تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: قصة الخلافة العباسية ابتداء من نشأة الدولة حتى السقوط

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي قصة الخلافة العباسية ابتداء من نشأة الدولة حتى السقوط

    قصة الخلافة العباسية

    (نشأة الخلافة العباسية)

    قصة الإسلام




    بداية الدعوة العباسية

    كان بنو أمية يجلون آل البيت، ولكن تجاوزات بعض الولاة أساءت في بعض الأحيان إليهم.
    كان الوليد بن عبد الملك الخليفة يومئذ قد أقطع الحُميمة (بلدة في الأردن) لعلي بن عبد الله بن عباس فأقام واستقر بها.
    بعد زيارة قام بها عبد الله بن محمد (أبو هاشم) إلى الخليفة سليمان بن عبد الملك، الذي رحب به وأكرمه، شعر أبو هاشم بالمرض وأحس بدنو أجله، وأشاع الناس أن سليمان قد سمّه فعرج أبو هاشم على (الحميمة) ونقل ذلك إلى ابن عمه محمد بن على بن عبد الله بن عباس، وطلب منه أن يقتص من بني أمية وذلك عام 99هـ.
    لقي كلام أبو هاشم لابن عمه محمد موقعًا من نفسه، وكان رجلاً طموحًا وكان له أكثر من عشرين أخًا يدعمونه بالإضافة إلى أبنائه، فحمل محمد بن على الفكرة وهى: إزالة ملك بني أمية، وبدأ يعمل على تنفيذها.
    اختيار المكان

    اختار الكوفة وخراسان نقطتي انطلاق للدعوة وهو اختيار دقيق لأسباب منها:
    1- أكثر الناقمين على بني أمية من الكوفة.
    2- أن خراسان تقع في مشرق الدولة وإذا اضطرت الظروف يمكن أن يفر إلى بلاد الترك المجاورة.
    3 - وفي خراسان صراعات عصبية بين العرب (القيسية واليمانية) يمكن الاستفادة من هذا الصراع لصالحه.
    4 – وخراسان دولة حديثة عهد بالإسلام، فيمكن التأثير في نفوس أهلها من منطلق العاطفة والحب لآل البيت.
    5 – اختار الكوفة مركزًا للدعوة ويقيم فيها ما يسمى (بكبير الدعاة أو داعي الدعاة)، وتكون خراسان هي مجال انتشار الدعوة.
    تنظيم أمور الدعوة

    عمد كذلك إلى السرية التامة وكان حريصًا عليها، تنتقل المعلومات من خراسان إلى الكوفة إلى الحميمة، ويتحرك الدعاة على شكل تجار أو حجاج.
    أول كبير للدعاة في خراسان هو أبو عكرمة السراج (أبو محمد الصادق) الذي اختار اثني عشر نقيبًا كلهم من قبائل عربية، وهذا يرد على الادعاء بأن الدولة العباسية قامت على أكتاف الفرس. فكان كبير الدعاة يختار اثني عشر نقيبًا يأتمرون بأمره ولا يعرفون الإمام، ولكل نقيب سبعون عاملاً.
    بدأت الدعوة تؤتي ثمارها في خراسان، وبدأ يظهر رجالها، مما جعل والي خراسان يومئذ وهو أسد بن عبد الله القسري يقبض على أبي عكرمة السراج، وعدد من أصحابه فيقتلهم سنة 107هـ.
    وحتى سنة 118هـ استطاع أسد بن عبد الله (كان قد عزل ثم أعيد) بخبرته أن يكشف بعض قادة التنظيم العباسي واشتد عليهم فلجأت الدعوة العباسية إلى السرية التامة من جديد.
    ولأن رجال الدعوة قد عرفوا هناك كان لابد من تغيير، فتم اختيار عمار بن يزيد (خداش) داعية جديدًا في خراسان، ولكن لم يكن اختيارًا موفقًا إذ أظهر بعد ذلك الكفر وانكشف أمره، وقتل على يد أسد بن عبد الله أيضًا سنة 118هـ.
    شوهت أفعال خداش صورة الدعوة العباسية في أذهان الناس، ولم يثقوا في الداعية الجديد، إضافةً إلى شدة أسد بن عبد الله عليهم.
    وحتى سنة 122هـ كانت الدعوة تسير ببطء فلقد ظهر عائق جديد وهو ثورة زيد بن على بن زين العابدين بالكوفة.. وكان لا بُدَّ أثناءها وبعدها من الهدوء ليعود الجو إلى حالته الطبيعية.
    وفي سنة 125هـ توفي محمد بن علي وأوصى من بعده لابنه إبراهيم؛ ليقوم بمتابعة أمور الدعوة.
    وجاء الفرج في سنة 125هـ بعد وفاة هشام بن عبد الملك وانشغال الدولة الأموية بصراعاتها الداخلية.. بالإضافة إلى أن الدعوة العباسية بتوجيه من إمامها قررت استغلال الصراع القبلي القائم بخراسان؛ وذلك لأن والي خراسان يومئذ كان (نصر بن سيار) مضريًّا وأكثرية العرب هناك من اليمانية فكرهوه، فاتجهت الدعوة العباسية إلى اليمانية. وأثّر هذا الصراع القبلي على أحوال الناس ومصالحهم بكافة فصائلهم (اليمانيون، المضريون، أهل العلم، الفرس، الترك)، كل هذه الأحداث ساعدت الدعوة العباسية على الانتشاط من جديد.
    ظهور أبي مسلم الخراساني

    وفي سنة 128هـ ظهرت شخصية قوية هو أبو مسلم الخراساني (فارسي الأصل) أحد دعاة بني العباس منذ سنوات، لمح فيه إبراهيم بن محمد الذكاء والكفاءة، فقرر أن يرسله إلى خراسان حيث أمر الدعوة في نمو مطرد.
    وفي سنة 129هـ جاءت إلى أبي مسلم رسالة من الإمام تأمره بالظهور بالدعوة، ففعل، ووالي خراسان يومها مشغول بصراعات الدولة الداخلية، ولما كان يوم عيد الفطر صلى أبو مسلم بالناس.
    مرحلة الاشتباك المسلح

    وقع أول اشتباك بين قوة بني أمية وقوة بني العباس في خراسان، وانتصر فيها أبو مسلم على قوات نصر بن سيار، وكثر أتباع أبي مسلم فقد احتال حيلاً لطيفة في السيطرة على الأمر فكان يرسل إلى اليمانية يستميلهم، ويكتب إلى المضرية يستميلهم بقوله: (إن الإمام أوصاني بك خيرًا، ولست أعدو رأيه فيك).
    توترت الأحداث، وبعث مروان بن محمد في طلب إبراهيم بن محمد الإمام المقيم بالحميمة، فقيدوه وأرسلوه إلى الخليفة بدمشق فسجن.
    وفي سنة 131هـ ازداد تمكن أبي مسلم من الأمر، وفر نصر بن سيار وتوفي، فدانت خراسان كلها لأبي مسلم.
    وفي سنة 132هـ انتصرت قوات أبي مسلم على قوات العراق ثم توجه إلى الكوفة والتي كان قد خرج بها محمد بن خالد بن عبد الله القسري داعيًا لبني العباس.
    وفي سنة 132هـ مات إبراهيم بن محمد في سجن مروان بن محمد، وأوصى بالخلافة بعده لأخيه عبد الله بن محمد (السفاح)، وبالفعل اختير السفاح أول خليفة لبني العباس في ربيع الآخر سنة 132هـ.
    وفي 11 من جمادى الآخرة أرسل السفاح الجيوش لمنازلة الأمويين فسحقهم، واستتب الوضع لبني العباس عدا الأندلس.
    أول خلفاء بني العباس

    خلافة السفاح عبد الله بن محمد العباسي

    (من ربيع الآخر 132هـ حتى ذي الحجة 136هـ)
    ولد السفاح بالحميمة ونشأ بها، ثم لما أخذ مروان أخاه إبراهيم انتقل أهله إلى الكوفة فانتقل معهم، ويقال له أيضًا: المرتضى والقاسم. آلت إليه الخلافة كما رأينا واستقر بالكوفة.. بيد أنه واجه محاولات عديدة للخروج عليه، ولكنه استطاع أن يقضي عليها جميعًا مستعينًا بأبي مسلم الخراساني وفئة من أهله وعشيرته وكانوا كثرة، وكان شديد البطش والتنكيل بخصومه، فكان جُلُّ اعتماده على:
    1- أبو مسلم الخراساني بالمشرق.
    2- أخوه أبو جعفر المنصور بالجزيرة وأرمينية والعراق.
    3- عمه عبد الله بن على بالشام ومصر.
    وكان معظم ولاة السفاح من أعمامه وبني أعمامه.. وعَهِد السفاح من بعده إلى أخيه أبي جعفر المنصور ومن بعده إلى ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي. ولم تطل أيامه، فقد أصيب بالجدري فمات، ولم تستقر له الأمور بصورة تامة.



    والى لقاء قادم إن شاء الله

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: قصة الخلافة العباسية ابتداء من نشأة الدولة حتى السقوط

    قصة الخلافة العباسية (2)

    (خلافة أبى جعفر المنصور)

    قصة الإسلام

    مخاطر على الدولة الناشئة


    لما تولى المنصور الخلافة (من ذي الحجة 136هـ حتى ذي الحجة 158هـ) وضع نصب عينيه مخاطر ثلاث لا بُدَّ أن يقضي عليها:

    1- منافسة عمه عبد الله بن علي له في الأمر، وقد كان موكلاً بتدبير جيوش الدولة من أهل خراسان والشام والجزيرة والموصل ليغزو بهم الروم (وكان رغم جلالة قدره عند بني العباس لكنه كان قليل الحزم).
    2- اتساع نفوذ أبي مسلم الخراساني، أحد أعمدة الدولة العباسية فكان أبو جعفر شديد الحنق عليه، لا يرضيه أن يكون له في الأمر شريك ذو سطوة وسلطان.
    3- بنو عمومته من آل علي بن أبي طالب الذين لا يزال لهم في قلوب الناس مكان، خاصة محمد بن عبد الله بن حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فخاف أبو جعفر أن يحاول الخروج عليه.
    معالجته للخطر الأول

    فأما الخطر الأول: إزالة عمه:
    (يضرب عمه بأبي مسلم وأيهما زال فقد زال من طريقه).
    كان عبد الله بن على ينتظر أن تؤول إليه الخلافة لما كان له من يد طولى في القضاء على ملك بني أمية، فلما جاء الخبر باستخلاف أبي جعفر المنصور خلعه وأعلن البيعة لنفسه.. فأرسل إليه أبو جعفر جيشًا بقيادة أبي مسلم الخراساني فالتقوا عند حران ودارت معركة بين الفريقين لمدة ستة أشهر وظلت المعركة سجالاً ثم تحولت إلى أبي مسلم الذي انتصر، وفر عبد الله بن علي إلى البصرة عند أخيه سليمان فعلم بذلك أبو جعفر فبعث إلى أبي سليمان يأمره بإحضار عبد الله بن علي إليه، وأعطاه الأمان لعبد الله ما جعله يثق به، فجيء به إلى المنصور سنة 139هـ، فأمر بحبسه وحبس من كان معه وظل في حبسه حتى مات سنة 147هـ، وكانت هذه غدرة من المنصور.
    معالجته للخطر الثاني

    وأما الخطر الثاني: أبو مسلم الخراساني:
    أراد أبو جعفر أن يصطاد أبا مسلم قبل أن يعود إلى خراسان بعد هذه المعركة، ولم يكن يريد أن يظهر لأبي مسلم مراده.
    فكتب إلى أبي مسلم (إني قد وليتك مصر والشام فهي خير لك من خراسان.. تكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقاءك أتيته من قريب).
    فغضب أبو مسلم، وقال: (يوليني الشام ومصر، وخراسان لي).
    وعزم على عدم تنفيذ الأمر والعودة إلى خراسان.
    قرر أبو جعفر استعمال الدهاء مع أبي مسلم وبدأت بينهما حرب مراسلات، حتى أرسل أبو جعفر إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي، في جماعة من الأمراء وأمره أن يكلم أبا مسلم بألين ما يكلم به أحدًا، وأن يمنِّيه فإن أبى قال له: (هو بريء من العباس إن شققت العصا، وذهبت على وجهك ليدركنك بنفسه وليقاتلنك دون غيره، ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك، حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك).
    وبالفعل يقابل الوفد أبا مسلم فيأبى أن يطيع، أو أن يأتي لمقابلة أبي جعفر، فيبلغاه الرسالة الأخيرة، وسبحان الله! فهذه الكلمات جعلت الجبار أبا مسلم يخنع ويجبن، ويزداد ترددًا وحيرة.

    كما كتب أبو جعفر إلى خليفته أبي مسلم على جند خراسان يعطيه إمامه خراسان ما عاش.. كل هذه الضغوط جعلت أبا مسلم يقرر الذهاب لمقابلة أبي جعفر المنصور الذي تمادى في المكر فأعطاه الأمان، وأظهر له عند دخوله المدائن الاحترام والتقدير ومراسم الاستقبال، ولكنه كان عازمًا على قتل أبي مسلم غدرًا، وبالفعل قتله وهو يكلمه آمنًا على يد بعض حراسه.

    روى البيهقي عن الحاكم بسنده أن عبد الله بن المبارك سئل عن أبي مسلم أهو خير أم الحجاج؟ فقال: لا أقول إن أبا مسلم كان خيرًا من أحد، ولكن كان الحجاج شرًّا منه، قد اتهمه بعضهم على الإسلام، ورموه بالزندقة، ولم أر فيما ذكروه عن أبي مسلم ما يدل على ذلك، بل على أنه كان ممن يخاف الله من ذنوبه، وقد ادعى التوبة فيما كان منه من سفك الدماء في إقامة الدولة العباسية، والله أعلم بأمره.
    معالجته للخطر الثالث

    الخطر الثالث: محمد بن عبد الله بن الحسن بن زيد:
    فقد زعموا أن بني هاشم انتخبوه للخلافة وبايعوه بها في أواخر عهد بني أمية، وكذلك بايعه أبو جعفر المنصور فلما جاءت الدولة العباسية لم يف أبو جعفر ببيعته له، ولذلك لم يبايع محمد لأبي العباس ولا لأبي جعفر.. واستخفى في زمن أبي جعفر وظل أبو جعفر يجري تحرياته عن محمد فلما لم يعثر عليه اعتقل المنصور أباه وصادر أمواله.
    ولا يزال المنصور يبحث عنه وأنفق كثيرًا من المال في هذه السبيل فلم يصل إلى شيء.. فاعتقل بني الحسن كلهم فلما علم محمد بذلك قال لأمه هند: (إني قد حملت أبي وعمومتي ما لا طاقة لهم به ولقد هممت أن أضع يدي في أيديهم فعسى أن يخلي عنهم). فتنكرت هند ثم جاءت السجن كهيئة الرسول فأذن لها، فلما رآها عبد الله أبو محمد عرفها فنهض إليها فأخبرته بما قال محمد فقال:(كلا بل نصبر، فوالله إني لأرجو أن يفتح الله به خيرًا، قولي له فليدع إلى أمره وليجِدَّ فيه فإن فرجنا بيد الله). فانصرفت، واستمر محمد على اختفائه.
    فاستعمل معهم المنصور أشد أنواع العذاب ونقلهم إلى سجن بالعراق، ومات أكثرهم في الحبس.
    نتيجة هذه الفظائع قرر محمد الظهور بالمدينة، وكان ذلك أول يوم من رجب سنة 145هـ، أعانه أهل المدينة وصعد منبر الحرم وخطب فيهم.
    والحقيقة أنه كان من مكر أبي جعفر الخليفة أنه كتب إلى محمد على ألسنة قواده يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه؛ مما جعل محمد يتوهم أن أغلب الأمصار معه، كما أن الحسن كان قد اتفق مع أخيه إبراهيم أن يظهر في نفس اليوم بالبصرة ليعظم ذلك على أبي جعفر ولكن أخاه مرض ولم يخرج.
    كما أنه حصر نفسه بالمدينة وهي ليست بمركز حربي يمكن للقائد أن يبقى فيه للدفاع طويلاً فحياة المدينة من خارجها فلا تحتمل الحصار إلا قليلاً.. وقد كان فحوصرت المدينة ودبّر أبو جعفر أمره تدبيرًا محكمًا.
    وتكررت تجربة ابن الزبير فقد انتقض الناس من حول محمد الذي قتل بعد أن أظهر شجاعة فائقة، وذلك في رمضان سنة 145هـ.
    وبمقتل محمد استتب الأمر لأبي جعفر وتوطدت أركان الدولة الناشئة، فلم يعد هناك في الأفق مخاطر داخلية.
    بناء بغداد

    شرع المنصور في بناء بغداد كمقر للخلافة العباسية، وأتم بناءها سنة 146هـ.

    وقالوا: إنه أنفق على بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار، قال الخطيب البغدادي: لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة علمائها وأعلامها، وحشر إليها المنصور العلماء من كل بلد وإقليم، حتى صارت أم الدنيا وسيدة البلاد ومهد الحضارة الإسلامية في عهد الدولة العباسية، وأربى سكانها على مليونين.

    ذكر ما جاء في وصف المنصور وخصائصه وأخلاقه

    كان المنصور أعظم رجل من آل العباس شدة وبأسًا ويقظة وثباتًا، كان شغله في صدر النهار بالأمر والنهي، والولايات، والعزل، وشحن الثغور، وأمن السبل والنظر في الخراج، والنفقات، ومصلحة معاش الرعية.. فإذا صلى الظهر دخل منزله واستراح إلى العصر، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته ونظر في مصالحهم الخاصة، فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والآفاق وشاور سُمّاره من ذلك فيما أرب، فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه فأسبغ وضوءه وصف محرابه حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيجلس في إيوانه.
    كان المنصور في شبابه يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه، فنال جانبا جيدًا وطرفًا صالحًا، وقد قيل له يومًا: يا أمير المؤمنين، هل بقي شيء من اللذات لم تنله؟ قال: شيء واحد. قالوا: وما هو؟ قال: قول المحدث للشيخ: من ذكرت رحمك الله.
    فاجتمع وزراؤه وكتابه وجلسوا حوله وقالوا: ليُملِ علينا أمير المؤمنين شيئًا من الحديث. فقال: لستم بهم، إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، رواد الآفاق وقطَّاع المسافات، تارة بالعراق وتارة بالحجاز، وتارة بالشام، وتارة باليمن، فهؤلاء نقلة الحديث.
    وقد ذكروا في مآثره وحلمه وعفوه وحسن تدبيره وتعهده ابنه المهدي وإعداده للخلافة مآثر طيبة، ولكن يؤخذ عليه غدره بأبي مسلم الخراساني وعمه عبد الله بن علي بعد أن أعطى كل واحدٍ منهما الأمان.
    ذكر الفتوحات

    لم تكن هناك فتوحات حاسمة في عهده، بل هي غزوات متكررة، بل ربما تجرأ الروم على المسلمين لانشغالهم بالصراعات الداخلية فهجموا على بعض الثغور، ودخل مَلِكُهم قسطنطين ملاطية عنوة وهدم سورها وتقدم في بلاد المسلمين.
    ولكن لما انتبه المنصور وانتهت إلى حد كبير الصراعات الداخلية، عاد الغزو من جديد واستعاد المسلمون سيطرتهم من ناحية بلاد الروم.
    كما بعث أبو جعفر ابنه المهدي لغزو طبرستان سنة 141هـ.

    وفي سنة 151هـ شرع أبو جعفر في بناء الرصافة لابنه المهدي، بعد مقدمه من خراسان، وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سورًا وخندقًا، وفيها جدَّد المنصور البيعة لنفسه، ثم لولده المهدي من بعده ثم لعيسى بن موسى من بعدهما.

    موت أبي جعفر

    مات أبو جعفر سنة 158هـ في طريقه إلى الحج، ودفن بمكة، وقد كتم الربيع الحاجب موته حتى أخذ البيعة للمهدي من قادة بني هاشم ثم دفن.
    قالوا: وكان آخر ما تكلم به المنصور أن قال: "اللهم بارك لي في لقائك".


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: قصة الخلافة العباسية ابتداء من نشأة الدولة حتى السقوط

    قصة الخلافة العباسية
    (خلافة محمد المهدي وموسى الهادي)


    قصة الإسلام








    خلافة المهدي


    تولى الخلافة من ذي الحجة 158هـ حتى محرم 169هـ، وعمره 32 سنة.

    كانت خلافته مرفهة عن الناس فأمر بإطلاق من كان في سجن المنصور من المعارضين، وكان يجلس للمظالم بنفسه فسارت الأمور في عهده طبيعية مع توسع في العمران.. ومن آثاره زيادته في المسجد الحرام فأدخل فيه دورًا كثيرة مما يحيط به وأمر بمحو اسم الوليد بن عبد الملك من حائط المسجد النبوي وكتابة اسمه.
    والحق أن المنصور وطّد للمهدي الأوضاع، وأخضع له الرقاب فأراح مَن بعده وكان المهدي يرسل أبناءه للغزو.
    من الفتوحات في عهده

    وفي سنة 163هـ بعث ابنه هارون الرشيد على رأس قوة من بلاد خراسان ومعه خالد بن برمك، ونال من الأعداء نيلاً عظيمًا وأصبح بعد ذلك واليًا على الشطر الغربي من المملكة الإسلامية.
    ولم تحدث في عهده فتوح واسعة ولم تُضَم مدن كبيرة إلى بلاد الإسلام، إلا أن الانتصارات كانت كبيرة والغنائم كثيرة.
    وفي سنة 165هـ جهز المهدي ولده الرشيد لغزو بلاد الروم، وأنفذ معه من الجيوش عددًا كبيرًا فلما عاد سنة 166هـ من بلاد الروم دخل الرشيد بغداد في أبهة عظيمة، ومعه الروم يحملون الجزية من الذهب وغيره.
    وفي سنة 167هـ وجَّه المهدي ابنه موسى الهادي إلى جرجان في جيش كثيف لم يُرَ مثله.
    من مآثره وحسن سياسته

    ذكروا أنه هاجت ريح شديدة فدخل المهدي بيتًا في دار فألصق خده بالتراب وقال: "اللهم إن كنت أنا المطلوب بهذه العقوبة دون الناس فها أنا ذا بين يديك، اللهم لا تشمت بي الأعداء من أهل الأديان"، فلم يزل كذلك حتى انجلت.
    ودخل عليه رجل يومًا ومعه نعل فقال: هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهديتها لك فقال: هاتها فناوله إياها، فقّبلها ووضعها على عينيه وأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما انصرف، قال المهدي: والله إني لأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير هذا النعل، فضلاً عن أن يلبسها ولكن لو رددته لذهب يقول للناس: أهديت إليه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّها على، فتُصدقه الناس؛ لأن العامة تميل إلى أمثالها، ومن شأنهم نصر الضعيف على القوى وإن كان ظالمًا، فاشترينا لسانه بعشرة آلاف درهم ورأينا هذا أرجح وأصلح.
    وكان يتتبع الزنادقة (المارقين عن الدين)، ويعاقبهم بالقتل.
    وبالجملة فإن للمهدي مآثر ومحاسن كثيرة يقصر المقام عن ذكرها ثم توفي -رحمه الله- وكان قد استخلف من بعده ابنه موسى الهادي.
    خلافة موسى الهادي

    تولى الحكم من محرم 169هـ حتى من ربيع 170هـ، وعمره 25 سنة، وكان يسير على هدي أبيه في محاربة الزنادقة.
    وقعة فخ

    وقامت في عهده محاولة للخروج عليه من قبل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وكان بالمدينة، ولكنه قُتِل على يد جيش الهادي بعد تسعة أشهر وثمانية عشر يومًا وسميت هذه المعركة معركة فخ وأفلت من هذه المعركة إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب واتجه إلى مصر ومنها انطلق إلى المغرب حيث أسَّس دولة الأدارسة التي سيأتي ذكرها.
    من مآثره

    كان موسى الهادي شديد الغيرة على حرمه، وقد نهى أمه الخيزران أن يدخل عليها أحد من القواد أو رؤساء حكومته بعد أن كان لها نفوذ في عهد المهدي؛ ولذا يقولون إنها سمته لعزلها عن أمر الملك، ولأنه ضيَّق على الرشيد (الخليفة من بعده)؛ لأنه أراد أن يعدل عن استخلافه إلى استخلاف ابنه جعفر وفعل النمّامون وأصحاب النفوس الدنيئة فعلتهم في الإيقاع بينه وبين أخيه الرشيد.
    وكان الهادي شهمًا خبيرًا بالملك كريمًا، وكان من كلامه: ما أصلح الملك بمثل تعجيل العقوبة للجاني، والعفو عن الزلات؛ ليقل الطمع عن الملك.
    كان الهادي يرى أن الناس إنما يصلحهم عدم احتجاب خليفتهم عنهم، بل معايشتهم ومعايشة مشكلاتهم فكان يأمر حاجبه الفضل بن الربيع قائلاً: "لا تحجب عني الناس؛ فإن ذلك يزيل عني البركة". وكان قوي البأس، يثب على الدابة وعليه درعان.
    توفي الهادي في ربيع أول سنة 170هـ، وصلى عليه أخوه هارون.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: قصة الخلافة العباسية ابتداء من نشأة الدولة حتى السقوط

    قصة الخلافة العباسية

    (خلافة هارون الرشيد)

    قصة الإسلام







    تولى هارون الرشيد الحكم من ربيع الأول 170هـ حتى جمادى الآخرة 194هـ، وعمره 25 سنة.
    من مناقب هارون الرشيد

    - كان هارون الرشيد كثير الصلاة.
    - حج تسع مرات خلال فترة حكمه سنة 170هـ، 173هـ، 174هـ، 175هـ، 177هـ، 180هـ، 181هـ، 186هـ، 188هـ.
    - وكان إذا حج حج معه من الفقهاء وأبنائهم جمع كبير، وإذا لم يحج يحج عنه ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة.
    - ومما اشتهر عنه أنه كان يحج عامًا ويغزو عامًا.
    قال الطبري: غزا سبع مرات، وجهز عشرين حملة للجهاد في البر والبحر.

    وفضائل الرشيد ومكارمه كثيرة جدًّا، وقد كان الفضيل بن عياض يقول: ليس موت أحد أعز علينا من موت الرشيد، لما أتخوف بعده من الحوادث، وإني لأدعو الله أن يزيد في عمره من عمري.

    قالوا: فلما مات الرشيد وظهرت تلك الفتن والحوادث والاختلافات وظهر القول بخلق القرآن، فعرفنا ما كان تخوفه الفضيل من ذلك.
    محنة البرامكة في عهد هارون الرشيد

    لما جاءت الدعوة العباسية إلى خراسان، كان خالد بن برمك من أكبر دعاتها فاستوزره أبو العباس السفاح..فما زال خالد بن برمك يتقلب في المناصب بحسن السيرة وكان ممدوح الولاية حتى مات سنة 163هـ.
    وكان ابنه يحيى بن خالد بن برمك من أرفع الناس أدبًا وفضلاً ونبلاً، تولى المناصب منذ عام 158هـ، وكان محبوبًا وهو الذي ربى هارون الرشيد، الذي بدوره كان لا يناديه إلا بـ (يا أبي)، ويحيى هو الذي مكّن هارون من الخلافة على غير رغبة الهادي.
    فلما تولى الرشيد الخلافة أمّر يحيى وزارته فكانت وزارة تفويض وقال له: (قلدتك أمر الرعية وأخرجته من حقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، وأعزل من رأيت..).
    في سنة 184هـ بايع الرشيد لابنه عبد الله المأمون بولاية العهد بعد أخيه محمد الأمين وضمه إلى جعفر بن يحيى.
    لقد كانت هذه الأسرة مقربة إلى الرشيد، تساعده في القيام بمهام الدولة خير قيام.
    سماهم المؤرخون (زهرة الدولة العباسية كلها).. قادوا الجيوش، وسدوا الثغور، ودافعوا عن حياض الدولة.
    ولكن لماذا أوقع بهم الرشيد، وما الذي غير قلبه عليهم؟!
    الحقيقة في هذه المسألة غير أكيدة واختلف فيها المؤرخون، والأرجح أن هذه الأسرة الفاضلة قد بلغت من العز مبلغًا عظيمًا.. وهناك دائمًا الحاقدون وأصحاب القلوب المريضة الذين لا يحبون أن يروا الأمة مجتمعة إلى حين، ويغيظهم أن يصل غيرهم إلى تلك المنازل بجهد وبذل وتضحية وهم متفرجون، فيلجئون إلى الوشاية والوقيعة بحيلة ومكر.. لقد تغير قلب الرشيد تجاههم بفعل فاعل.
    ولعل أرجح ما قيل في ذلك ما ذكره بعض المؤرخين أن سبب ذلك قيام جعفر بن يحيى بتهريب يحي بن عبد الله بن الحسن (أخو إدريس)[1] من سجن الرشيد سرًّا؛ لأنه تعاطف معه لأنه من نسل آل البيت. وقد اتهم البرامكة بالتشيع من قبل بعض المؤرخين، وبلغ الخبر الفضل بن الربيع[2] من عين كانت له حيث كان يتحين فرصة يؤلب بها الرشيد على البرامكة، فأخبر الرشيد فقال له الرشيد: (ما لك وهذا لا أم لك، فلعل ذلك عن أمري). فانكسر الفضل، فلما جاء جعفر (حبيب الرشيد) دعا بالغداء فأكلا وتحادثا إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال الرشيد: ما فعل يحيى بن عبد الله؟
    قال جعفر: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس والأكبال.
    قال الرشيد: بحياتي؟
    فأحجم جعفر وهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره.
    فقال: لا وحياتك يا سيدي، ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده. فقال الرشيد: نعمّا فعلت ما عدوت ما كان في نفسي فلما خرج اتبعه بصره ثم قال: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك فكان من أمره ما كان.
    كانت هذه الحادثة سببًا للوشاية بالبرامكة في أخص صفات الوزراء وهي الإخلاص لملوكهم، وذلك طعن مؤثر... ووقر في نفس الرشيد شيء من ذلك أن البرامكة يؤثرون مصلحة العلويين على مصلحته، وهذه التهمة أشد من تهمة الزندقة عند المهدي وانفرط عقد الثقة بين الخليفة الرشيد والبرامكة وهم أحباؤه وخلصاؤه، فتحمست أمامه عيوبهم وجعلته يستريب فيهم لأدنى شبهة.
    حتى كانت سنة 187هـ وفيها كان مهلك البرامكة على يدي الرشيد قتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي بطريقة بشعة، ودمر ديارهم وذهب صغارهم وكبارهم.
    ويبدو أن الرشيد قد ندم بعدها؛ فقد كان يقول: لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة ولا رجاء، وددت والله أني شطرت نصف عمري وملكي، وأني تركتهم على حالهم.
    حاله مع الروم

    وفي عهد هارون الرشيد حكم الروم نقفور وقد بعث نقفور برسالة إلى الرشيد:

    من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي[3] أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مكان البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقيًّا بحمل أمثاله إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد إلى ما حملته إليك من الأموال وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.

    فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب، فكتب على ظهر الكتاب الذي جاءه:
    بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه.
    فاجتاحت جيوش المسلمين بلاد الروم فاضطر نقفور إلى المسالمة على خراج يؤديه، فمكث نقفور يؤدي جزية قدرها 300 ألف دينار سنويًّا إلى بيت مال المسلمين.
    وعلى الجملة كانت قوة المسلمين في عهد الرشيد ظاهرة ظهورًا بينًا على الروم؛ لأن الرشيد كان يغزو ومعه عظماء القواد.
    دولة الأدارسة وأثرها على هارون الرشيد


    وفي عهده قامت دولة الأدارسة سنة 172هـ بالمغرب ومؤسسها هو: إدريس بن عبد الله بن الحسن الذي فر من وقعة الفخ أيام الهادي فأقام دولته في بلاد المغرب الأقصى، وهي أول دولة للعلويين.. وكان هارون في بداية خلافته يحسن إلى العلويين ولكنه بعد هذه الحادثة خافهم، وعاقب من مال إليهم أشد العقوبات.

    وفاة هارون الرشيد

    وقد رأى رؤيا فيها موته وصدقها الواقع.. رأى كفًّا به تربة حمراء وقائل يقول: هذه تربة أمير المؤمنين، فلما سار يريد خراسان مَرّ بـ (طوس) فمرض بها، فقال لخادمه: ائتني بشيء من تربة هذه الأرض. فجاءه بتربة حمراء في يده، فلما رآها قال: والله هذه الكف التي رأيت، والتربة التي كانت فيها! فأمر بحفر قبره في حياته، وأن تُقرأ فيه ختمة للقرآن تامة، وحُمِل حتى نظر إلى قبره فجعل يقول: إلى هنا تصير يا ابن آدم! وبكى، ثم قبض بعد ثلاث ليال.
    الرخاء في عهد هارون الرشيد

    كان هارون الرشيد ينظر إلى السحابة المارة ويقول: (أمطري حيث شئت؛ فسيأتيني خراجك). وقد بلغت إيرادات الدولة العباسية في عهده (70 مليون و150 ألف دينار)، وقد زادت في عصر المأمون عن ذلك بكثير.
    وفي عهده قامت دولة الأغالبة سنة 184هـ.
    [1] مؤسس دولة الأدارسة.
    [2] الفضل بن الربيع: أبوه الربيع بن يونس كان الرشيد مقتنعًا بقدراته ولكن أمه واسمها الخيزران كانت تمنعه أن يوليه شيئًا حتى ماتت سنة 174هـ، فجعل له الرشيد ولاية وكان يكره يحيى بن عبد الله بن الحسن، وكان دائمًا ما يعمل على تحذير الرشيد من أنه سيدعو إلى نفسه إذا سنحت له الفرصة.
    [3] ملكة الروم هي أغسطه، وقد عزلها الروم واختاروا مكانها نقفور.






    وإلى لقاء قادم إن شاء الله
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: قصة الخلافة العباسية ابتداء من نشأة الدولة حتى السقوط

    قصة الخلافة العباسية
    البرامكة – نكبة البرامكة

    قصة الإسلام


    البرامكة
    يرجع أصل أسرة البرامكة إلى جدهم الأول برمك المجوسي، وكان من سدنة بيت النار وخدامه الكبار، ولا يذكر له إسلامًا، وترتيب هذه الأسرة كما يلي:
    • برمك المجوسي.
    • خالد بن برمك وهو من دعاة الدولة العباسية، وتولى الوزارة في عهد السفاح.
    • يحيى بن خالد البرمكي وهو أشهر شخصية في الأسرة، ووزير هارون الرشيد وأبوه في الرضاعة.
    • الفضل بن يحيى، خليفة أبيه والقائد الكبير.
    • جعفر بن يحيى، نديم الرشيد وسبب النكبة.
    • موسى بن يحيى، القائد الحربي، أشجعهم على الإطلاق.
    • محمد بن يحيى، ليس له كبير ذكر، ولكنه من أسباب النكبة.


    فضل البرامكة

    لقد كانت أسرة البرامكة غرة على جبين الدولة العباسية، لما كان لهم من المآثر والفضائل والسخاء الشديد، والأعمال العظيمة في الدولة، وخاصة أيام الرشيد؛ فالأب يحيى بن خالد كان المسئول عن تربية الرشيد، وزوجته أرضعت هارون الرشيد، وهو الذي حافظ لهارون على ولاية العهد عندما هم الخليفة الهادي بخلع أخيه الرشيد، وهو الذي قام على أمر وزارة الرشيد أفضل قيام حتى فوض الخليفة الرشيد له كل الأمور، أما ابنه الفضل ـ وكان أكبر أخوته ـ كان أخو الرشيد في الرضاعة والمسئول عن تربية الأمين ابن الرشيد، واستطاع أن يقضي على فتنة يحيى بن عبد الله في بلاد الديلم، وولي خراسان وغيرها، واتخذ من جندها جيشًا كبيرًا تعداده 50 ألف جندي، جعل ولاءهم له مباشرة، وسماهم العباسية..

    أما جعفر سبب النكبة فهو نديم الرشيد وخليله في المجالس، وله من الأعمال الكبيرة أيضًا؛ فهو الذي قضى على العصبية القبلية في الشام سنة 180 هـ، ثم جعل له ولاية خراسان والشام ومصر، وجعله مسئولاً عن تربية ابنه المأمون. أما موسى الأخ الثالث فكان كل همه القتال والغزو بحكم شجاعته الفائقة، وتولى أمر الشام سنة 186هـ، وكانت هذه الشجاعة أحد أسباب نكبتهم؛ حيث غار منه بعض القواد الآخرين وسعوا فيه عند الرشيد.
    أما محمد الأخ الرابع فليس له ذكر معلوم في التاريخ، إلا أنه كان بعيد الهمة، ودوره في هذه الفترة يحيطه الغموض.

    نكبة البرامكة
    اختلف المؤرخون فيما بينهم في السبب الذي دفع الرشيد بالتخلص من الأسرة البرمكية على الرغم من أعمالهم العظيمة، واختلقت روايات كاذبة عن ذلك، أجمع المحققون على بطلانها، أمثال قصة العباسة أخت الرشيد مع جعفر، ولكن نستطيع أن نلخص من خلال الروايات التاريخية المحققة الأسباب التي أدت بالبرامكة لهذه النهاية الأليمة في الآتي:

    أولًا: حادثة يحيى بن عبد الله الطالبي
    الذي خرج إلى بلاد الديلم ودعا لنفسه هناك، وبايعه كثير من الناس، وقويت شوكته، وذلك سنة 176 هـ، فأرسل إليه الرشيد الفضل بن يحيى، واستطاع الفضل أن يستنزل يحيى بالسلام على أمان له عند الرشيد، وذلك من غير أن تهراق نقطة دم، وعد ذلك من أفضل أعمال الفضل، وبعد فترة ظهر من يحيى ما أوجب عند الرشيد نقض الأمان، فأمر بحبسه عند جعفر بن يحيى، وفي ذات ليلة اجتمع يحيى مع جعفر، وما زال به حتى أطلقه جعفر وزوده بالمال اللازم لخروجه من بغداد، فوصل الخبر للرشيد، وكان ذلك يعد خيانة عظمى عند العباسيين لشدة خوفهم من الطالبيين، فخاف الرشيد من تآمر آل برمك مع الطالبيين من أجل إقصاء العباسيين، فأمر بقتل جعفر وحبس باقي الأسرة.

    ثانيًا: الترف الشديد
    كان البرامكة يعيشون في ترف شديد جدًا، حتى أنهم كانوا يبنون قصورهم ويضعون على الحوائط بلاط الذهب والفضة، وبنى جعفر بيتًا له كلفه عشرين مليون درهم، وكان الرشيد في سفر ذات يوم، فلم يمر على قصر ولا إقليم ولا قرية إلا قيل له: هذا لجعفر، وعندما عاد الفضل من حربه في الديلم أطلق لمادحيه ثلاثة مليون درهم. وهذا السرف جعل الرشيد يتابعهم في الدوواوين والكتابات، فأكتشف وجود خلل كبير في مصاريف الدولة.

    ثالثًا: الفضل بن الربيع
    وكان من موالي العباسيين، وكان شديد العداء للبرامكة، ويقال أنه هو الذي سعى بهم عند الرشيد, وأظهر عيوبهم، وغطى محاسنهم، ووضع عليهم العيون، حتى استطاع أن يرصد حادثة هروب يحيى الطالبي عند جعفر، فأخبر بها الرشيد، وزين له أن البرامكة يريدون الخلافة للطابيين.

    رابعًا: أصل البرامكة
    حاول بعض المؤرخين الربط بين أصل البرامكة وهم مجوس، وبين ما حدث لهم على يد الرشيد، فيما أنهم حاولوا إظهار الزندقة، وإعادة دين المجوس مرة أخرى، وأنهم أدخلوا النار في الكعبة حتى تعبد هناك، والذي ساعد على ترويج هذه الفكرة مصاحبة جعفر بن يحيى لبعض الزنادقة أمثال أنس بن أبي شيخ الذي قتله هارون الرشيد بيده، ولكن هذا السبب بعيد المأخذ، ولا دليل عليه.

    خامسًا: جيش البرامكة
    ولعل هذا السبب هو الأوضح والأقوى مع حادثة يحيى الطالبي، وأصل هذا الجيش كما ذكرنا كونه الفضل بن يحيى من جند خراسان [وتلك البلاد معروفة تاريخيًا بولائها للعباسيين، ولكن ميلهم أكثر للطالبيين وآل البيت]، وتعداده خمسين ألفًا جعل ولاءه له مباشرة دون غيره، ثم استقدم منهم عشرين ألفًا لبغداد وسماهم 'الكرنبية' مما حرك هواجس الرشيد، غير أنه لم يتحرك حتى جاءه خبر من والي خراسان علي بن عيسى بن ماهان أن السبب في اضطراب خراسان هو موسى بن يحيى من بغداد، فتحقق الظن عند الرشيد.

    اجتمعت عند هارون الرشيد كل ما سبق من الأسباب، وعندها قرر الرشيد عند رجوعه من الحج، وفي آخر ليلة من المحرم سنة 187 هـ بالإيقاع بالبرامكة، فأمر بقتل جعفر وصلبه على جسر بغداد، وحبس باقي البرامكة في السجون، والاستيلاء على أموالهم وقصورهم وكل ما لديهم، وساموهم في السجن سوء العذاب، وتبدل نعيمهم بؤسًا، وماتوا واحدًا تلو الآخر في السجون.
    ولقد ظهر من يحيى بن خالد البرمكي صبر عظيم ورضا بقضاء الله وقدره، ومن عجيب ما يذكر في أسباب هذه الحادثة أن يحيى بن خالد كان يحج ذات مرة، فوقف عند باب الكعبة, ودعا قائلاً: "اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ يرضيك عني سلب جميع مالي وولدي وأهلي فافعل ذلك وَأَبْقِ عَلَيَّ مِنْهُمُ الْفَضْلَ"، ثُمَّ خَرَجَ، فلمَّا كَانَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ رَجَعَ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ وَالْفَضْلُ مَعَهُمْ فَإِنِّي رَاضٍ بِرِضَاكَ عَنِّي وَلَا تَسْتَثْنِ مِنْهُمْ أَحَدًا" .
    والله أعلم بالعاقبة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: قصة الخلافة العباسية ابتداء من نشأة الدولة حتى السقوط

    قصة الخلافة العباسية

    شبهة حول الخلفاء العباسيين


    قصة الإسلام


    شبهة والرد عليها

    اتهم خلفاء الدولة العباسية وخاصة الرشيد بشرب النبيذ، وبمجالس الغناء والطرب والجواري...
    والرد على ذلك يكون من جوانب إن المؤرخين ذكروا أن هارون الرشيد كان يشرب نبيذ التمر. بل وذكروا أن أبا حنيفة كذلك كان يفعل.. وفي مذهب الإمام أبي حنيفة المعمول به في العراق أيام الرشيد أنه يحل شرب عصير التمر في حالتين:
    الحالة الأولى: إذا نقع أو طبخ طبخًا وشرب منه قبل أن يغلي ويشتد عصير التمر، فهو في هذه الحالة حلال بإجماع العلماء.
    الحالة الثانية: إذا طبخ طبخًا حتى غلا واشتد وشرب منه مقدار قليل يغلب على ظن الشارب أنه لا يسكره وكان شربه له لغرض التقوِّي لا بقصد اللهو والطرب، وهنا خلاف بين العلماء من مذهب أبي حنيفة. فإذا شرب من هذا العصير المطبوخ مقدارًا كبيرًا يسكر عادة فإنه يكون حرامًا بإجماع فقهاء المذهب وهذا كله في حالة الطبخ. أما إذا نقع وترك حتى غلا واشتد فإنه يكون حرامًا على الإطلاق بإجماعهم.
    والسؤال الآن: ماذا كان يشرب الرشيد؟ الأنواع المسكرة أم الأخرى؟
    يقول ابن خلدون: من ذلك ما يحكى من معاقرة الرشيد الخمر،اقتران سكره بالندمان، فحاشا لله! ما علمنا عليه من سوء، وأن هذا حال الرشيد، وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة، وما كان عليه من صحبة العلماء والأولياء، ومحاورته الفضيل بن عياض وابن السماك ومكاتبته سفيان الثوري، وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكة في طوافه.. وعبادته وتنفله.
    حتى قال: وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، وفتاواهم فيها معروفة أما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها.
    أما ما شاع من انتشار الخمر في عصره فإن واقع هذه الدولة وهذا العصر يكذبه، وخاصة إذا علمنا أن حاشية الرشيد كان على رأسها الأئمة الثقات أمثال: مالك بن أنس، أبو يوسف، الشافعي، الفضيل بن عياض، عبد الله بن المبارك وغيرهم فهل هؤلاء كانوا يسكتون إذا وجدت الخمر بهذه الصورة التي يذكرها المبطلون؟ أضف إلى ذلك أن هناك أنواعًا كثيرة من المشروبات كانت منتشرة في هذا العصر، وكلها يطلق عليها الشراب مثل: الماء، اللبن، الشربات، وهذه كانت تصنع من الماء المحلى بالسكر وتعطر بخلاصة البنفسج أو الموز أو الورد أو التوت ويطلق عليها الشراب.
    أما مجالس الغناء والطرب والجواري

    فالسؤال: كيف كان هذا الغناء في العهد العباسي؟ ثم ما هو حكم الغناء؟
    الأصل في الغناء الإباحة إلا إذا تسبب في فتنة كأن يحوي كلمات كفر أو مجون، يقول صاحب كتاب النجوم الزاهرة عن أشهر المغنين في عهد الرشيد:
    وفي عام 174هـ من الهجرة توفي منصور مولى عيسى بن جعفر بن منصور، وكان منصور هذا يلقب بزلزل، وكان مغنيًا يُضرب بغنائه المثل، وكان الغناء يوم ذلك غير الموسيقى الآن وإنما كانت زخمات عددية وأصوات مركبة في أنغام معروفة، وهو نوع من إنشاد زماننا على الضروب لإنشاد المداح والمواعظ.
    وهذه نماذج من الشعر الغنائي الذي كان موجودًا في ذلك العصر...
    نراع بذكر الموت ساعـة ذكره *** ونفتر بالدنيا فنلهو ونلعـب
    ونحن بنو الدنيـا خلقنـا لغيرها *** وما كنت فيه فهو شيء محبب
    وقولهم:
    المـرء في تأخيـر مدتـه *** كالثوب يبلـى بعد جدته
    عجبًا لمنتبـه يضيـع مـا *** يحتـاج فيه ليوم رقدتـه
    وأما موضوع الجواري وكثرتها لدى الرشيد، فهذا أمر صحيح يقول د. مؤيد فاضل صاحب كتاب شبهات في العصر العباسي الأول: وفي الحديث عن الجواري مثال آخر للاختلاف في التصور بيننا وبينهم[1]، فقد وصم الخلفاء بأنهم كانوا يتخذون العشيقات والخليلات من الجواري، وراحوا يتغزلون بهن شعرًا ونثرًا، فمفهومنا وتصورنا لهذا الغزل ولأولئك الجواري أوقعنا في هذا الوهم، حيث اعتبرنا ذلك نقيصة في الخلفاء، ولو أننا رجعنا إلى الشرع في موضوع الجواري لعلمنا أن الجارية ملك يمين يملك سيدها حق التمتع بها وحق الاستخدام.. وليس على السيد أن يعدل بين إمائه كما يعدل بين نسائه.
    وفي المغني لابن قدامه: يمكن للرجل أن يكون له عدد كبير من الإماء أو الجواري، يدخل عليهن كيف يشاء.
    مواقف

    ولمزيد من معرفة حال هذه النخبة من الخلفاء، فتأمل هذه المواقف:
    - عن مالك بن أنس قال: بعث أبو جعفر المنصور إلى ابن طاووس، فأتيناه فدخلنا عليه، فإذا به جالس على فرش قد نضدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاوزة (جمع جلواز وهو الشرطي) بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا، فجلسنا، فأطرق عنا قليلاً ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاووس فقال له حدثني عن أبيك، قال: نعم، سمعت أبي يقول: قال: رسول الله : "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه، فأدخل عليه الجور في عدله".
    قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه، ثم التفت إليه أبو جعفر فقال عظني. قال: نعم، إن الله I يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد } [الفجر: 6-14]. قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأها من دمه، فأمسك ساعة حتى اسودَّ ما بيننا وبينه.
    ثم قال: يا ابن طاووس، ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه. ثم قال: ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه. فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوما عني. فقال ابن طاووس: ذلك ما كنا نبغي، قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاووس فضله.
    - حج أمير المؤمنين هارون الرشيد إحدى حجاته، فلما قضى اليوم الأول في منى سهر عنده وزيره الفضل بن الربيع، حتى إذا حان وقت النوم انصرف إلى خيمته، وبينما هو نائم بعد أن انقضى شطر من الليل سمع قرع الباب أمام خيمته فقال: من هذا؟ فقيل له: أجب أمير المؤمنين.
    فخرج مسرعًا فوجد هارون الرشيد على الباب فقال له: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت لي أتيتك.
    فقال هارون: ويحك! قد حاك في نفسي شيء لا يخرجه إلا عالم، فانظر لي رجلاً أسأله عنه. فقال الفضل: هاهنا سفيان الهلالي العالم المحدث.
    قال هارون: امض بنا إليه.
    قال الفضل: فأتينا خيمة سفيان، فطرقنا عليه الباب فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين. فخرج مسرعًا، فلما وجد أمير المؤمنين بباب الخيمة قال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت لي أتيتك.
    فقال الرشيد: جد لنا ما جئنا له، وحادثه ساعة ثم سأله: أعليك دين؟
    قال: نعم. فقال الرشيد: يا أبا العباس، اقض دينه. وانصرفنا فقال لي أمير المؤمنين ونحن في الطريق: ما أغنى عني صاحبك، فانظر لي رجلاً أسأله.
    فقلت: هاهنا عبد الرزاق بن همام الحميري الصنعاني.
    قال امض بنا إليه. فأتيناه وقرعت الباب فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعًا فلما وجد نفسه بين يديه قال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلى أتيتك.
    فقال: جد لنا ما جئنا له وحادثه ساعة ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم، فقال لي الرشيد: يا أبا العباس اقض دينه ولما انصرفنا قال أمير المؤمنين ما أغنى عني صاحبك شيئًا، فانظر لي رجلاً أسأله.
    فقلت: هاهنا الفضيل بن عياض التميمي، شيخ الحرم ومن أئمة الهدى فقال: امض بنا إليه. فأتيناه فإذا هو قائم يصلي في خيمته يتلو آية من كتاب الله ويرددها، فقرعت عليه فقال: من هذا، قلت: أجب أمير المؤمنين. قال: مالي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله، أما تجب عليك طاعة؟
    ففتح الباب ثم أطفأ السراج والتجأ إلى زاوية في خيمته، فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف الرشيد كفي إليه فقال الفضيل: أواه من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله. فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي. فقال هارون: جد لنا ما جئنا له رحمك الله.
    فقال الفضيل: وفيم جئت؟ حملت على نفسك وجميع من معك حملوا عليك. حتى لو سألتهم أن يتحملوا عنك شقصا (أي جزءا) من ذنب ما فعلوا ولكان أشدهم حباًّ لك أشدهم هربًا منك. وسكت الفضيل هنيهة ثم استأنف كلامه في سكينة الظلام ورهبته -وكانت ضربات قلب الرشيد تكاد تسمعها أذناه كأنها ضربات الساعة- فقال: إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه -لما ولي الخلافة- دعا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: (إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليَّ). فعَدَّ الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة.
    فقال له سالم: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أبًا، وأوسطهم عندك أخًا، وأصغرهم عندك ولدًا. فبر أباك وارحم أخاك وتحنن على ولدك.
    وقال رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، ثم مت متى شئت وإني أقول هذا، وأخاف عليك أشد الخوف يوم تزل الأقدام، فهل معك -رحمك الله - مثل هؤلاء القوم ومن يأمرك بمثل هذا؟
    فبكى هارون بكاء شديدًا، فقلت للفضيل: ارفق بأمير المؤمنين، فأجابني: يا ابن الربيع قتلته أنت وأصحابك وأرفق أنا به؟!
    ولما أفاق هارون قال للفضيل: زدني.
    فقال الفضيل: يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- شكا إليه سهرًا فكتب إليه عمر يقول: "يا أخي اذكر سهر أهل النار في النار وخلود الأبد، فإن ذلك يطرد بك إلى ربك نائمًا ويقظان، وإياك أن تزل قدمك عن هذا السبيل فيكون آخر العهد بك ومنقطع الرجاء منك" فلما قرأ العامل كتاب عمر بن عبد العزيز طوى البلاد حتى قدم عليه فقال له عمر: "ما أقدمك؟" فأجابه: "لقد خلعت قلبي بكتابك، لا وليت ولاية أبدًا حتى ألقى الله ".
    فبكى هارون بكاءً أشد من الأول، ثم قال للفضيل: زدني.
    فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم النبي r جاء إليه فقال: يا رسول الله، أمرني إمارة. فقال النبي : "يا عباس، نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها، إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت ألا تكون أميرًا فافعل".
    فبكى هارون أيضًا، ثم قال له: زدني يرحمك الله. فقال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل. وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لرعيتك؛ فإن النبي r قال: "من أصبح غاشًّا لرعيته لم يرح رائحة الجنة". فبكى الرشيد بكاء شديدًا، ثم قال للفضيل: عليك دين؟ قال: نعم، دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن ناقشني، والويل لي إن سألني، والويل لي إن لم يلهمني حجتي.
    قال هارون: إنما أعني دين العباد. فقال الفضيل: ربي لم يأمرني بهذا، وإنما أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره. فقال هارون: هذه ألف دينار، فخذها وأنفقها على عيالك، وتقوَّ بها على عبادة ربك.
    قال الفضيل: سبحان الله! أنا أدلك على سبيل الرشاد، وأنت تكافئني بمثل هذا، سلمك الله ووفقك! ورفض أن يأخذها.
    قال الفضيل بن الربيع: ثم سكت ولم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فقال الرشيد: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا.
    - دعا أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين، أبا عمرو الأوزاعي فلبى دعوته، ولما سلم عليه، سأله أبو جعفر: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟
    - وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟
    - أريد الأخذ منكم والاقتباس عنكم.
    - فانظر يا أمير المؤمنين ولا تجهل شيئًا مما أقول.
    - وكيف أجهله وأنا أسألك عنه، وقد وجهت فيه إليك؟
    - أن تسمعه ولا تعمل به.
    - فصاح الربيع بالأوزاعي، وأهوى بيده إلى السيف، فانتهره المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة.. فطابت نفس الأوزاعي وانبسط في الحديث فقال: يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن ابن بسر، أن رسول الله r قال: "أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه، فهي نعمة من الله سيقت إليه إن قبلها بشكر، وإلا كانت حجة عليه من الله ليزداد بها آثمًا ويزداد الله بها عليه سخطًا". يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن ابن بسر أن رسول الله r قال: "أيما والٍ بات غاشًّا لرعيته حرم الله عليه الجنة". يا أمير المؤمنين، من كره الحق فقد كره الله؛ لأن الله هو الحق المبين. يا أمير المؤمنين، قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم، أحمرهم وأسودهم، ومسلمهم وكافرهم، وكل له عليك نصيبه من العدل، فكيف إذا تبعك منهم وفد وراء وفد، ليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه؟
    يا أمير المؤمنين، لقد كان النبي بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، مواسيًا بنفسه لهم في ذات يده، وكان فيهم بالقسط قائمًا، ولعوراتهم ساترًا، لم تغلق عليه دونهم أبواب، ولم يقم عليه دونهم الحجاب، يبتهج بالنعمة عندهم ويبتئس بما أصابهم.
    يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن زياد بن جارية عن حبيب ابن مسلمة أن رسول الله دعا إلى القصاص من نفسه في خدشة خدشها أعرابيًّا لم يتعمدها، فأتاه جبريل فقال: يا محمد! إن الله لم يبعثك جبارًا ولا متكبرًا، فدعا النبي الأعرابي فقال: "اقتص مني". فقال الأعرابي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما كنت لأفعل ذلك أبدًا، ولو أتيت على نفسي. فدعا له الرسول بخير.
    فكيف بمن شقَّق أبشار الناس، وسفك دماءهم، وخرب ديارهم وأجلاهم عن بلادهم، وغيبهم الخوف منه؟!
    يا أمير المؤمنين، رُض نفسك لنفسك، وخذ لها الأمان من ربك، وارغب في جنة عرضها السموات والأرض، قال فيها رسول الله : "لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها". يا أمير المؤمنين، الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذلك لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك.
    يا أمير المؤمنين، أتدري ما جاء عن جدك في تأويل هذه الآية: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]؟ قال: الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك.. فكيف بما حدثته الألسن وعملته الأيدي؟!
    يا أمير المؤمنين، بلغني عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة، لخفت أن يسألني الله عنها.. فكيف بمن حُرِم عدلك وهو على بساطك؟!
    يا أمير المؤمنين، إنك قد بليت بأمر عظيم، لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه. حدثني يزيد عن جابر عن عبد الرحمن عن أبي عمرة الأنصاري أن عمر بن الخطاب استعمل رجلاً من الأنصار على الصدقة، فرآه بعد أيام مقيمًا، فقال له، ما منعك من الخروج إلى عملك؟ أما علمت أن لك مثل أجر المجاهدين في سبيل الله؟
    قال: لا. قال عمر: وكيف ذاك؟
    قال: لأنه بلغني أن رسول الله r قال: "ما من والٍ يلي من أمور الناس شيئًا، إلا أتي به يوم القيامة فيوقف على جسر من نار فينتفض به الجسر انتفاضًا يزيل كل عضو من موضعه، ثم يعاد فيحاسب، فإن كان محسنًا نجا بإحسانه، وإن كان مسيئًا انخرق به ذلك الجسر فهوي به في النار سبعين خريفًا" فقال له عمر: ممن سمعت هذا قال من أبي ذر وسلمان، فأرسل إليهما عمر، فسألهما فقالا: نعم، سمعناه من رسول الله r فقال عمر: واعمراه، من يتولاها بما فيها؟ فقال أبو ذر: من أسلت الله أنفه، وألصق خده بالأرض.
    فأخذ أبو جعفر المنديل، ووضعه على وجهه فبكى وانتحب حتى أبكى الأوزاعي... ثم مضى الأوزاعي ودمعه ينهمر:
    يا أمير المؤمنين، قد سأل جدك العباس النبي إمارة على مكة والطائف فقال له: "يا عباس، يا عم النبي، نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها". وهي نصيحة منه لعمه، وشفقة منه عليه؛ لأنه لا يغني عنه من الله شيئًا، ولما أوحى الله I إليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] فقال: "يا عباس، يا صفية عمة النبي، إني لست أغني عنكم من الله شيئًا، ألا لي عملي ولكم عملكم".
    وقد قال عمر : لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل، أريب العقدة، لا يطلع منه على عورة، ولا يحنو على حوَّية، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
    وقال: السلطان أربعة أمراء: فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذاك المجاهد في سبيل الله، يد الله باسطة عليه الرحمة. وأمير ضعيف ظلف نفسه وأرتع عماله فضعف، فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله، وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال رسول الله فيه: "شر الرعاء الحطمة" فهو الهالك وحده، وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعًا.
    وقد بلغني -يا أمير المؤمنين- أن عمر بن الخطاب قال: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من كان الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين. يا أمير المؤمنين، إن أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند الله التقوى.. إنه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله، ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه.
    هذه نصيحتي والسلام عليك.. ثم نهض فقال أبو جعفر: إلى أين؟ قال: إلى البلد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله.
    قال أبو جعفر: قد أذنت وشكرت لله نصيحتك، والله الموفق للخير والمعين عليه، فلا تحرمني من مطالعتك إياي بمثلها فإنك المقبول غير المتهم في النصيحة.
    - أفعل إن شاء الله. قال محمد بن مصعب: وأمر أمير المؤمنين للأوزاعي بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله الأوزاعي، وقال: أنا في غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض الدنيا كلها.. وعرف المنصور مذهب الأوزاعي فلم يؤلمه أنه رد عطاءه.
    وبعد -أيها الأخ القارئ- فلا شك أنه قد وقعت بعض أخطاء من جانب هؤلاء الخلفاء، ولكن يجب عليك أن تقيِّم الأشخاص تقييمًا موضوعيًّا، وقد عرَّف علماء الإسلام المسلم العدل الثقة: أنه من غلبت حسناته سيئاته، فانتبه إلى ذلك، ولا تنساق خلف من يسلطون الأضواء على السيئات ويخفون المحاسن؛ ليهزوا ثقتنا في تاريخنا.
    [1] أي بيننا نحن المسلمين وبين المؤرخين الماديين البعيدين عن الفقه الإسلامي.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: قصة الخلافة العباسية ابتداء من نشأة الدولة حتى السقوط

    قصة الخلافة العباسية
    خلافة الأمين والمأمون



    قصة الإسلام
    خلافة محمد الأمين بن هارون الرشيد

    تولى محمد الأمين الحكم من جمادى الآخرة 194هـ حتى من محرم 198هـ، وعمره 23 عامًا، وعهده كان قاصرًا على حادثة شنيعة فرقت الأمة، وذلك ما كان بينه وبين أخيه المأمون.


    أسباب الفتنة

    وسبب هذه الأحداث أن هارون الرشيد ولّى عهده أولاً محمد الأمين، والمأمون أسن منه، ولم يكن ما يزيد الأمين إلا أنه ابن زبيدة (زوجة الرشيد عالية النسب والحبيبة إلى قلبه).
    أراد الرشيد بعد ذلك معالجة هذه الغلطة ففعل ما يزيدها شرًا بتولية المأمون العهد بعد الأمين، ولم يقتصر على مجرد تولية العهد بل أعطاه من الامتيازات ما يجعله مستقلاًّ تمام الاستقلال بمنطقة خراسان والري عن أخيه الأمين.. فأصبح لكل من الأمين والمأمون جيشًا يتصرف فيه، ولم يقتصر الرشيد على ذلك بل أعطى أخًا لهم ثالثًا امتيازات أخرى وهي الجزيرة وأرمينية فأحس الأمين كأنه مقصوص الجناحين منزوعًا من سلطان أعظم بقاع الإسلام وأكثرها أعوانًا وجندًا.
    وزاد الأمر اشتعالاً وجود الفضل بن الربيع الذي جرّأ الرشيد على إفساد ملكه وقتل البرامكة... فكان في فئة الأمين وهو الذي أغراه بأخيه المأمون ولم يكن الأمين ينوي قتاله إنما فعل الفضل ذلك خوفًا على مصالحه.
    لقد وصل الخلاف بين الأخوين إلى الاقتتال، والحقيقة لم يكن للأمين حسن تدبير بل كان مشغولاً باللهو والعبث، وكان عنده ثقة أنه سيقهر أخاه، بينما كان المأمون مشغولاً بتدبير أمره يجمع إلى مجلسه العلماء والفقهاء ويجلس معهم، حتى أُشرِبت قلوبُهم محبته، وباختصار فقد انتهى الأمر بمقتل الأمين على يد أحد قواد المأمون وبايع الناس المأمون.
    خلافة المأمون بن هارون الرشيد
    لقد تم الأمر للمأمون من محرم 198هـ حتى رجب 218هـ بالعراق على يد قائدين مخلصين عظيمين هما: طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين.
    من فتنة واحدة إلى فتن أخرى
    وكان الذي يدبر الأمر مع المأمون بمرو الفضل بن سهل والذي يرى لنفسه الفضل الأكبر في تأسيس دولة المأمون، فأراد أن يستفيد من هذه الدولة فيستأثر بنفوذ الكلمة فيها، وليس يتم له ذلك والعراق بين يدي طاهر وهرثمة، فاحتال حتى عزل طاهر على لسان المأمون عن العراق وما حولها، وتعيين الحسن بن سهل فاستجاب طاهر، واستصدر أمرًا إلى هرثمة بالحضور إلى خراسان فاستجاب.
    استمر المأمون في خراسان إلى منتصف ولايته كما سنرى حتى سنة 204هـ، ثم قدم بغداد بعد ذلك.
    شاع بالعراق بعد خروج طاهر أن الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنزله قصرًا حجبه فيه، وأنه يبرم الأمور على هواه، فغضب لذلك أهل العراق واستخفوا بالحسن بن سهل، وهاجت الفتنة في الأمصار، ولم يجد الحسن بن سهل حوله أحدًا ينصره فأرسل إلى هرثمة بن أعين -الذي كان قد توجه إلى خراسان- يستنجد به فاستجاب هرثمة فقدم بغداد سنة 199هـ في شعبان واستطاع بعد عدة معارك أن يعيد الأمر إلى ما كان عليه في محرم سنة 200هـ.
    كانت أغلب الفتن التي حدثت بسبب العلويين؛ فخرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن على، وفي مكة كان حسين بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي يشيع العذاب في كل من له علاقة ببني العباس، حتى اتخذ دارًا سماها دار العذاب يعذب فيها الناس، فلما علم أن هرثمة قضى على العلويين بالعراق والكوفة اجتمع حسين وصحبه إلى محمد بن جعفر الصادق وكان شيخًا ورعًا محببًا في الناس مفارقًا لما عليه أكثر أهل بيته من قبح السيرة فأرادوا أن يبايعوه بالخلافة فأجاب بعد تردد وحشر إليه الناس فبايعوه طوعًا وكرهًا وسموه أمير المؤمنين... فأقام على ذلك أشهرًا وليس له من الأمر إلا اسمه، وابنه علىّ وحسين بن حسن أسوأ ما كانوا سيرة وأقبح ما كانوا فعلاً في الناس حتى تعدوا الأموال إلى الأعراض.
    فلما جاء بعث هرثمة استطاع أن يهزمهم، وطلب محمد بن جعفر الأمان له ولمن معه حتى يخرجوا من مكة ويذهبوا حيث شاءوا، فأجيبوا وأمهلوا ثلاثة أيام فلما انتهت دخلت جنود هرثمة مكة، وذهب كل فريق من العلويين في ناحية.
    لما فرغ هرثمة من تلك المهمة أراد أن يتوجه إلى المأمون بمرو ليطلعه على حقيقة الحال، وما ينكره الناس عليه، واستبداد الفضل بن سهل على أمره... ولكن الفضل كاد لهرثمة القائد المخلص، فأفهم المأمون أن هرثمة قد أفسد البلاد، وكان المأمون قد كتب إلى هرثمة وهو في الطريق إليه أن يرجع ويلي الشام والحجاز فأبى هرثمة أن يرجع حتى يرى أمير المؤمنين... فلما اقترب من مرو خشي هرثمة أن يكتم عن المأمون خبر قدومه فضرب الطبول كي يسمعها المأمون فلما سمعها سأل فقالوا: هرثمة جاء يرعد ويبرق. ولم يكن هرثمة يعلم أن المأمون قد تغير من ناحيته، فلما دخل على المأمون لم يسمع منه كلمة وأمر به فوجئ عنقه وديس بطنه وأخذوه إلى الحبس، ثم دسوا إليه فقتلوه، وقالوا إنه مات.
    لما بلغ أهل بغداد ما صنع بهرثمة، هاج الجند بها وثاروا على الحسن بن سهل واستخفوا بأمر المأمون واختاروا منصور بن المهدي أميرًا عليهم، ولأن بغداد كانت خالية من جيش قوي يأخذ على أيدي المفسدين، فانتشر الفساد الشديد على يد فساق الجند والشطَّار، وأظهروا الفسق وقطعوا الطريق وأخذوا النساء والغلمان علانية وأخذوا يفرضون الإتاوات قهرًا.. ولا أحد يمنعهم!
    رأى الناس شدة هذا البلاء وضعف السلطان عن حمايتهم فقام صُلَحاء كل منطقة فمشى بعضهم إلى بعض، واتفقوا على قمع هؤلاء الفساق، فقام رجل اسمه خالد الدريوش فدعا جيرانه وأهل محلته إلى أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك، وشد على من يليه من الفساق والشطار فمنعهم مما كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه فقاتلهم وهزمهم، وأخذ بعضهم فضربهم وحبسهم ورفعهم إلى السلطان، وكان لا يرى من حقه الاعتداء على السلطان، وقام آخر اسمه سلامة بن سلامة الأنصاري ففعل مثله..
    كل ذلك والمأمون في مرو لا يصل إليه شيء من أخبار بغداد بفعل الفضل بن سهل، ومن عجيب ما فعله المأمون في تلك الآونة أنه اختار لولاية عهده واحدًا من آل بيت على، هو على بن موسى بن جعفر الصادق وسماه الرضا من آل محمد، وأمر الجند بطرح السواد شعار العباسيين، ولبس ثياب الخضرة كشعار جديد للدولة، ويبدو أن ذلك من تدبير الفضل بن سهل (فارسي الأصل) لأن الفرس يعجبهم أن يكون إمام المسلمين علويًا.. وساعد على ذلك ما كان يراه المأمون نفسه من تفضيل على على غيره من الخلفاء الراشدين، وأنه كان أحق بالخلافة منهم.... وهي فكرة اختمرت في رأسه نتيجة نشأته فقد كان في أول أمره في حجر جعفر البرمكي[1] ثم انتقل إلى الفضل بن سهل، وكلهم ممن تشيع.
    لم يرض ذلك آل العباس ببغداد فاتفقوا على مبايعة إبراهيم المهدي عم المأمون بالخلافة، وذلك سنة 202هـ.
    وأخيرًا وصلت الأخبار على حقيقتها إلى المأمون، ويقال إن الذي أبلغه بها ولي عهده على الرضا، فإنه أخبره بما فيه الناس من الفتنة منذ قتل أخوه، وأن الفضل بن سهل يستر عنه الأخبار وما كادوه من قتل هرثمة وغيره.
    لما تحقق المأمون أن الفضل قد كذَبه وغشَّه أمر بالرحيل إلى بغداد وقُتِل الفضل بن سهل في الطريق..ثم قُتِل على الرضا!!ولما وصل المأمون إلى النهروان، خرج إليه أهل بيته والقواد فسلموا عليه ووافاه طاهر بن الحسين القائد المعزول.
    استقرار الأمور
    وفي صفر سنة 204هـ دخل المأمون مدينة بغداد وقد فرَّ عمه واختبأ؛ خوفًا منه ولكنه عفا عنه، ونستطيع القول إن الملك الحقيقي للمأمون بدأ منذ عودته إلى بغداد... فقد تجلت مزاياه العالية وأخلاقه، وساس الناس سياسة لين لا يشوبه ضعف، وقوة لا يشوبها عنف، وأخذت بغداد تستعيد نضرتها التي كانت لها في عهد أبيه وعظمت بها الحركة العلمية كما سنرى إن شاء الله.
    وزراء المأمون في بغداد
    عيّن المأمون وزيرًا جديدًا له هو: أحمد بن أبي خالد، وأصله شامي فكان من خيار الوزراء وأخلصهم للمأمون.
    ذكر المأمون يومًا عمرو بن مَسْعَدة فاستبطأه وقال: يظن أني لا أعرف أخباره وما يحبب إليه وما يعامل به الناس.
    وكان أحمد حاضرًا هذا المجلس فذهب إلى عمرو وأخبره بما قاله عنه الخليفة.
    فأسرع عمرو إلى المأمون، فلما دخل عليه وضع سيفه بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين، أنا أقلّ من أن يشكوني أمير المؤمنين إلى أحد، أو يُسِرَّ لي ضغنًا، يبعثه بعض الكلام على ظهاره ما يظهر منه، فقال المأمون: وما ذاك؟ فأخبره عمرو بما بلغه ولم يُسَمِّ له المخبر، فقال له المأمون: ليس لك عندي إلا ما تحب، فليفرج روعك، وليحسن ظنك.. وظهر في وجه المأمون الحياء والخجل، فلما غدا أحمد (الوزير) على المأمون قال له: أما لمجلسي حرمة؟! (ولم يكن المأمون يظن أن وزيره أحمد هو الذي بلَّغ عمرًا)، فقال أحمد: نعم، فأخبره المأمون أن بعض من حضر من بني هاشم هو الذي أفشى ما قاله، فقال أحمد: أنا يا أمير المؤمنين الذي أخبرت عَمْرًا، وليس أحد من بني هاشم، والذي حملني على ذلك الشكر لك والنصح والمحبة، وأن تتم نعمتك على أوليائك وخدمك، أعلم أن أمير المؤمنين يحب أن يصلح له الأعداء والبُعَداء، فكيف الأولياء والأقرباء، لا سيما مثل عمرو، في دنوه من الخدمة وموقعه من العمل، فلما سمعت أمير المؤمنين أنكر منه شيئًا، أخبرته به ليصلحه ويقوِّم من نفسه.. وإنما يكون ما فعلت مذمومًا لو أشعت سرًّا فيه قدح في السلطان أو نقص تدبير قد استتب..
    فنظر إليه المأمون مليًّا وقال: كيف قلت، فأعاد عليه ما قال، ثم قال أعد فأعاد فقال المأمون: أحسنت، لما أخبرتني به أحب إلى من ألف ألف وألف ألف وألف ألف وعقده خنصره وبنصره والوسطى وقال: أما ألف ألف فلنفيك عني سوء الظن، وأطلق وسطاه، وأما ألف ألف فلصدقك إياي من نفسك، وأطلق البنصر، وأما ألف ألف فلحسن جوابك وأطلق الخنصر.ومات أحمد بن أبي خالد سنة 211هـ.
    وكان من بعده أحمد بن يوسف وكان مخلصًا ولكن كان هناك من يحسده فلم يزل يكيد له حتى أقصاه المأمون.. ثم استوزر المأمون بعده القاضي يحيى بن أكثم وكان من جُلَّة العلماء الفقهاء، وكان قد تولى قضاء البصرة وسنه عشرون سنة، ثم عزله المأمون سنة 215هـ.
    فائدة
    أراد المأمون أن يعلن يومًا حل زواج المتعة وهو شيء نهى عنه عمر بن الخطاب، فدخل عليه يحيى وهو متغير، فسأله المأمون عن سبب تغيره، فقال: غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام من نداء بتحليل الزنا. قال: الزنا.
    قال: نعم، المتعة زنا، قال: من أين؟ قال: من كتاب الله وحديث رسول الله ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5-7]. يا أمير المؤمنين، زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد لها شرائطها؟ قال: لا.
    قال: فقد صار من يتجاوز هذين من العادين، وهذا الزهري، يا أمير المؤمنين، روى عن عبد الله والحسن بن محمد بن الحنفية عن أبيهما على بن أبي طالب قال: "أمرني رسول الله أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان قد أمر بها". فسأل المأمون عن حديث الزهري أهو محفوظ، فعلم أنه رواه مالك، فقال المأمون: أستغفر الله. وأمر فنودي بتحريم المتعة[2].
    ثم كان من بعد يحيى بن أكثم وزراء، ولكن في الحقيقة أنه بعد تجربة الرشيد مع البرامكة وتجربة المأمون الأولى من الاعتماد على الوزراء، لم يعط المأمون لوزرائه صلاحيات كبيرة، بل كان يتابع الأمور بنفسه كما كان يدقق في اختيار وزرائه.
    الخرميّة
    وفي سنة 201هـ ظهرت فرقة باطنية اسمها الخرَّمية[3] يدينون بما يريدون ويشتهون، وإنما لقبوا بذلك لإباحتهم المحرمات من الخمر وسائر الملذات ونكاح ذوات المحارم، وداعيها بابك الخرمي كان يخيف السبل ويعيث في الأرض فسادًا وقد انتصر بابك على جيوش المأمون في بعض المواقع، حتى أرسل إليه المأمون عام 218هـ إسحاق بن إبراهيم، غير أن المأمون قد توفي، ولم يعلم بالنصر الذي أحرزه على الخرمية، إلا أن أمرهم بقي قويًا حتى قُضى على فرقته سنة 223هـ في عهد المعتصم.
    الاهتمام بالعلم في زمن المأمون
    نشأ علم الكلام في زمنه وترعرع، وعلم الكلام علم يبحث في أصول الدين والعقائد ويعتمد على العقل، وظهرت المعتزلة وشيخهم إبراهيم بن سيار (النظام)[4].
    ونتيجة لذلك ظهر خلاف بين أهل السنة والجماعة الذين يعتمدون في علوم العقائد على النقل، وبين المعتزلة الذين يقدمون العقل على النقل ومنها المسألة المشهورة: هل القرآن كلام الله القديم أم هو مخلوق؟
    وهي مسألة على بساطتها لكنها سبب في ابتلاء كثير من العلماء على يد المأمون، ومن بعده على يد المعتصم، لاعتناقهما المذهب الذي يقول: إن القرآن مخلوق خلافًا لأهل السنة والجماعة..
    كان أصحاب المذاهب المخالفة لما عليه عامة الناس لا يستطيعون أن يظهروا آراءهم خوفًا من العامة، فلما جاء المأمون أفسح المجال للمتخالفين أن يتناظروا، فكان يجمع إليه العلماء من المتكلمين والفقهاء وأهل الحديث، ويجعل لهم مجالس مناظرة، وكان يهدف إلى أن يتفق هؤلاء العلماء على رأي فيما يعرض لهم من المسائل ليحمل الجمهور على ذلك الرأي، وتتفق كلمة الأمة خاصة فيما يتعلق بمباحث أصول الدين ومباحث الإمامة.
    ويُروى أنه تناظر في حضرته اثنان من أهل التشيع، أحدهما من الإمامية والآخر من الزيدية، وجرى الكلام بينهما إلى أن قال أحدهما للأخر: يا نبطي ما أنت والكلام، فقال المأمون: الشتم عمى والبذاءة لؤم، إنا قد أبحنا الكلام وأظهرنا المقالات، فمن قال بالحق حمدناه، ومن جهل ذلك وقفناه، فاجعلا بينكما أصلاً، فان الكلام فروع فإذا افترعتم شيئًا رجعتم إلى الأصول..
    وهذه القصة توضح لنا أن المأمون أباح المناظرات بحرية مطلقة فهذان الرجلان من أهل التشيع، كلاهما على مذهب إن صح أحدهما فهو كفيل أن يذهب بملك آل العباس، ومع ذلك ترك حرية القول.
    إيجابيات وسلبيات هذه الحرية في الحوار والتناظر بين العلماء بشتى مذاهبهم:
    1- كان من إيجابيتها ثراء العلوم الدينية من خلال الحوار والمناظرة خاصة في الجانب الفقهي الذي يتعلق بالأحكام العملية، فكانت ثروة للأمة.
    2- نشوء علم الكلام في حد ذاته لإثبات العقائد بالعقل والمنطق كان مناسبًا لمخاطبة الداخلين في الإسلام من الفرس، الذين يتحاجون بهذه الطرق، فمخاطبتهم بطريقتهم شيء مؤثر لاشك في ذلك.
    3- ولكن اعتماد العقل وحده في إثبات العقائد يؤدي إلى انحراف، لأن العقل محدود والعقائد تتعرض للغيبيات، والحجة فيها للنص الصحيح من القرآن أو السنة.. فحدث انحراف في مسائل كثيرة تمذهب بها فرق وأدت إلى تفرق بعض أجزاء الأمة.
    4- من هذه المسائل القول بخلق القرآن، ومن طول المناظرات اقتنع المأمون تمامًا بالقول بخلق القرآن مخالفًا بذلك جمهور علماء أهل السنة والجماعة، وكان يظن أنه حين يظهر رأيه للعلماء أنهم سيجيبونه إلى رضاهم بمذهبه، ولكن النتيجة كانت عكس ذلك، فتكلموا فيه واتهموه بالابتداع وغلا بعضهم في ذلك فقال بكفر من رأى خلق القرآن، وكان ذلك سنة 212هـ.
    وما زال الخلاف يتسع حتى كانت سنة 218هـ فرأى المأمون أن يستعين بسلطانه في إلزام الفقهاء برأيه، وهو غير محق في ذلك، وكان في هذه السنة غازيًا في بلاد الروم، فبعث إلى عامله في بغداد إسحاق بن إبراهيم أن يجمع الفقهاء، ويمتحنهم في آرائهم في هذه المسألة، فجمع إسحاق نحو ثلاثين رجلاً من العلماء فكان مما دار بينه وبينهم: قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟ قال: أقول القرآن كلام الله.
    قال: أسألك عن هذا أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء. قال: أما القرآن شيء؟ قال: هو شيء، قال: فمخلوق هو؟ قال: ليس بخالق، قال: ليس أسألك عن هذا أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه وليس عندي غير ما قلت، فبعث إسحاق بإجابات العلماء عالمًا عالمًا فاغتاظ المأمون منها، فأمره أن يأخذهم بالتهديد ففعل إسحاق فأجابوه جميعًا أن القرآن مخلوق، إلا أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح.
    يروي ابن كثير: "لما انتهت النوبة إلى امتحان أحمد بن حنبل قال له إسحاق: أتقول إن القرآن مخلوق؟ فقال: القرآن كلام الله لا أزيد على هذا" إلى أن قال: "وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعة مكرهًا لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه، وإن كان له رزق من بيت المال قُطع، وإن كان شيخ حديث روع عن الإسماع والأداء، ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء وداهية دهياء فلا حول ولا قوة إلا بالله". فوجه بهما إسحاق إلى طرسوس حيث يغزو المأمون الروم.
    وإن من مفاخر التاريخ أن جميع الذين تهاونوا مع المأمون في مسألة خلق القرآن، أهمل المحدثون أمرهم وأنزلوا رتبهم وعدُّوا ذلك عيبًا من عيوبهم، لأن العالم الذي لا يتحمل الأذى أو الجود بالنفس في سبيل اعتقاده لا يُعَدُ عالمًا.. ومن ثم رأينا الذين ثبتوا في المحنة مثل الإمام أحمد بن حنبل نالوا من التكريم والعناية والفضل ما لا مزيد عليه وزادته المحنة تشريفًا وذكرًا في التاريخ.
    5- كان للمأمون وجهة نظر تبدو صائبة[5] في تعليله محاولة توحيد القوم على رأي واحد فيما اختلف فيه من المسائل، وقد كبر الخلاف في مسألة من أهون المسائل وأيسرها حلاًّ، ولكنه كان يقول: "إن أصغر المسائل متى كان أساسًا لنحلة أو سببًا لرياسة، فإن الخلاف يعظم بسببه، أما أعضل الأمور فإن الخلاف الشديد لا يجد إليه سبيلاً إذا لم يكن أساسًا لنحلة، أو سببًا لرياسة".
    كان يمكن للمأمون أن يكون من خيار الخلفاء، لولا هذه السقطة، وقوله بأفضلية على بن أبي طالب على سائر الخلفاء الراشدين ، قال عنه ابن كثير بعد ذكر فضله وحسن سيرته: وقد كان فيه تشيع واعتزال وجهل بالسُّنَّة الصحيحة.
    --------------------------------------

    [1] الذي قُتِل في عهد الرشيد، وهي قرينة أحرى تدل على تشيعه فهو الذي ربى المأمون.
    [2] انظر رحمك الله إلى خلفاء المسلمين وما كانوا عليه من العلم والعودة إلى الحق حينما يتبين لهم بالدليل الناصع، وحرصهم على أمور الدين. وانظر أيضًا إلى ذكاء هذا الوزير العالم كيف سلك مسلكًا لطيفًا في النصح والإرشاد.
    [3] نسبة إلى قرية بفارس اسمها خرمة، منها زعيمهم بابك الخرمي.
    [4] انظر فصل الفرق والجماعات.
    [5] والحقيقة أنها ليست صائبة لأن توحيد الآراء في الأمور الفرعية، وفيما يحتمل وجوهًا عدة هو ضرب من المستحيل، وهو مخالف لسنن الله، وقد كان أكابر العلماء لا يمتعضون من الخلاف في الفروع، ولا يرون حمل الأمة على رأي واحد، بل كانوا يقولون: من لم يعرف الخلاف لم يشم رائحة الفقه. أي من لم يعرف الآراء المتعددة في المسألة ووجهة نظر أصحابها لم يكن واسع الأفق أو الفقه.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: قصة الخلافة العباسية ابتداء من نشأة الدولة حتى السقوط

    قصة الخلافة العباسية

    خلافة المعتصم بالله

    قصة الاسلام


    تولى المعتصم بالله الخلافة من رجب 218 هـ حتى ربيع الأول 227هـ، وعمره تسعة وثلاثون عامًا، وتمت البيعة للمعتصم ببلاد الروم فعاد بالجند إلى بغداد.
    صفات المعتصم بالله

    كان المعتصم ذا شجاعة وقوة وهمة يحب الشجعان، قوته خارقة هائلة يحمل أرطالاً تعجز عنها الرجال ويمشي خطوات، ويثني الحديد مرات بعد عجز الأبطال عنه، يقول وزيره أحمد بن أبي دؤاد: كان المعتصم يخرج ساعده إلى ويقول: يا أبا عبد الله عض ساعدي بأكثر قوتك، فأقول: والله يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك.
    فيقول: إنه لا يضرني، فأروم ذلك، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلاً عن الأسنان. وكان مع ذلك شفوقًا غير أنه إذا غضب لا يبالي من قتل.
    وكان يقول عن نفسه: قد علمت أني دون إخوتي في الأدب، لحب أمير المؤمنين لي، وميلي إلى اللعب وأنا حدث، فلم أنل ما نالوا. وسبب ذلك أنه كان مع المعتصم غلام في الكُتاَّب يتعلم معه، فمات الغلام، فقال له الرشيد: يا محمد مات غلامك. فقال: نعم يا سيدي واستراح من الكُتاَّب.
    قال الرشيد: وإن الكُتَّاب ليبلغ منك هذا المبلغ؟! دعوه حيث انتهى لا تعلموه شيئًا ولذلك ورد أنه (كان يكتب كتابة ضعيفة ويقرأ قراءة ضعيفة).
    وصية المأمون للمعتصم

    وكانت وصية المأمون للمعتصم: (احمل الناس على القول بخلق القرآن، والخرمية فاغزهم بقوة وحزم وجلد، واحشد لهم الأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجيًا ثواب الله عليه)؛ لذلك انصبت جهود المعتصم، وأموال الخلافة على القضاء على حركة بابك.
    جهاده ضد الخرمية

    كان بابك من أبطال زمانه وشجعانهم، عاث في البلاد وأفسد وأخاف الإسلام وأهله وغلب على أذربيجان وغيرها وأراد أن يقيم ملة المجوس، وادعى الألوهية وأراد تحويل المُلك من العرب المسلمين إلى الفرس، فأثار ومن تبعه حربًا شعواء على الإسلام والعرب.
    فأرسل المعتصم الأفشين أعظم قواده حينئذ لمقاتلة بابك والقضاء عليه.. بيد أن الأمر قد طال رغم أن المعتصم أنفق على هذه الحرب الكثير، وأقام المعتصم البريد على مسافات قريبة ليأتيه خبر المعركة كل يوم وكان جميع من قَتَل بابك في عشرين سنة 250000 إنسان. وكانت نهايته في هذه المعركة.
    فتح عمورية

    كان بابك قد كتب إلى حليفه تيوفيل ملك الروم، عندما ضيق عليه الأفشين، يستنصره ويقول له إن الفرصة مهيأة للانتصار على المسلمين.. تأخر ملك الروم في التحرك فلم يتحرك إلا بعد ما قتل بابك.. فتحرك ملك الروم سنة 223 هـ وانقض على مدينة زِبَطرة وأعمل فيها السيف، وقتل الصغير والكبير وسبى النساء بعد ذبح أطفالهن.
    وفي ابن خلدون: وبلغ الخبر إلى المعتصم فاستعظمه، وبلغه أن هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم: وامعتصماه، فأجاب وهو على سريره: لبيك لبيك، ونادى بالنفير العام ونهض من ساعته.
    وعندما سار المعتصم باتجاه الثغور لتأديب تيوفيل تساءل قائلاً: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي أصل النصرانية وهي أشرف من القسطنطينية فسار باتجاهها بجهاز عظيم من السلاح والعدد وآلات الحصار والنفط ودارت المعركة بقيادة المعتصم وبعد حصار دام 55 يومًا، من سادس رمضان إلى أواخر شوال سنة 223 هـ. ودك عمورية واستنقذ المرأة الهاشمية.
    وأنشد بعدها أبو تمام قصيدته المشهورة في وصف المعركة وملابساتها:
    السيفُ أصدق أنباءً من الكتب *** في حدِّه الحد بين الجد واللعب
    وكان عدد جيش المسلمين 15 ألف فارس، وجيش الروم 200 ألف.
    المعتصم واعتماده على العنصر التركي

    لما جاء المعتصم ورأى أن من ببغداد من جنود لا يوثق بهم، لكثرة اضطرابهم وقيامهم على الخلفاء ورأى للأتراك من شدة البأس والنجدة فأراد أن يكون منهم جيشًا. فاستكثر من غلمان الأتراك وأحضر منهم عددًا عظيمًا فوق ما كان منهم في عهد المأمون وأسكنهم بغداد وكان هؤلاء القوم عُجمًا جفاة يركبون الدواب فيركضون في طرقات بغداد وشوارعها فيصدمون الرجل والمرأة والصبي فيقف لهم الجند من العرب ويجرحونهم.. حتى اشتكى الأتراك إلى المعتصم وتأذت العامة.. فاختط لهم مدينة تكون لهم معسكرًا سماها (سر من رأى) سامراء حاليًا، سكنها المعتصم مع العسكر.. وهي منطقة متميزة من بغداد..
    وكان من قواده الذين يعتمد عليهم: الأفشين حيدر بن كاوس، وهو تركي من أشروسنة، ومنهم إيتاخ وأشناس وعجيف بن عنبسة ووصيف وبغا الكبير أبو موسى، وغيرهم. كل هؤلاء القواد من الأتراك اختارهم المعتصم لشجاعتهم وسلَّمهم زمام ملك آبائه العرب، وأزال العرب عن قيادة الجيوش، وأسقط أسماءهم من الدواوين واعتز بهؤلاء المجلوبين، فجعل بذلك بنيه تحت سلطان هؤلاء الغلف قلوبهم، يتصرفون فيهم كما يشاءون ولم يكن لهم أنساب معروفة. حتى قال المؤرخون: "إن المعتصم وحده يتحمل تبعة أكثر ما حل بالعباسيين من بعده من اضطراب أمرهم وضعف سلطانهم وما حل بالأمة العربية من غلبة هؤلاء على الأمر. لم يكن الرجل بعيد النظر في العواقب، وإنما كان شجاعًا جسورًا يحب الشجعان ويعتز بهم مهما كان شأنهم، سواء كانت لهم أحساب يحمونها أم ليست لهم أحساب وسواء كان يهمهم شأن الدولة وبقاؤها أم لا؟".
    يروى أن أهل بغداد اشتكوا إلى المعتصم إساءة غلمان الأتراك وقالوا له: تحول عنا وإلا قاتلناك، قال: وكيف تقاتلوني وفي عسكري ثمانون ألف دارع!
    قالوا: نقاتلك بسهام الليل، وسهام الأسحار، فقال: لا طاقة لي بذلك.
    الإمام أحمد ومحنته في عهد المعتصم

    ينقل لنا عبد الله ابن الإمام أحمد على لسان أبيه ما ابتلى به في عهد المعتصم فيقول: لما أحضرني المعتصم من السجن زاد في قيودي، فلم أستطع أن أمشي بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاءوني بدابة فحملت عليها فكدت أسقط على وجهي من ثقل القيود وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا المعتصم، فأُدخلت في بيت وأغلق على وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد.
    ثم دعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلى وعنده وزيره أبو دؤاد قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن وهذا شيخ مكهل؟ فلما دنوت منه وسلمت قال لي: ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ثم قال: اجلس، فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة ثم قلت: يا أمير المؤمنين إلام دعا ابن عمك رسول الله ؟
    قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك، ثم قال: يا عبد الرحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة؟ فقلت: الله أكبر، هذا فرج للمسلمين، ثم قال: ناظره يا عبد الرحمن، كلمه، فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه، فقال المعتصم: أجبه. فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت، فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله، فسكت، فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين كفرك وكفرنا، فلم يلتفت إلى ذلك، فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن، فقلت: كان الله ولا علم؟ فسكت.
    فجعلوا يتكلمون من ههنا وههنا فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله حتى أقول به، فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟ فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما؟وجرت مناظرات طويلة، حتى قال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع، وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم، فقال لهم: ما تقولون؟ فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروني في اليوم الثاني وناظروني أيضًا في اليوم الثالث وفي ذلك كله يعلو صوتي عليهم وتغلب حجتي حججهم.
    فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد وكان من أجهلهم بالعلم والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها، وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحدًا يقولها، وقد تكلم معي ابن غوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد، ليس كمثله شيء، فسكت عني.
    وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة فحاولوا أن يضعفوا إسناده ويلفقوا عن بعض المحدثين كلامًا يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات، وأني لهم التناوش من مكان بعيد؟ وفي أثناء ذلك كله يتلطف بي الخليفة ويقول: يا أحمد أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي.
    فأقول: يا أمير المؤمنين يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله حتى أجيبهم إليها. فلما أعيتهم الحجج قال إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين، فعند ذلك حمى المعتصم واشتد غضبه وكان ألينهم عريكة وهو يظن أنهم على شيء فقال لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجيبني.
    ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه.. فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعقابين والسياط وأنا أنظر، وكان معي شعرات من شعر النبي مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت بين العقابين، فقلت: يا أمير المؤمنين أذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك.
    ثم لم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل كافر، فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له المعتصم: شد قطع الله يديك، ويجيء بالآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك، فضربوني أسواطًا فأغمى على وذهب عقلي مرارًا، فإذا سكن الضرب يعود على عقلي، وقام المعتصم يدعوني إلى قولهم فلم أجبه وجعلوا يقولون: ويحك! الخليفة على رأسك، فلم أقبل وأعادوا الضرب ثم عاد إلى فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء إلى الثالثة، فدعاني فلم أعقل ما قاله من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان في سنة 221هـ، وكان ثم أمر الخليفة بإطلاقي إلى أهلي)، وكان جملة ما ضرب نيفًا وثلاثين سوطًا وقيل ثمانين سوطًا، لكن كان ضربًا مبرحًا شديدًا.
    ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم أتوه بسويق ليفطر فامتنع من ذلك وأتم صومه.
    ويروى أنه لما أقيم ليضرب انقطعت تكة سراويله، فخشي أن يسقط سراويله فتكشف عورته، فدعا الله: يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق، فلا تهتك لي عورة. فعاد سراويله كما كان.
    ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحمًا ميتًا من جسده وجعل يداويه والنائب في كل وقت يسأل عنه، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندمًا كثيرًا.. فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك. ولما شفاه الله تعالى جعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة.
    وكان يقول: (ماذا ينفعك أن يُعذَّب أخوك المسلم بسببك؟).
    ثم توفي المعتصم 17من ربيع الأول سنة 227هـ، وولي عهده ابنه هارون.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: قصة الخلافة العباسية ابتداء من نشأة الدولة حتى السقوط

    قصة الخلافة العباسية
    خلافة الواثق بالله والمتوكل على الله

    قصة الإسلام



    خلافة الواثق بالله أبي جعفر هارون بن المعتصم بالله


    تولى الواثق بالله الخلافة من ربيع أول 227هـ حتى ذي الحجة 232هـ، وعمره إحدى وأربعون سنة، وتوطدت أقدام القواد الأتراك الذين اصطنعهم المعتصم وصاروا أصحاب نفوذ عظيم، ولا سيما أشناس الذي توَّجَه الواثق وألبسه وشاحين بالجوهر في رمضان سنة 228هـ.

    بل وقام قواد الأتراك لأول مرة بأعظم الأعمال الحربية في جزيرة العرب نفسها وذلك للقضاء على فتنة قامت سنة 230هـ حيث خرجت بنو سُليم حول المدينة فعاثوا في الأرض فسادًا، وقاد هذه الحملة بغا الكبير أبو موسى التركي.
    وفتنة أخرى قامت سنة 232هـ حيث قامت قبيلة بني نمير باليمامة بالإفساد في الأرض، واستطاع أيضًا بغا الكبير أن يقضي على فتنتهم.
    عمل شنيع للواثق

    فقد سيطر عليه هو الآخر الفكر المعتزلي وتعصب له وكان يدعو إلى القول بخلق القرآن ليلاً ونهارًا، وفي عهده ارتكب جرمًا شنيعًا إذ قُتِل أحمد بن نصر بن مالك الذي كان من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وممن يخالف رأي الخليفة في القول في القرآن، وأبوه هو نصر بن مالك الذي بايعته العامة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند غلبة الفساد ببغداد سنة 201هـ.
    في غيبة المأمون بمرو، استدعاه الواثق وناظره فلم يفلح في إقناعه بما يعتقد فقتله الواثق بنفسه، وفُصل رأسه عن جسده وعُلِّق رأسه ببغداد في 28 من شعبان سنة 231هـ إلى 3 من شوال سنة 237هـ، ولم يغير أحمد عقيدته وثبت. وذكره الإمام أحمد بن حنبل يومًا فقال: رحمه الله ما كان أسخاه بنفسه لله، لقد جاد بنفسه لله وقال جعفر بن محمد الصائغ: بصرت عيناي وإلا فقئتا، وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه: لا إله إلا الله. وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2][1].
    فلما حكم المتوكل بعد الواثق وكان محبًّا لأهل السنة وفي سنة 237هـ أمر بإنزال رأسه والجمع بين رأسه وجسده وأن يُسلَّم لأوليائه، ففرح الناس بذلك فرحًا شديدًا، واجتمع في جنازته خلق كثير جدًا وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه، وتوفي الواثق في 24 من ذي الحجة سنة 232هـ، ولم يعهد لأحد من بعده فاجتمع كبراء الدولة يومها وهم: أبو دؤاد القاضي ومحمد بن عبد الملك الوزير وإيتاخ من قواد الأتراك وغيرهم ليختاروا الخليفة، فاختاروا جعفر المتوكل على الله.
    خلافة المتوكل على الله ابن المعتصم

    (من ذي الحجة 232هـ حتى قتل في شوال 247هـ)
    عرف المتوكل دون سائر أهل بيته بكراهية على بن أبي طالب وأهل بيته، وهذا ما يعرف في العقائد بالنصب، وهو ضد التشيع، وهو الذي أمر بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب سنة 236هـ وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل.
    ومع ذلك كتب المتوكل في الآفاق بالمنع عن الكلام في مسائل الكلام والكف عن القول بخلق القرآن، وأنه من تكلم بها فمأواه المطبق، وأمر الناس ألاَّ يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، وأكرم الإمام أحمد بن حنبل، وكان لا يولي إلا بعد مشورته، وكانت ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة مكان ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم من أئمة السنة.
    قال ابن كثير: "وكان المتوكل محببًا إلى رعيته، قائمًا في نصرة أهل السنة، وقد أظهر السنة بعد البدعة فرحمه الله".
    عبرة وعظة في هلاك الظالمين

    دخل عبد العزيز بن يحيى الكتاني أحد المقربين إلى المتوكل عليه فقال: "يا أمير المؤمنين، ما رأيت أعجب من الواثق، قتل أحمد بن نصر الخزاعي وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن". فوجل المتوكل من كلامه، وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل: "في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر". فقال: يا أمير المؤمنين، أحرقني الله بالنار إنْ قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرًا[2]، ودخل على المتوكل هرثمة فكلمه المتوكل في ذلك، فقال: "قطعني الله إربًا إربًا إن قتله إلا كافرًا".
    ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي داؤد فقال له مثل ذلك، فقال: "ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافرًا". قال المتوكل: فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار[3]، وأما هرثمة فإنه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة، فعرفه رجل من الحي فقال: يا معشر خزاعة، هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر، فقطعوه. فقطعوه إربًا إربًا. وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده -يعني بالفالج- ضربه الله له قبل موته بأربع سنين.
    الدولة اليعفرية

    وفي عهد المتوكل قامت الدولة اليعفرية بصنعاء: ومؤسسها هو يعفر بن عبد الرحيم، واستمرت من سنة 247 إلى سنة 387هـ، ومدتها 140 سنة.
    مواجهة المتوكل لنفوذ الأتراك وأثر ذلك

    كان نفوذ الأتراك يزداد يومًا بعد يوم، وقد أحس المتوكل بتوغل الأتراك في الدولة، واستبدادهم بأمور الخلافة وإدارتها وجيشها، فحاول أن يقلل نفوذهم فبدأ بإيتاخ فدبر له مكيدة حتى قتل.
    وحاول المتوكل أن ينتقل بعاصمة الخلافة إلى دمشق -ربما ليستعين بسلطان العرب على الأتراك- ولكنه لم يتحمل البقاء بدمشق فعاد إلى بغداد.. وكان قد شاع أنه عزم على الفتك بوصيف وبغا وغيرهما من قواد الأتراك ووجوههم، ولكن لم يتأت له ذلك لأنهم سبقوه إلى الغدر به.
    وذلك: أن المتوكل قد ولى العهد من بعده لابنه عبد الله وكان ابنه الآخر المنتصر بالله حانقًا على أخيه وعلى أبيه من أجل ذلك، وكان الأتراك يميلون إلى المنتصر بالله، وكانوا يشمون رائحة الغدر بهم من ناحية المتوكل، فتحالف المنتصر بالله مع بعض جند الأتراك ودخلوا على المتوكل وهو عليل وقتلوه، وكان ذلك بداية لعهد تمكن نفوذ الأتراك.
    [1] ابن كثير: البداية والنهاية 10/315.
    [2] أي لم يقتل الواثق أحمد بن نصر إلا لكفر أحمد!!
    [3] وذلك أنه لما رأى منهم هذه الجرأة عزم على التنكيل بهم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •