أن يقول المرء توكلت على الله بلسانه، وقلبه لا يتوكل على الله.

    - ماذا تعني؟

    - إذا علمنا أن التوكل عمل قلبي، فينبغي أن نجعل القلب يتوكل على الله أولا، فلا يتعلق بشيء غير الله، ولا يرجو إلا الله، ويرضى بما قسم الله، و يسعى دوما إلى مبتغاه وكله ثقة بالله مهما كاد له الكائدون، ومكر له الماكرون.

    من توكل على الله علم أن الله كافيه، إيجابا وسلبا، أي في جلب المنافع ودفع المكاره.

    ومن توكل على الله جعل التوكل دائما في قلبه، بل يزداد توكله كلما ازداد إيمانه، فهو يزيد وينقص.

    - وكيف قرن الله بين الإيمان والتوكل؟

    - في آيات كثيرة، منها: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} (تبارك:29)، وقوله -عز وجل-: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة:23)، وقوله -سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران: 122- 160)، (المائدة:11)، (التوبة:51)، (إبراهيم:11)، (المجادلة:10)، (التغابن:13).

    وكذلك قرن الله -عز وجل- بين التكل والهداية، {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} (إبراهيم:12)، وقال -سبحانه-: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} (النمل:79)، وجعل الله جزاء التوكل كفايته -سبحانه- لعبده: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق:2).

    وهذه الآية، شاملة كافية، من توكل على الله حق التوكل، كفاه الله، توفيقا وهداية ونصرا وحفظا ورزقا، ونجاة من النار، وفوزا بالجنة، مع الأخذ بالاعتبار أن (كمال الأجر، مع كمال العمل).

    - قرأت كلاما لابن القيم، أظنه في مدارج السالكين: «التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة».

    - نعم، ابن القيم، مرجع في أعمال القلوب، وإليك بعد أحاديث التوكل، الذي هو من واجبات أعمال القلوب:

    عن عمر - رضي الله عنه - مرفوعا: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» (الصحيحة).

    عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال -يعني إذا خرج من بيته-: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هديت ووقيت وكفيت، فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟» (الجامع الصغير وزيادته).

    عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» متفق عليه.

    عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « ‏عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ بِالْمَوْسِمِ ‏ ‏فَرَاثَتْ ‏ ‏عَلَيَّ أُمَّتِي قَالَ فَرَأَيْتُهُمْ فَأَعْجَبَتْنِي كَثْرَتُهُمْ وَهَيْئَاتُهُمْ قَدْ مَلَئُوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏حَسَنٌ ‏‏فَقَالَ أَرَضِيتَ يَا ‏ ‏مُحَمَّدُ ‏ ‏فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّ لَكَ مَعَ هَؤُلَاءِ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏عَفَّانُ ‏ ‏وَحَسَنٌ ‏ ‏فَقَالَ يَا ‏ ‏مُحَمَّدُ ‏ ‏إِنَّ مَعَ هَؤُلَاءِ ‏ ‏سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَهُمْ الَّذِينَ لَا ‏ ‏يَسْتَرْقُونَ ‏‏وَلَا ‏ ‏يَتطيرون‏ ‏وَلَا ‏ ‏يَكْتَوُونَ ‏ ‏وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ ‏ ‏عُكَّاشَةُ ‏ ‏فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا لَهُ ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ سَبَقَكَ بِهَا ‏ ‏عُكَّاشَةُ ‏ » صحيح على شرط مسلم.







    د. أمير الحداد







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب - الشكر


    الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر، والصبر داخل في الشكر.

    كنا في محاضرة بعد صلاة العشاء ألقاها شيخ فاضل من الجامعة الإسلامية في المدينة، بدعوة من وزارة الأوقاف في الكويت، بدأ الشيخ محاضرته بهذه الآية، يقول الله -تعالى- مخبرا ومحذرا ومنبها عباده، لأخبث أساليب الشيطان: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16-17).
    فإن تذييل الآية بقوله: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} هي الغاية من الإضلال والتزيين، وذلك أن نفي الشكر، كناية عن الكفر؛ إذ لا واسطة بينهما كما قال -تعالى-: {واشكروا لي ولا تكفرون} (البقرة:152)، وكذلك في سورة الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (3)؛ فالشكر عبادة المتقين والأولياء الصالحين، وهذا أمر الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمته من بعده: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} (الزمر:66).

