تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسرى بدر

أسرى بدر:
أسر المسلمون في غزوة بدر سبعين أسيراً، فماذا سيفعل المسلمون في هؤلاء الأسرى؟ فإلى هذه اللحظة لم يكن هناك تشريعٌ يوضح أمر التعامل مع هؤلاء الأسرى، فكان لا بد أن يتصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى طرق التشاور التي اعتاد صلى الله عليه وسلم أن يتعامل بها مع الصحابة رضي الله عنهم؛ فقام صلى الله عليه وسلم بعمل مجلس استشاريّ بأنْ جمع صحابته رضي الله عنهم، وبدأ صلى الله عليه وسلم يسألهم ويستشيرهم في أمر الأسرى.
موقف أبي بكر الصديق:
فقال المستشار الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أبو بكر الصديق) رضي الله عنه: "يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً".
لقد كان يغلب على رأي أبي بكر رضي الله عنه جانب الرحمة، فهو يرى أنهم بنو العم والعشيرة، والدولة في حاجة إلى ما سيؤخذ من أموالهم، وربما يؤمنون بعد ذلك، وهذا خير من أن يموتوا على الكفر، وقد كانت اختياراته رضي الله عنه قريبة من اختيارات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ نظراً لتقارب طبيعتي الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فكان صلى الله عليه وسلم يغلِّب جانب الرحمة على جانب القوة، كما كان صلى الله عليه وسلم يصفُ الصِّدِّيق ويقول: ((أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ))[1].
موقف عمر بن الخطاب:
لما أنهى أبو بكر رضي الله عنه كلامه قال صلى الله عليه وسلم للمستشار الثاني: ((مَا تَرَى يَابْنَ الْخَطَّابِ؟)) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكِّنني من فلان - وذكر قريباً له - فأضرب عنقه، وتمكن عليّاً من عقيل بن أبي طالب – أخيه - فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم" فكان رأيه رضي الله عنه شديد الحسم؛ ففي رأيه أن يُقتل السبعون، وعلى أن يقتل كلٌّ قريبه؛ حتى يُظهِر كل مسلم حُبَّه لله، وأنه ليس في قلبه ولاء لأيِّ مشرك مهما كان، حتى وإن كان أقرب الناس إليه، فكان هذا هو رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((وَأَشَدُّهَا - أي الأمة - فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ))[2].
فهذان رأيان، وكلاهما مبنيٌّ على الحب الكامل لله تعالى، ولأمر الدعوة والدولة الإسلامية، لكن كلاًّ منهما له طريقته، وكلاهما مختلف تمام الاختلاف عن الآخر، أحدهما يقول: نأخذ الفدية، والآخر يقول: نقتل الأسرى.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلتُ، وأخذ منهم الفداء"، فلما كان من الغد يقول عمر: "فغدوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدتُ بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما"، إنها أحاسيس راقية جدّاً في قلب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهُمُ الْفِدَاءَ، فَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ))[3]، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى شجرة قريبة، وأنزل الله تعالى قوله عز وجل: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ)[الأنفال: 67]، أي: يكثر القتل، (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا)[الأنفال: 67] أي: أخذ الفدية، (وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 67]، ثم قال: (لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[الأنفال:68]، والعذاب العظيم هو ما تحدَّث عنه النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب أنه كان أدنى من الشجرة، والكتاب الذي سبق هو الآيات التي نزلت قبل ذلك في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى في شأن الأسرى: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُ مْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)[محمد: 4].
فأمر الفداء أمر مشروع، لكن الأولى هنا كان أن يثخن في الأرض. وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه يرى مثل رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد قال ذلك مبكراً عندما بدأ المسلمون يأسرون المشركين، وقبل الاستشارة، وقد نظر النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ عندما بدأ المسلمون في أسر المشركين فوجده حزيناً، فقال له: ((وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَفْعَلُ الْقَوْمُ)) أي من أسر المسلمين للمشركين، فقال سعد: "أجَلْ والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحبَّ إليَّ من استبقاء الرجال"[4].
واستقر رأي المسلمين على استبقاء الأسرى، وأخذ الفدية منهم، وعندما أوحى الله تعالى بالآيات لم ينكر عليهم هذا الأمر، ومع أن الله تعالى ذكر أن الأولى كان الإثخان في الأرض، إلا أنه عز وجل أقرَّ أخذ الفداء، وبدأ المسلمون في أخذ الفداء؛ فمن كان معه مال كان يدفع منه، وكان ما يُدفع هو ما بين ألف إلى أربعة آلاف درهم للرجل وكلٌّ بحسب حالته المادية.
رسول الله يفدي عمه العباس:
من أروع الأمثلة التي تُذكر في أمر الفداء ما دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أسيراً في يوم بدر، وكان قد خرج مُستكرَهاً إلى بدر، وقاتل مع المشركين، وأُسِر مع من أُسر، وكان رجلاً غنيّاً، وسوف يدفع فدية ليفتدي نفسه، ودار بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحوار الرائع الذي ينقل درجةً من أرقى الدرجات في قيادة الدول، فلا يوجد أيُّ نوع من الوساطة أو المحاباة لأحد من الأقارب أو الأهل أو العشيرة، قال العباس: "يا رسول الله قد كنت مسلماً" أي أنه كان يُخفِي إسلامه، ومن ثَمَّ فلا يدفع الفداء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِسْلاَمِكَ، فَإِنْ يَكُنْ كَمَا تَقُولُ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِيكَ، وَأَمَّا ظَاهِرُكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا؛ فَافْتَدِ نَفْسَكَ، وَابْنَيْ أَخَوَيْكَ نَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ عَمْرٍو))، فقال العباس: "ما ذاك عندي يا رسول الله"، فقال صلى الله عليه وسلم: ((فَأَيْنَ الْمَالَ الَّذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ، فَقُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا فَهَذَا الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتُهُ لِبَنَيَّ: الْفَضْلِ وَعَبْدِاللَّهِ وَقُثَمٍ))، فقال العباس: "والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله؛ إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي ما أصبتم مني: عشرين أوقية من مال كان معي"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْكَ))، وأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[الأنفال: 70]، وهذه الآية نزلت في العباس رضي الله عنه وقد قال بعد ذلك: "فأعطانا الله تعالى مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبداً، كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله تعالى "[5].
هذا الأمر يوضِّح لنا كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطبِّق القانون على الجميع حتى على العباس بن عبد المطلب، وكان الصحابة أنفسهم يستعجبون لهذا الأمر، وقد كان في قلوب الأنصار رِقَّة عجيبة، فلما رأوا هذا الأمر أشفقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأخذ الفداء من عمه، وعمه الذي يحبه، فقد كان العباس واقفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية، ومعنى ذلك أنه كان قريباً جدّاً من قلب النبي صلى الله عليه وسلم وليس كأبي لهب مثلاً؛ فجاء الأنصار إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحاولوا أن يُعفوا العباس من الفدية لكن بطريقة في غاية اللطف والأدب، فقد كانوا رضي الله عنهم قمة في الأخلاق وفي الإيمان فقالوا له: "يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه"[6]، وجَدَّة العباس رضي الله عنه من بني النجار من الخزرج الذين هم من الأنصار، فهم يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُعفِي عمَّه لا لأنه عمه؛ لكن لأنه قريب لهم من هذه الناحية، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض ذلك تماماً، وأصرَّ صلى الله عليه وسلم على أخذ الفداء، بل أخذ من العباس نفسه أعلى قيمة للفداء وهي أربعة آلاف درهم للرجل.
موقف آخر مع سهيل بن عمرو:
كان سهيل بن عمرو من قادة قريش، وكان أسيراً في بدر، وهو ممن عرفوا بحسن البيان والخطابة، وكان يحمِّس المشركين على قتال الرسول صلى الله عليه وسلم، وعندما أخذه المسلمون أسيراً كان من رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تُنزع ثَنِيَّة - وهي الأسنان الأمامية - سهيل بن عمرو لئلاّ يقف خطيباً ضد المسلمين بعد ذلك؛ فقال: "يا رسول الله دعني أنزع ثَنِيَّتَيْ سهيل بن عمرو، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً"، ورفض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، وتظهر نبوءة جديدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف حين قال: ((عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَاماً لاَ تَذُمُّهُ))[7]، وقد حدث هذا عندما ارتدت العرب فقد وقف سهيل رضي الله عنه وخطب في الناس، وثبَّتهم على الإسلام في مكة المكرمة وكان مما قال: "إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوةً، فمن رابنا ضَرَبْنا عُنُقَه"[8]؛ فثبت الناس في مكة على الإسلام.
صور أخرى من الفداء:
كانت هذه إحدى صور الفداء وهي الفداء بالمال، وكان بعض الأسرى من الفقراء فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض الأسرى يعرفون القراءة والكتابة، والأمة الإسلامية في ذلك الوقت لم تكن قد تعلمت بعدُ، ومن يقرأ ويكتب إنما هم قليل، فكان صلى الله عليه وسلم يفتدي هؤلاء المشركين بأن يُعلِّم كلٌّ منهم عشرة من غلمان المدينة المنورة، ويوضح هذا الأمر دقة النبي صلى الله عليه وسلم، وبُعد نظره، وعمق فهمه، فهو صلى الله عليه وسلم يريد أن يعلِّم الأمة القراءة والكتابة من أول أمرها، فقد استثمر صلى الله عليه وسلم هذا الحدث العظيم؛ وهو وجود سبعين أسيراً من المشركين بعضهم يعرفون القراءة والكتابة في أن يعلِّم الأمة.
وقد منَّ النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الأسرى بغير فداء، وأطلقهم صلى الله عليه وسلم هكذا دون أن يأخذ منهم شيئاً، ومنهم أبو عزة الجمحي وكان رجلاً فقيراً، وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: "لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن عليَّ"، فمنَّ عليه صلى الله عليه وسلم، لكن أخذ عليه عهداً ألاَّ يظاهر عليه أحداً ولكنه لم يفِ بعهده، ونال جزاءه بعد ذلك.
وقَتَلَ النبي صلى الله عليه وسلم أسيرين هما: عقبة بن أبي مُعَيْط، والنضر بن الحارث؛ لأنهما كانا من أكابر مجرمي قريش، أو ما نسمِّيهم اليوم مجرمي الحرب.
حكم الأسرى في الإسلام:
وقد نزل بعد ذلك التشريع الإسلامي في شأن الأسرى وهو أن الإمام له الخيار في شأن الأسرى بين أربعة أمور:
1- المنّ بغير فداء.
2- الفداء: وقد يكون بمال، أو بتعليم الغير، أو بأسير مثله (تبادل أسرى).
3- القتل لمجرمي الحرب، أو المعاملة بالمثل إذا كان أعداء الأمة يقتلون الأسارى من المسلمين.
4- الاسترقاق وهو الاحتفاظ بالأسير رقيقاً إلى أجلٍ يحدده الإمام حسب ما يرى من احتياج المسلمين.
فللإمام أن يختار بين هذه الأمور الأربعة، وللحاكم أن يتعاهد مع دولة ما أو مجموعة من الدول في طريقة التعامل مع الأسرى، كأن يتم الاتفاق مع مجموعة من الدول على أنه لا استرقاق خلال العشر سنوات القادمة، أو لا قتل للأسرى خلال فترة محددة، وهكذا ما دام الشرع يسمح بأكثر من طريقة للتعامل مع الأسرى.
منهج الإسلام في التعامل مع الأسرى:
لكن هناك شيء في غاية الأهمية؛ وهو أنه إذا تمَّ الاختفاظ بالأسير فلا بد من إكرامه، ولا بد من رعايته رعايةً أخلاقية سامية تليق بدين الإسلام قال الله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)[الإنسان: 8]، أي أنه مع حالة الفقر والحاجة الشديدة التي تمرُّ بالمسلمين إلا أنهم مع ذلك (يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)، وقد غرس النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في صحابته منذ اليوم الأول لوجود أسرى معهم، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((اسْتَوْصُوا بِالأُسَارَى خَيْراً)).
وقد بذل الصحابة رضي الله عنهم كل خير للأُسارى، مع أنهم كانوا منذ أيام قليلة يحاولون قتل المسلمين، مع هذا نَسِي المسلمون ذلك تماماً، وتذكروا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اسْتَوْصُوا بِالأُسَارَى خَيْراً))، يقول أبو عزيز بن عمير - وهو ممن أسر في بدر، وهو أخو مصعب بن عمير - يقول: "كنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدَّموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني البُرَّ لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا"[9]، وكان لهذا الأمر الأثر الكبير في نفسية أبي عزيز الذي ما إن أُطلق حتى أعلن إسلامه رضي الله عنه.
وكان أبو العاص بن الربيع أيضاً في أسارى بدر يقول: "كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً" وأسلم بعد ذلك رضي الله عنه، وكان زوجاً لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيدة زينب رضي الله عنها ومع هذا كان أحد الأسرى، يقول رضي الله عنه: "كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنا إذا تعشَّينا أو تغدَّينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل، والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليَّ"[10]، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة - وهو أخو خالد بن الوليد رضي الله عنه - من أسارى بدر كان يقول مثل ذلك وأكثر، يقول: "وكانوا يحملوننا ويمشون"[11] أي إذا رأوا منهم جريحاً أو مريضاً أو متعباً حملوه رفقاً به، وهذا هو منهج الإسلام الذي جعلهم يدخلون في الإسلام؛ فقد أسلم أبو العاص بن الربيع، وأبو عزيز بن عمير، والسائب بن عبيد، والوليد بن الوليد.
_____________
[1] رواه الترمذي (3790، 3791) ترقيم شاكر، وابن ماجه (154) ترقيم عبد الباقي، وأحمد (12927) طبعة مؤسسة قرطبة. قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (895) في صحيح الجامع.
[2] رواه أحمد (12927)، وصححه شعيب الأرناؤوط.
[3] رواه أحمد (208)، وصححه شعيب الأرناءوط. وانظر: المباركفوري: الرحيق المختوم ص210.
[4] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص 628.
[5] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1420هـ- 1999م، 4/92.
[6] البخاري: كتاب العتق، باب إذا أسر أخو الرجل أو عمه هل يفادى إذا كان مشركاً (2400)، ترقيم البغا.
[7] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص649.
[8] السابق نفسه، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص666.
[9] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص645.
[10] الواقدي: المغازي 1/119.
[11] السابق نفسه، الصفحة نفسها.