موقع الأخلاق في دين الإسلام


عبد المجيد أسعد البيانوني


كانت البعثة المحمّديّة فتحاً جديداً للإنسانيّة في عالم الأخلاق والقيم، ولقد حملت الأمّة التي ربّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه، كتاب الله بيد، ونور السنّة والنبوّة، وهديها الأخلاقيّ السامي باليد الآخرى.. وانطلقت بسلوكها العمليّ، قبل كلامها ودعوتها تنشر نور الحقّ في أرجاء الأرض، وتجتثّ جرثومة الباطل، وفساده وظلماته، وهي ليست إلاّ كالزبد، وقد ألقى السيل بعضه على بعض.. وعلى قدر ما تمثّل في حياتها الخاصّة، وعلاقاتها العامّة، هديُ الإسلام ونورُه، وأخلاقه ومبادؤه كان تأثيرها في الأرض أكبر، وتغييرُها في حياة الناس أظهر..

وقَد ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم مثلاً لعلاقة رسالته ودعوته بمن سبقه من الأنبياء، وكيف كانت رسالته خاتمة الرسالات، وبه ختم النبيّون، فجاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَاناً، فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلاّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلاّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ.؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ) [رواه مسلم في كتاب الفضائل برقم /4239/].

فهل هذه اللبنة هي لبنة كسائر اللبنات.؟ فإن كانت كذلك فأيّ شيء يميّزها عن غيرها.؟ الحقّ إنّها لبنة ليست كسائر اللبنات، إنّها لبنة تحمل طابع ختم النبوّة بخصائصها وفضائلها، وخصائص الشريعة التي جاءت بها وفضائلها.. بل إنّها لبنة تطبع سائر اللبنات بما قامت عليه هذه الشريعة من الشمول والكمال، واليسر والرحمة، والرفق ورفع الحرج، وما اختصّت به الأخلاق النبويّة العَظيْمةُ مِن كمالات لا تتناهى.. فكما أنّ القلب في الإنسان لا يمكن أن ينظر إليه على أنّه عضو من الأعضاء، بل هو سيّد الأعضاء وملك الجوارح، وصحّته وسلامته سرّ حياة الإنسان أو موته، فكذلك هذه اللبنة، بالنظر إلى هذه الشريعة الكاملة، ومن جاء بها صلى الله عليه وسلم، بل هذه اللبنة هي بالروح أشبه، ومثلها إليها أقرب..

وإنّ منبع الأخلاق النبويّة العَظيْمةِ يصدرُ عنه نهرانِ غزيرانِ نضّاخان: أوّلهما نهرُ العقلِ والحكمةِ، وثانيهما نهر الرفق والرحمة.

أمّا نهرُ العقلِ والحكمةِ فيُشيرُ إليهِ قولُ الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم}[القلم:4]، إذ تأتي هذه الآية الكريمة ردّاً على اتّهام المشركين للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بالجنون، فوصفه الله تعالى بعظمة الأخلاق، التي هي أعظم مظهرٍ لكمال العقل وثباته، ورسوخ الرأي وسداده، وقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين}[آل عمران:164].

وأمّا نَهرُ الرفق والرحمة فيشيرُ إليه قوْله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي ن}[آل عمران:159]، وقوله سبحانَه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}[الأنبياء:107]، ويجمع بيْن معانِي هذين النهرين العظيمين قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} [الأعراف:199].

وتتفرّع الأخلاق النبويّة كلّها عن هذين النهرين الدفّاقيْنِ، فتستمدّ منهما حياة أشجارها، وشهيّ ثمارها.

هذا، وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم موقع الأخلاق في دين الله، وعلاقتها ببعثته، بقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنّما بُعِثتُ لأتمِّمَ مَكَارِمَ الأخلاقِ ) [رواه مالك في الموطّأ بلاغاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عبد البرّ: هو متّصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة رضي الله عنه وغيره، منها ما رواه أحمد والخرائطيّ في أوّل المكارم بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: " إنّما بعثت لأتمّم صالح الأخلاق "، ومنها ما رواه الطبرانيّ في الأوسط بسند فيه عمر بن إبراهيم القرنيّ، وهو ضعيف عن جابر مرفوعاً بلفظ: " إنّ الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال "، لكنّ معناه صحيح، ومنها ما عزاه الديلميّ لأحمد في مسنده عن معاذ رضي الله عنه، لكن قال في المقاصد: ما رأيته فيه، والذي رأيته فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، انظر كشف الخفاء 1/244].

