موقف الدعاة من الأحداث اليومية بين التعليق والصمت


يطالب قومٌ الدعاةَ بالتعليق على كل حدث، ويستجيب كثير من الدعاة في أغلب الأحيان، ولكن أحياناً تمر أحداث بلا تعليق، ويتساءل قوم: لماذا؟ وهذه محاولة للإجابة عن هذا التساؤل، نتذاكر -فيها مع إخواننا في ساحة العمل الإسلامي- متى يَجمُل الكلام، ومتى يَجمُل الصمت؟
بادئ ذي بدء، لابد من تقرير أن دين الله -تعالى- منهج شامل كامل، يحكم جميع الأحوال التي يمكن أن يمر بها فرد أو جماعة، أو تمر بها الأمة كلها، يقول الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-: «وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان وتطور الأحوال وتجدد الحوادث؛ فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله -تعالى- وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - نصا أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك، علم ذلك من علمه وجهله من جهله» أ.هـ. من رسالة تحكيم القوانين.
أمر في غاية الأهمية
وهذا أمر في غاية الأهمية، لابد أن تتوجه له همم المشتغلين بالدعوة إلى الله، وهو أن تُعلم الشريعة بفروعها من فروض الكفايات التي يجب على الأمة أن يوجد فيها من يكفيها هذا الأمر، وأولى الناس بذلك المتصدرون لأمر الدعوة إلى الله، فلم يكن دين الله -تعالى- استجابة أو ردود فعل لأقوال وأفعال الآخرين.
حتى الآيات التي لها سبب نزول أو الأحاديث التي لها سبب ورود، كانت متعلقة بالأحداث؛ لكون الحكم لم يكن قد سبق نزوله، أو لتعليم الأمة كيفية إنزال الأحكام على وقائعها، ومن ثم قال العلماء: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، أي: أن الأمة مُتعبَدة بدراسة هذه النصوص واستنباط الأحكام منها، ليتم بعد ذلك تنزيلُها على كل الوقائع التي تنطبق عليها الآية أو الحديث بما في ذلك الوقائع المشابهة لسبب نزولها.
إسقاط الأحكام على الوقائع
وإذا تقررت أهمية تعلم دين الله من حيث الجملة ودون انتظار للأحداث، يأتي دور إسقاط هذه الأحكام على الوقائع، وهو أمر يشفق كل واحد على نفسه منه، ويتمنى لو أن غيره قد كفاه إياه، ومن ثم تجد أن أبناء الصحوة الإسلامية ينتظرون دائماً من علمائهم وشيوخهم ذلك التطبيق على الوقائع، وهو أمر محمود في ذاته، على أن يحاول طلبة العلم دائمًا أن يضموا إلى معرفتهم بالأحكام معرفتهم لسلوك شيوخهم في إنزالها على الوقائع.
ومن جهة أخرى فلا نستغرق في البحث عن التعليق على كل الأحداث -على كثرتها- مما قد يصرفنا عن التأصيل المنهجي، ولا سيما وأن هذا هو الذي يجب بيانه وتوضيحه في كل زمان ومكان، بينما لا يجمل التعليق على الوقائع إلا متى ترتب على ذلك حكم شرعي.
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
فترك التعليق على حدث ما قد يكون من باب «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وهذا يصدق في كثير من الوقائع المتعلقة بخصوم الدعوة الإسلامية، فليس من الحكمة أن نشغل أنفسنا بما يستجد في الساحة الفنية مثلاً من باب أنها إحدى مظاهر الفساد التي على الداعي محاربتها، وإلا فالإجمال في هذا الموطن قد يكون أجمل إلا في حالات الأعمال الفنية التي تُلقى فيها شبهات، ونجد أن تلك الشبهات قد انتشرت وتحتاج إلى جواب.
تكرار الحدث بأبعاده الشرعية
وقد يكون عدم التعليق راجعاً إلى تكرار الحدث بأبعاده الشرعية، ومن أمثلة ذلك الصراع الطائفي في بعض البلدان، فمع أهمية إلقاء الضوء على هذا الصراع، إلا أن على منابرنا ألا تتحول إلى نشرات أخبار عن حوادث تقع كل يوم رغم بشاعتها -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم-، والمغزى الشرعي من ذلك يمكن العودة إليه من حين لآخر.