    في طريق عودتنا تدارسنا ما ذكره الشيخ في محاضرته التي استمرت لأكثر من أربعين دقيقة، ولو أراد لاستمر لأكثر من ساعة، ولكن توقف خشية ملل الحضور.

    - والله ما شعرنا بمرور الوقت؛ فقد كانت المحاضرة شيقة، وفيها الكثير من المعلومات الجديدة بالنسبة لي.

    - كم مرة ورد ذكر الشكر في القرآن بصيغه المختلفة.

    - ذكر الشيخ أنها وردت خمسا وسبعين مرة، بمشتقاتها، والأهم من ذلك أنه ذكر أركان الشكر الخمسة.

    خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره.

    فإذا نقصت إحدى هذه الأركان، انتقض الشكر، ولم يكن العبد شاكرا، والشكر عبادة قلبية دائمة لله -عز وجل- بمعنى أن العبد ينبغي أن يكون دائما شاكرا لله -عز وجل-، ولذلك يُذكِّر الله عباده نعمه التي قد يغفل عنها الإنسان لوجودها دون عناء منه، فيقول -عز وجل-: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل:78).

    في تفسير السعدي: «.. خص هذه الأعضاء الثلاثة (السمع والأبصار والأفئدة) لشرفها وفضلها ولأنها متفاح كل علم، وذلك لأجل أن يشكروا الله باستعمال ما أعطاهم من هذه الجوارح في طاعة الله، فمن استعملها في غير ذلك كانت حجة عليه وقابل النعمة بالكفر لا بالشكر».

    ويقول -تعالى- مذكرا خلقه جميعا: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (النحل:53). كل نعمة ظاهرة وباطنة، الله هو المنعم بها، لا أحد غيره. ويقول -تعالى-: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النحل:18). وذلك إن بدأ العبد يعد نعم الله عليه، فإنه لن ينتهي من العد؛ لأن الإحصاء نهاية العد، فنفاه الله -عز وجل.

    وفي آية آخرى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم:34). فلا ينبغي لعبد أن يشعر مطلقا، أنه ليس في نعمة من الله -عز وجل- ويغفل عن شكر الله -سبحانه.

    أعجبني بيان الشيخ أن العبد ينبغي أن يكون شاكرا ويرتقي إلى أن يكون شكورا، كما في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقوم ليصلي من الليل حتى ترم قدماه، فيقال له في ذلك؟ فيقول: «أفلا أكون عبدا شكورا» (البخاري)؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم ـ أدى أعلى درجات الشكر، فكان عبدا شكورا، والمؤمن ينبغي أن يكون -على الأقل- عبدا شاكرا، كما في الحديث.

    عن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (صحيح مسلم).

    فالعبد ينبغي أن يذكر نفسه دائما نعم الله عليه، ويملأ الشكر قلبه، فمن أذكار الصلاة ما ورد في حديث معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: يا معاذ والله إني لأحبك والله إني لأحبك فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (صحيح أبي داود).

    - لو تدبر المرء الآيات التي وردت في الشكر لوجد أنه عبادة الأنبياء والرسل والصالحين، والشكر يؤدي إلى دوام النعمة وحسن الجزاء يوم القيامة، كما قال -تعالى-: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم:7).

    ويقول -تعالى-: {وسنجزي الشاكرين} (آل عمران:145)، ويقول -تعالى-: {... وسيجزي الله الشاكرين} (آل عمران:144).