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنّما بُعِثتُ رَحمةً، ولم أُبعَث عَذاباً ) [رواه البخاريّ في التاريخ عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا في الأدب عنه بلفظ: ( إنّي لم أبعث لعّاناً، وإنّما بعثت رحمة )، انظر كشف الخفاء 1/244].

وقد قدّم الإسلام أبعاداً كبرى للأخلاق التي جاء بها، فلا يمكن أن يقوم نظام أخلاقيّ حكيم بدونها، وهذه الأبعاد تقوم على إتمام مكارم الأخلاق من حيث النوع والكيف، وإتمامها من حيث الكمّ والقدر، ومن حيث عمومها وشمولها. ويتجلّى ذلك في النقاط التالية:

ـ ربط الأخلاق بالإيمان، ورفض الأخلاق النفعيّة.

ـ ربط الأخلاق بالعبادة.

ـ تفضيل الأخلاق على نافلة العبادة.

ـ ربط الأخلاق بالتشريع.

- رفض النسبيّة في الأخلاق، والتمييز الجاهليّ بين الناس، فهي أخلاق تسع الإنسانيّة كلّها.

ـ عظم مكانة مكارم الأخلاق في الآخرة.

- مكارم الأخلاق في الإسلام تقدّم أروع صورة للجمع بين الواقعيّة والمثاليّة، وإقامة العدل، والدعوة إلى الفضل، والبعد عن الإفراط أو التفريط.

وهذه المبادئ والحقائق لا يسعنا تفصيلها في هذا المقام، وبناء عليها فإنّ الحضارة الإسلاميّة كانت حضارة أخلاقيّة في طابعها الأوّل، وسمتها الكبرى المميّزة، لأنّ رسالة الإسلام جاءت للإنسانيّة عامّة: لإنقاذ الإنسان وإسعاده بهداية الله، وإخراجه من الظلمات إلى النور، للقيام بأمانة الاستخلاف في الأرض على أحسن وجه، وهذا من أسرار انتشار الإسلام، ودخول الناس في دين الله أفواجاً..

كلمة للإمام الغزاليّ في بيان موقع حسن الخلق وأهميته:

" الخلق الحسن صفة سيّد المرسلين، وأفضل أعمال الصدّيقين، وهو على التحقيق شطر الدين، وثمرة مجاهدة المتّقين، ورياضة المتعبّدين، والأخلاق السيّئة هي السموم القاتلة، والمهلكات الدامغة، والمخازي الفاضحة، والرذائل الواضحة، والخبائث المبعدة عن جوار ربّ العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين، وهي الأبواب المفتوحة إلى نار الله تعالى الموقدة، التي تطّلع على الأفئدة، كما أنّ الأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نعيم الجنان، وجوار الرحمن، والأخلاق الخبيثة أمراض القلوب، وأسقام النفوس، إلاّ أنّه مرض يفوّت حياة الأبد، فأين منه المرض الذي لا يفوّت إلاّ حياة الجسد.؟ ومهما اشتدّت عناية الأطبّاء بضبط قوانين العلاج للأبدان، وليس في مرضها إلاّ فوت الحياة الفانية، فالعناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب، وفي مرضها فوت حياة باقية أولى، وهذا النوع من الطبّ واجب تعلّمه على كلّ ذي لبّ، إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام لو أهملت تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت، فيحتاج العبد إلى تأنّق في معرفة علمها وأسبابها، ثمّ إلى تشمير في علاجها وإصلاحها، فمعالجتها هو المراد بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}[الشمس:9]، وإهمالها هو المراد بقوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}[الشمس:10] [إحياء علوم الدين 3/49/].