أكثر الأحوال التي تستلزم الصمت
ومن أكثر الأحوال التي تستلزم الصمت وعدم التعليق، الأمور التي يستجلب التعليق عليها مفسدة أعظم، ولا سيما إن كان حكمها العام قد أخذ حظه من التوضيح والبيان، والانتقال من التوضيح العام إلى التنزيل على الأعيان قد يؤدي إلى منع الداعي من بيان الحكمة العامة، وهو المقصود الأصلي من الدعوة، وهنا أمر مَرَّت به دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة؛ حيث قام - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى التوحيد وذم الشرك، وذم الآلهة الباطلة، ومنها آلهة قريش، ولا شك أن في الجمع بين البيان العام لخطورة الشرك وبين إسقاط هذا الأمر على ذكر آلهة المشركين مصلحة زائدة في نصيحة القوم وزجرهم عما هم فيه، ولما ساوم المشركون الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ترك البيان العام -أي ترك الدعوة إلى لا إله إلا الله- قال - صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى الشمس-: «مَا أَنَا بِأَقْدَرَ أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ أَنْ تُشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً»(رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
ولكن لما طلبوا منه أن يكف عن شتم آلهتهم -أي بأسمائها- وإلا شتموا إلهه أنزل الله قوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:108)، قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: «يقول الله -تعالى- ناهيًا لرسوله والمؤمنين عن سب آلهة المشركين -وإن كان فيه مصلحة- إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو، كما قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: «قالوا: يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لـَنـَهْجَوَنَّ ربك؛ فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم». إلى أن قال: «ومن هذا القبيل -وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها- ما جاء في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ملعون من سب والديه، قالوا يا رسول الله: وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: «يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه» ا.هـ من تفسير ابن كثير.
وإذا كانت الآية دلت على ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها، إلا أن الأدق في هذا الحديث أن يقال أنَّ فيه مسئولية الفاعل عن النتائج التي يغلب على الظن ترتبها على الفعل، إذ صار الساب لآباء الناس مستوجبًا لعقوبة الساب والديه، وهي اللعن، وليس فقط عقوبة ساب آباء الناس لكونه يعلم أنه تسبب بفعله هذا في سب والديه.
الاستمرار في بيان الحق وذم الباطل
ثم قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: « وقوله -تعالى-: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي: وكما زينا لهؤلاء القوم حبّ أصنامهم، والمحاماة لها والانتصار، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملَهم الذي كانوا فيه، ولله الحجة البالغة، والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره. {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ} أي: معادهم ومصيرهم، فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: يجازيهم بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر».هـ.، ويؤخذ من هذا أن على الداعي أن يستمر في بيان الحق وذم الباطل، ولكن عليه أن يعلم أن هؤلاء الكفار قد زين الله لهم حب رموزهم وكبرائهم، ومن ثم فيكفي البيان العام من أنه لا إله إلا الله، وأن كل ما عداه باطل، دون التعرض بالذم الخاص لهذه الأعيان المعظمة عند الكفار، مع أنها داخلة في عموم الذم، ومع أن الذم الخاص لكل رموز الباطل قد يكون أكثر وضوحاً، وأظهر أثراً، إلا أنه ما دام الكفار قادرين على رد ذلك بالفحش والبذاء والتطاول على الذات الإلهية، فالمسلم لا يمكن أبداً أن يقدم على ما شأنه أن يؤدي إلى هذا المنكر العظيم.
وهذا إن كان ينطبق على من ابتلي بمجاورة الكفار، فمع من ابتلي بمجاورة أهل البدع والمنكرات من باب أولى، ورحم الله القائل: «إذا عجزت عن قول الحق فلا تقل الباطل».
بين الترك والسكوت
فكم من موطن يكون السكوت فيه بليغاً، والترك أبلغ من كثير من الفعال! فمن ذلك ما ذكره أهل العلم من أن الأولى بأهل العلم ألا يحضروا جنازة من عرف ببدعة أو فسق، وذلك الترك في هذا الموطن يكاد يكون أبلغ إنكار لبدعة المبتدع وفسق الفاسق، وقد أراد قوم أن يحولوا جنازات بعض المبتدعين أو العصاة إلى محاكمة له بين أهله، وهم في هول فجيعتهم به، فحصلت بذلك فتن لا يعلم مداها إلا الله، ولاسيما أن أحوال الموت من الأحوال التي تجيش لها العواطف، وتضطرب فيها النفوس، والامتناع في هذه الأحوال كاف؛ لأن امتناع الجار عن حضور جنازة جاره لا يمكن أن يحمل إلا على رفض لهذا الجار، أو رفض لأمور جوهرية عنده، وهذا ما نسميه: «الصمت البليغ».
ومما تجدر الإشارة إليه أنه كلما كانت الدعوة واضحة في معالمها مبنية على أصول ثابتة، وكان الدعاة إليها على بصيرة، وكانوا مجتهدين في تقرير هذه البصيرة في النفوس، فإنه يسعهم مطمئنين أن يلوذوا بالصمت «البليغ» في كثير من المواطن والأحداث التي تمر بهم وبمن حولهم، ولاسيما إذا كان الصمت يحمل دلالة ظاهرة.


عبد المنعم الشحات