    - وماذا عن سجود الشكر؟

    - هذه عبادة عظيمة ينبغي على العبد أن يفعلها حال تجدد نعمة من الله عليه، ففي السجود كل أركان الشكر التي ذكرتها، خضوع لله، وحب واعتراف بالنعمة، وثناء على الله، واستخدام النعمة في طاعة الله، والصحيح أنها لا يشترط فيها الطهارة وستر العورة للمرأة كما في الصلاة ولا الاتجاه للقبلة وغيرها؛ فهي عبادة جسدية تعكس ما في القلب، من شكر لله، وإليك بعض آيات القرآن التي ذكرت في الشكر.

    {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل:40).

    {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (لقمان:12). {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (لقمان:31). {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ:13).

    (والشاكر) و(الشكور) من أسماء الله الحسنى الثابتة في كتاب الله والمعنى أنه -سبحانه- يقبل القليل من العمل الصالح ويجازي عليه أضعافا مضاعفة لا حدود لها، يقول -تعالى لأهل الجنة: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا} (الإنسان:22).


    د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب – الرضا – 1


    د. أمير الحداد





    الرضا عبادة قلبية عظيمة، ينالها من عرف الله حقا.

    – مجرد النطق بكلمة (الرضا)، يترك أثرا جميلا في القلب، وكلما قلت «رضيت بالله ربا، وبمحمد رسولا، وبالإسلام دينا» تجدد هذا الشعور الجميل، وامتلأت طاقات إيجابية، كما يقول أصحاب مبدأ الطاقة.

    قالها صاحبي مبتسما، سألته.

    – ذكرني بالحديث الذي وردت فيه هذه العبادة.

    – تقصد حديث العباس بن عبدالمطلب قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا» مسلم، وفي الحديث الآخر عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم – قال: «من قال رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، وجبت له الجنة» (صححه الألباني).

    – نعم، رددتها، «رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد – صلى الله عليه وسلم – رسولا».

    – ولكن هل تعلم واجبات القول -رضيت بالله ربا.

    – أمتعني بما لديك يا أبا خالد.

    كنت وصاحبي في طريقنا لمعرض الكتاب المقام في نوفمر بأرض المعارض في الكويت.

    – إن الرضا بالله ربا، آكد الفرائض، ومن لم يحققه لم يصح له إسلام ولا عمل، وهذه الثلاث هي أصول الدين، فالرضا بالله ربا، يتضمن توحيده وعبادته بإخلاص والخوف منه ومحبته والصبر على قضائه، والتسليم لأحكامه، والرضا بمحمد – صلى الله عليه وسلم – رسولا يتضمن الإيمان برسالته، وتوقيره ونصرته واتباع هديه، والرضا بالإسلام دينا، يتضمن قبول كل شرائعه، والتسليم بكل جوانبه التعبدية، والسلوكية، والقضائية، هذا جانب، والجانب الآخر الرضا بقضاء الله -عز وجل.

    – نعم هذا الذي أردت.

    – تفعيل ذلك أن قضاء الله -عز وجل-، قضاء شرعي، وقضاء قدر كوني، أما قضاؤه الشرعي فهي ما شرع من الأوامر والنواهي، وهذه حكمها ورد في قوله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء:65).

    وفي قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (الأحزاب:36).

    وأما القضاء القدري فهو إما خير للعبد، وهذا يحبه العبد ويجب عليه شكر الله عليه، وإما مما لا يحبه العبد، وهذا الذي ورد في الحديث عن أنس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله -عز وجل- إذا أحب قوما ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (حسنه الألباني). إن رضا الله عن العبد ينبغي أن يكون غاية كل مسلم، يسعى بما يستطيع أن ينال رضا الله، وهو -سبحانه- يعلم صدق عبده في السعي إلى هذه الغاية، فييسرها له، ويثيبه عليها، يقول -تعالى-: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:100). ويقول -تعالى-: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (الفتح:18).

    هؤلاء المخلصون، رضي الله عنهم في الدنيا، ووعدهم الجنة في الآخرة، واعلم أنه من رضي الله عنه، فقد فاز؛ لأن الله يعلم أن هذا العبد سيموت وهو -سبحانه- راض عنه.

    – إنها نعمة عظيمة أن يعلم العبد أن الله راض عنه.

    – هذه لا يمكن أن يزعمها أحد، ولكن يسعى العبد أن ينالها صادقا، ويدعو الله، ويحسن الظن بالله.

    من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم -: «وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت» (صحيح).

    وسئل أبو عثمان عن قول النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الرضا بعد القضاء، فقال: «لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، والرضا بعد القضاء هو الرضا».

    وصلنا إلي مواقف المركبات، ولم نجد مكانا فارغا إلا على بعد مسيرة عشر دقائق، ترجلنا، تابعنا حديثا:

    – وماذا يقول ابن القيم، عن الرضا، فهو المرجع في أعمال القلوب.

    – نعم، يقول -رحمه الله-: إن الرضا كسبي باعتبار سببه، موهبي باعتبار حقيقته، فيمكن أن يقال بالكسب لأسبابه، فإذا تمكن في أسبابه وغرس شجرته، اجتنى منها ثمرة الرضا؛ فإن الرضا آخر التوكل، فمن رسخ قدمه في التوكل والتسليم والتفويض، حصل له الرضا ولا بد، ولكن لعزته وعدم إجابة أكثر النفوس له، وصعوبته عليها لم يوجبه الله على خلقه، رحمة بهم، وتخفيفا عنهم، لكن ندبهم إليه، وأثنى على أهله، وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم، الذي هو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها، فمن رضي عن ربه رضي الله عنه، بل رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه، فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده: رضا قبله، أوجب له أن يرضى عنه، ورضا بعده، هو ثمرة رضاه عنه، ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عيون المشتاقين. ومن أعظم أسباب حصول الرضا: أن يلزم ما جعل الله رضاه فيه، فإنه يوصله إلى مقام الرضا ولابد. (مدارج السالكين- ج2-ص172).

    عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، يقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» متفق عليه.

    – اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار. حقا من يتدبر (آيات الرضا)، يجد أنها تلامس القلب والوجدان، وتدفع العبد أن يجتهد في نيل هذا المقام العظيم من مقامات التقرب إلى الله، يقول -تعالى-: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران:15).


    ويقول -سبحانه-: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} (التوبة:21). وأيضا: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:72).

    وأخيرا هذه الآيات المبشرة عند الاحتضار: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر).






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب – الرضا – 2


    د. أمير الحداد

    إذا نال العبد رضا الله فاز



    – من صفات الله -عز وجل- أنه يرضى عن فئات من الناس في الدنيا، وصفة الرضا في حق الله -عز وجل- ثابتة، كما تليق بجلاله وعظمته -عز وجل-، ومن رضي الله عنه، لا يغضب عليه أبدا!


    – هل هذا هو معنى قوله -تعالى-: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}؟

    – هذه جزء من آية تكررت في أربعة مواضع.

    (المائدة:119)، و(التوبة:100)، و(المجادلة:22)، و(البينة:8).

    أما رضا الله فقد ورد في سورة (الفتح:18)، عن الذين بايعوا النبي – صلى الله عليه وسلم – تحت الشجرة؛ فقد نالوا رضا الله، وهذه شهادة من الله أنهم من أهل الجنة.

    – أفهم الجزء الأول من الآية: {رضي الله عنهم}، ولكن ما معنى {ورضوا عنه}؟

    كنت وصاحبي نتصفح كتاب مدارج السالكين لنعرف العناوين الرئيسية لأعمال القلوب.

    – أولا: رضا العبد بالله، ورد في الحديث: عن سعد بن أبي وقاص عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، غفر له ذنبه» (مسلم). وإذا رضي العبد بالله ربا، رضي بعطائه ومنعه، رضي بتشريعه وحكمه، رضي بقدره وقضائه، رضي بما يأتيه من الله -عز وجل-، الرضا بالله، ثمرة معرفة الله بأسمائه وصفاته، رضي بالله؛ لأنه ربه، خلقه في أحسن تقويم، وكرمه على كثير من خلقه، رضي بالله؛ لأنه الرؤوف الرحيم الكريم، رضي بالله؛ لأنه العفو الغفور الودود، رضي بالله؛ لأنه الولي النصير مجيب الدعاء، لا يسخط أبدا، إذا منعه الله شيئا، بل حتى إذا ابتلاه فأخذ شيئا من عطاياه، فهو في رضا؛ لأنه على يقين بأن الله لا يظلم مثقال ذرة، وقضاؤه بين العدل والفضل، هذا في الدنيا، أم في الآخرة، فلا شك أنه يرضى بكرم الله، وجزيل ثوابه، ومن رضي الله عنه، أكرمه الله بالرضا عنه، في الآخرة، ورضوان الله أعظم نعيم يناله أهل الجنة.

    {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران:115). ويقول -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:72).

    رضوان الله أكبر من كل نعيم الجنة، وهو الفوز العظيم، تنهد صاحبي داعيا:

    – اللهم إنا نسألك رضاك والجنة.

    – آمين.

    – وماذا عن قوله -تعالى-: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر).

    – هذا يفسره الحديث، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إذا حضر المؤمن (جاءه الموت)، أتت ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون: اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح وريحان ورب غير غضبان.. إلى آخر الحديث» صححه الألباني.

    وذكر الله -عز وجل- الصحابة في غير موضع مبينا رضاه عنهم، وسعيهم لنيل رضا الله، كما في قوله -عز وجل-: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ… الآية} (الفتح:29). ويقول -تعالى-: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر:8).

    – وما الفرق بين الرضا والرضوان؟

    – في اللغة، ما ينتهي بالألف والنون، يدل على الكثرة، مثلا، تقول نائم، نومان، ولذلك، (الرضوان)، لم يرد إلا منسوبا إلى الله -عز وجل-؛ لأن رضا الله عظيم فهو (رضوان)، أما الرضا فينسب إلى العبد أيضا وكل بحسب ما يليق به، كما قال -تعالى-: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} (التوبة:21).


    ويقول -تعالى-: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد:20).


    وقالوا: إن رضا الله في الدنيا، ورضوانه في الآخرة، والعبد يسعى أن ينال رضوان الله، ولا أقل من أن يسعى أن ينال رضا الله.

    – دعني أسألك، لأتأكد من مسألة، هل إذا رضي الله عن عبد لا يسخط عليه بعد ذلك؟

    – إذا رضي الله عن العبد، فاز؛ لأن الله لا يرضى عن العبد إلا إذا كان أهلا لذلك أبدا، ولكن العبد لا يدري إذا كان الله قد رضي عنه، ولكنه يسعى ويدعو ويحسن الظن بالله.







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب


    د. أمير الحداد

    تعظيم الله -عز وجل



    «أعرف الناس بالله أشدهم له تعظيما وإجلالا» (مدارج السالكين: 2/465). كانت خطبة الجمعة جامعة نافعة، هزت مشاعر المصلين، وحركت قلوبهم وذكرتهم بالخوف من الله وتعظيمه وإجلاله، والاستعداد للوقوف بين يديه يوم القيامة.

    اجتمعت وصاحبي بعد الصلاة في مكتبه، نتذاكر ما ورد في الخطبة.

    – جزى الله خيرا خطيبنا على هذه الموعظة.

    – إن تعظيم الله عمل قلبي، ينبغي على العبد أن يستحضره دائما، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله -سبحانه وتعالى- والرسالة لعبده ورسوله – صلى الله عليه وسلم – ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام الذي هو حال في القلب يظهر على الجوارح، كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه» (الصارم المسلول: ج1، ص369).

    – وماذا يقول ابن القيم عن مقام تعظيم الله -عز وجل؟

    أحضر لنا الخادم قارورة الماء وبعض الفاكهة والمكسرات كالمعتاد.

    – نعم قال ابن القيم عن منزلة التعظيم: «هذه المنزلة تابعة للمعرفة؛ فعلى قدر المعرفة، يكون تعظيم الرب -تعالى- في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيما وإجلالا، وقدم ذم الله -تعالى- من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، قال -تعالى-: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} (نوح:13).

    قال ابن عباس ومجاهد: «لا ترجون لله عظمة»، وقال سعيد بن جبير: «ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته، وروح العباد هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت العبادة». (مدارج السالكين: 2/495).

    – كلام جامع مانع.

    – يحتاج العبد دائما أن يذكر نفسه بعظمة الله -عز وجل-، ويملأ قلبه تعظيما وإجلالا وتمجيدا لله -عز وجل-، فمن أسمائه -سبحانه- (العظيم)، كما ورد في آية الكرسي، التي هي أعظم آية في كتاب الله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255). وكذلك قوله -عز وجل-: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة:74).

    وكذلك قوله -سبحانه-: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (الشورى:4). وأمرنا الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن نعظم الله -عز وجل- في صلاتنا: عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا؛ فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم» (صحيح مسلم). وذلك أن نقول في ركوعنا: «سبحان ربي العظيم»، وكذلك: «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة». ولا شك أن العبد إذا استحضر أنه يقف أمام الله -عز وجل- الجبار الملك العظيم، كلما كبر للصلاة، يزداد تعظيما له.

    – ومن تعظيم الله، تعظيم كتابه؛ لأنه كلام الله-عز وجل- تعظيما ماديا ومعنويا، بمعنى يكرم المصحف ولا يهينه ولا يرميه، ولا يضعه في مكان لا يليق به، ومعنويا، أن يتبع أوامره، وينتهي بنواهيه ويتدبر آياته، ويتفاعل معها، ويؤمن بكل ما جاء به.

    – لا شك أننا مقصرون كثيرا في هذا الجانب، بغفلتنا عن تعظيم الله، ونغتر أوقاتا كثيرة بأمور الدنيا، ولا يؤثر فيها آيات القيامة والبعث والحساب، نسأل الله السلامة.

    – على المؤمن أن يجتهد في هذه العبادة القلبية العظيمة، ويقرأ الآيات التي تبين عظمة الله -سبحانه وتعالى-، مثلا يقول الله -عز وجل-: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (مريم).


    السماوات والأرض والجبال، أعظم المخلوقات تنكر نسبة الولد لله العظيم، وتعظم الله كما ينبغي، وابن آدم يصر على هذا الكفر القبيح! وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله -تعالى-: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ فمن نازعني واحدا منهما، أدخلته النار» وفي رواية «قذفته في النار»، ونحن نؤمن بهذا الحديث كما ورد دون تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل، نؤمن به؛ لأنه وحي من الله إلى رسوله.

    وفي الحديث أيضا: عن عبدالله – رضي الله عنه -، قال: جاء حبر من اليهود، فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل لله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك أنا الملك، فلقد رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يضحك حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا لقوله، ثم قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}» (الزمر:67)، (البخاري).





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أعمال القلوب

    أعمال القلوب


    د. أمير الحداد
    الصبر




    الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر (الإمام أحمد).
    عرض علي صاحبي مقطعاً مصوراً لأحد المعجبين في رده على عدم جواز الاستعانة بغير الله، يقول:
    يقول الله -تعالى-: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (45) فكيف لا تجوز الاستعانة بغير الله ولا سيما إذا كان الله قد أمرنا بالاستعانة بهم كأئمتنا لمكانتهم عند الله؟ هذا جهله مركب، جاهل باللغة، وجاهل بالعقيدة، وأمثاله لا يستهدفون، وإنما نتوجه للعامة الذين يُلبِّس عليهم أمثال هذا.
    – الصبر، واجب على المسلم بإجماع الأمة، وهو حبس النفس عن الجزع والتسخط، ولا شك أنه درجات، أوله واجب وآخره صبر الأنبياء، وذكر الإمام أحمد أنه ورد في كتاب الله في نحو تسعين موضعاً على ستة عشر نوعاً.
    استغرب صاحبي مقولتي!
    – كنت أظن أن الصبر ثلاثة أنواع، صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على البلاء.
    – نعم هو كذلك، ولكن الإمام يذكر تفصيل هذه الثلاث يقول:
    – الأول: الأمر به نحو قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (153)وقوله: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} آل عمران: 20 وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} النحل: 127.
    – الثاني: النهي عن ضده كقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (الأحقاف: 53). وقوله: {وَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ} الأنفال: 15. فإن تولية الأدبار: ترك للصبر والمصابرة وقوله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} محمد: 33 فإن إبطالها ترك الصبر على إتمامها وقوله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} (آل عمران: 139) فإن الوهن من عدم الصبر.
    – الثالث: الثناء على أهله كقوله -تعالى-: {الصابرين والصادقين} الآية آل عمران: 17 وقوله: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة: 177) وهو كثير في القرآن.
    – الرابع: إيجابه -سبحانه- محبته لهم كقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 146). الخامس: إيجاب معيته لهم وهي معية العلم والإحاطة كقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) وقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَابِرِين} (البقرة: 249). (الأنفال: 69).
    – السادس: إخباره بأن الصبر خير لأصحابه كقوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ } (النحل: 126) وقوله: {وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} (النساء: 25).
    – السابع: إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم كقوله -تعالى-: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النحل: 96.
    – الثامن: إيجابه -سبحانه- الجزاء لهم بغير حساب، كقوله -تعالى-:
    {بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران: 125)، ومنه قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «واعلم أن النصر مع الصبر».
    – الحادي عشر: الإخبار منه -تعالى- بأن أهل الصبر هم أهل العزائم كقوله -تعالى-: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} الشور: 43 .
    – الثاني عشر: الإخبار أنه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة إلا أهل الصبر كقوله -تعالى-: {ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرين} القصص: 80 ، وقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } (35).
    – الثالث عشر: الإخبار أنه إنما ينتفع بالآيات والعبر أهل الصبر كقوله -تعالى- لموسى: {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} إبراهيم: 5 في أهل سبأ: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُم ْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} سبأ 19. وقوله في سورة الشورى: {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} .
    – الرابع عشر: الإخبار بأن الفوز المطلوب المحبوب والنجاة من المكروه المرهوب ودخول الجنة إنما نالوه بالصبر كقوله -تعالى-: وَالْمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.
    – الخامس عشر: أنه يورث صاحبه درجة الإمامة سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، ثم تلا قوله -تعالى-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24).
    – السادس عشر: اقترانه بمقامات الإسلام والإيمان كما قرنه الله -سبحانه وتعالى- باليقين وبالإيمان وبالتقوى والتوكل وبالشكر والعمل الصالح والرحمة؛ ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له، وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: خير عيش أدركناه بالصبر. وأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: (أنه ضياء) (صحيح مسلم) وقال – صلى الله عليه وسلم -: «من يتصبر يصبره الله» متفق عليه.
    وفي الحديث الصحيح: «عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» صحيح مسلم. وقال للمرأة السوداء التي كانت تصرع فسألته: أن يدعو لها: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، فقالت: إني أتكشف فادع الله: ألا أتكشف فدعا لها. متفق عليه. وأمر عند ملاقاة العدو بالصبر عند المصيبة وأخبر: «أنه إنما يكون عند الصدمة الأولى» متفق عليه.

    – تفصيل جميل، وسمعت أن الصبر ينبغي أن يكون جميلاً
    نعم هو قوله -تعالى-: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلً} (المعارج: 5) وهو الصبر الذي لا شكوى فيه ولا معه، ودعني أختم بمعنى قوله -[-: «ومن يتصبر يصبره الله» الحديث.. ذلك أن الصبر يكتسب فيبدأ من القلب، ويذكر المرء نفسه بأنه يتعامل مع الله، فيتقبل أوامره وينتهي عن نواهيه ويرضى بقضائه، ويدرب قلبه، ويعالج ضعفه، ويستعين بالله على ذلك حتى يتقوى صبره، ويترقى في درجات الصبر، حتى يكتبه الله من الصابرين.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •