حاجة المسلم إلى معرفة الواقع



إِنَّ المؤمنَ لا بُدَّ أن يكون فطنًا عاقلًا لما يدور حولَه من الأحداث، فاهمًا لما يقع عنده من الأمور، وألَّا يكون غافلًا عن المكايد والمؤامراتِ التي تُحاك لأُمَّتِه التي هو جزء منها، وألَّا يكون جاهلًا بواقعِ حياتِه وحياةِ الأُمَمِ التي تُحيط به؛ فلا نجاةَ ولا مَأْمَنَ مِن المكر والكيد، ولا مَفَرَّ ولا حِصْنَ مِن كلِّ سوءٍ وشرٍّ إلا بالعلم والاطلاع على الواقع وما يجري فيه من الأمور.
وقد انقسمَ الناسُ في العلم بالواقع إلى ثلاثة أقسام: طرفين ووسط.
فأما القسم الأول: فهم الذين تركوا النظرَ في واقع مجتمعهم، ولم يلتفتوا أبدًا إلى شيء ممَّا يدور حولهم، ولم ينظروا في أخبار الأُمَم المحيطة بهم؛ فكانوا على جهل تامٍّ لا يُعينهم على فهمِ ما يحاكُ لهم وما يُراد بهم، ولو وقعَ لهم ما وقعَ من المكر والبلاء، لَمَا عرَفوا كيف الخروجُ من ذلك، ولَما عرَفوا ما لهم وما عليهم.

وأما القسم الثاني: فهم مَن انشغلوا بمتابعة الأخبار قراءةً وسماعًا ومشاهدةً؛ فكانَتِ الأخبارُ تَشغَلُ كلَّ وقتِهم مقصِّرين في القيام بواجباتهم الاجتماعية، جاهلين بالأحكام الشرعية وما يعنيهم من أمور معاشِهم ومَعادِهم.

وأما القسم الثالث: فقد اطَّلعوا على ما يعنيهم من الأخبار ممَّا ينتفعون بمعرفته في أمر معاشهم، وما يحفظون به ويذودون به عن دينهم وأُمَّتهم؛ فكانوا خيرَ هذه الأقسام؛ لم تجهل واقعًا تعيشه، ولم تفرِّط في علم تحتاج إليه، ولم تُهملْ واجباتِها الاجتماعية من برٍّ وصلةٍ ودعوةٍ وإرشاد.
ومعرفةُ الواقعِ يا عبادَ اللهِ أمرٌ مُهِمٌّ حضَّتْ عليه الشريعة بمقدار ما ينفع الأمةَ ويُصلِحُ لها أمرَ دينها ودنياها، ودلَّت على معناهُ النصوص الكثيرة؛ فمِن هذه النصوص قول عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين وأنا معهما؛ (أخرجه الترمذي: 169)، ففي هذا الاهتمام بأحوال المسلمين وأخبارهم والحرص على ما فيه مصلحةٌ للأُمَّة.

ومِن ذلك ما رُوي في الخبر: «مَن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم» ؛ (أخرجه الطبراني في الأوسط: 7473).
وممَّا فيه بيانُ الحرصِ على تطلُّبِ الأخبار التي تنفعُ المسلمين وتُصلِحُ أمرَهم ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم من تطلُّبٍ وتتبُّعٍ لأخبار اليهودي ابنِ صيَّاد، الذي كان يُظَنُّ أنه الدَّجَّال؛ فقد كان عليه السلام يختبئ له هو وأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ بين النخل ليسمعوا منه ما يقول، وليتأكَّدوا من خبره، وأخَذَ بعضُ العلماء من هذا الحديث: جوازَ التجسُّس على مَن يُخشى منه فسادُ الدين والدنيا.

ومن الأدلة على الحرص على معرفة الواقع ما أمر به النبيُّ عليه السلام زيدَ بنَ ثابت من تعلُّم اللغة العبرية؛ حتى يعرفَ ما يكتبونه، وحتى يقرأ رسائلهم.
ومما يدلُّ على أهمية معرفة الواقع قولُه عليه السلام: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ *ثِنْتَيْنِ *وَسَبْعِينَ *فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ *ثِنْتَيْنِ *وَسَبْعِينَ *فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً»؛ (أخرجه أبو داود: 4596)؛ فهذا خبرٌ منه عليه السلام عن واقعٍ سيكون في الأُمَّةِ بعدَه، ولا ينجو إلَّا مَنْ تحصَّن بالعلم، وعرَفَ الفرقةَ الواحدةَ التي تنجو من النار، ولا بُدَّ من معرفة الشرِّ وأسبابِه وأصحابه، كما لا بُدَّ من معرفة الخير وأسبابه وأصحابه، فبضدها تتميزُ الأشياءُ.
ولا بُدَّ أن يكون في المسلمين مَن يعرفُ خصالَ الجاهلية، وينظر في أحوال أهلها ومذاهبها؛ فعن عمر رضي الله عنه أنه قال: إنما تُنقَضُ عُرى الإسلامِ عروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام مَن لم يعرفِ الجاهلية.

وقال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]؛ أي: لكي تنكشف طريقتُهم ومناهجُهم في الكيد والخداع والتلبيس؛ فلا يضرُّوا الإسلامَ ولا أهلَه.

فإن مما يدل على عناية الصحابة بمعرفة واقعِهم قولُ حذيفة رضي الله عنه: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ *عَنِ *الشَّرِّ؛ *مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ»، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُون َ بِأَلْسِنَتِنَا »، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ، قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذلك»؛ (أخرجه البخاري: 3606)؛ فانظر كيف سأل النبيَّ عليه السلام عن الناس وأحوالهم وما يحدث ويقع منهم، وما الذي يجب عليه أن يفعله إن أدرك ذلك.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على مخالفة اليهود والنصارى في سُنَنهم وشعائرهم؛ فكانوا لا يصبغون شعورهم، فأمر بصبغها لمخالفتهم، وكانوا لا يصلون في نِعَالهم فأمر بالصلاة في النِّعَال، وكانوا يبنون المساجد على القبور، فحذَّر عليه السلام من فعلهم وسمَّاهم لذلك شِرارَ الخلق، وكان يقول: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم))؛ يعني: أن هذه الأُمَّة ستُقلِّد هؤلاء في كل شيءٍ، فحذرنا من ذلك؛ فلا بُدَّ للإنسان أن يكون على معرفة بعادات هؤلاء الكافرين وما يتدينون به حتى يُجانبه ويحذرَه ويُخالفه.
ومما يلزمُ الدعاةَ والعلماءَ معرفةُ أحوالِ الناسِ وعاداتهم في كل بلد يكونون فيه أو يرتحلون إليه؛ ليجعلوا لكل مقامٍ مقالًا؛ ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لمَّا بَعَثَه إلى اليمن: «إنك تأتي قومًا أهلَ كتابٍ، فليكُنْ أولَ ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»؛ (أخرجه البخاري: 1496)؛ فلا بُدَّ من معرفة عقائد الناس وعاداتهم وأحوالهم حتى ندعوَهم على بصيرة وبيِّنةٍ بالوسيلة الصالحة لحالهم ومكانهم، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، والحكمةُ هي وضْعُ الشيءِ في موضعِه.

عبادَ الله، إن الكلام في هذا الشأنِ لا تُوفيه خطبة قصيرة، ولا مقالة يسيرة؛ فاحرصوا على ما ينفعكم مِن أخبار واقِعِكم مما يُصلِح لكم دينَكم ودنياكم، ويعينكم على المساهمة في نهضة هذه الأمة، واجتنبوا مِن الأخبار ما لا خيرَ فيه لكم أو ما كان فيه نقمةٌ وشرٌّ، وقدِّموا معرفةَ الواجبِ عليكم من دينكم قبلَ كلِّ شيء؛ فعن ذلك ستُسألون بين يدي اللهِ تعالى يوم القيامة.
______________________________ __________________
الكاتب: عدنان بن عيسى العمادي