تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين التصريح والتعريض

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين التصريح والتعريض



    هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين التصريح والتعريض (1)








    كتبه/ كريم صديق


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فقد أخذ التعريض في كلام النبي -صلوات الله عليه- أشكالًا يمكن تمييزها بحسب الدافع إليه ، فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم، قال تعالى : (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (البقرة: 235)، فنهت الآية عن التصريح بالزواج للمرأة التي توفي عنها زوجها وهي ما تزال في عدتها، وأباحت التعريض الذي هو ضد التصريح.

    والنبي -صلوات الله عليه- قد استعمل هذا النوع من التعريض في زواجه من أم المؤمنين أم سلمة، فنراه يعرض الأمر عرضًا لطيفًا لا يخدش حياءه ولا حياء مَن يخاطب، فيقول لها: "لَقَدْ عَلِمْتِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَخِيَرَتُهُ، وَمَوْضِعِي فِي قَوْمِي" (أخرجه الدارقطني وسنده منقطع)، فكان هذا تعريضًا برغبته في الزواج منها.

    ونراه يعرّض في أمر الزواج أيضًا، وهو يريد أن يختار للمرأة المتأيمة زوجًا يصلح لها، قال القرطبي -رحمه الله-: "ومِن أَعْظَمِهِ قُرْبًا إِلَى التَّصْرِيحِ: قَوْلُ النَّبِيِّ -صلوات الله عليه- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: كُونِي عِنْدَ أُمِّ شَرِيكٍ وَلَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ"، فقوله: " تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ" إشارة لطيفة إلى أن يكون زواجها بعد أخذ مشورته من غير تصريح بأمر الزواج.

    ومن التعريض ما كان دافعه ومبعثه حياء النبي -صلوات الله عليه- الشديد؛ فقد كان كما أخبر عنه أصحابه: "أشَدّ حَياء مَنَ العَذْراءِ في خِدرِها" (متفق عليه).

    فنراه يلجأ للتعريض فيما يخص أمور النساء، فيبين الحكم في إلماح لطيف يغني عن التصريح، فيقول لمستفتية تسأل عن غسل الجنابة ما يفي بالمعنى من غير تصريح بما يخدش الحياء، فعن عائشة -رضوان الله عليها-: أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ، فَقَالَ: (تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا، فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ. ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَطَهَّرُ بِهَا). فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! تَطَهَّرِينَ بِهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ: تَتَبَّعِينَ أَثَرَ الدَّمِ، وَسَأَلَتْهُ عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: (تَأْخُذُ مَاءً فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، أَوْ تُبْلِغُ الطُّهُورَ ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا، فَتَدْلُكُهُ حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ). فَقَالَتْ عَائِشَةُ: *نِعْمَ *النِّسَاءُ *نِسَاءُ *الْأَنْصَارِ *لَمْ *يَكُنْ *يَمْنَعُهُنَّ *الْحَيَاءُ *أَنْ *يَتَفَقَّهْنَ *فِي *الدِّينِ. (متفق عليه).

    فقوله -صلى الله عليه وسلم-: (سُبْحَانَ اللهِ!) مشعر بما اعتراه من خجل يمنعه من التصريح بأكثر من ذلك بشأن هذه السائلة التي تستفتي في أمورٍ تخص النساء، وهذا نظير ما ذكره المفسِّرون في تفسير قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) (الأحزاب: 53).

    قال القرطبي -رحمه الله-: "سَبَبَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلوات الله عليه- لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ امْرَأَةَ زَيْدٍ أَوْلَمَ عَلَيْهَا، فَدَعَا النَّاسَ، فَلَمَّا طَعِمُوا جَلَسَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلوات الله عليه- وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةً وَجْهَهَا إِلَى الْحَائِطِ، فَثَقُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلوات الله عليه-، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا أَدْرِي: أَأَنَا أَخْبَرْتُ النَّبِيَّ -صلوات الله عليه- أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ خَرَجُوا أَوْ أَخْبَرَنِي".


    فالنبي -صلوات الله عليه- بما كان عليه من حياء لم يصرِّح بما ينبغي أن يفعله هؤلاء الذين طعموا طعام الوليمة، ثم استرسلوا في الحديث غير مراعين الموقف، فاستحيا النبي أن يأمرهم بالانصراف وهم في بيته، فنزلت الآيات الكريمات تأمر الضيف بالمغادرة إذا كان قد قَضَى مأربه من الزيارة، وحصَّل المقصود منها؛ فلا حاجة للحديث في شئون لا تخص أرباب المنزل في شيء.

    وللحديث بقية إن شاء الله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين التصريح والتعريض



    هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين التصريح والتعريض (2)









    كتبه/ كريم صديق

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فقد كان التصريح بالشيء أو إخفاؤه أمرًا قصده النبي -صلوات الله عليه- ووعاه، وقصد الموقف الذي يصرح فيه، والموقف الذي يعرِّض فيه، أو يخفي الكلام أو جزءًا منه، حتى رصد القرآن هذه الظاهرة رصدًا دقيقًا حيث قال -تعالى-: (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) (التحريم: 3).

    قال القرطبي رحمه الله: "(عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ): عَرَّفَ حَفْصَةَ بَعْضَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ بِمَا نَهَاهَا عَنْ أَنْ تُخْبِرَهَا، وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ تَكَرُّمًا. قَالَ السّدي: مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ".

    فالكريم من شيمته أن ينتقي كلامه؛ فلا يظهر ما يحدث حرجًا في نفوس مَن يكلمهم، وتلك قضية عظمى يختلط فيها الأدب بالبلاغة ويتمازجان، فلا يبدع فيها إلا مَن اجتمعت له أصول البلاغة وقواعد الأدب.

    فذكر لحفصة -رضوان الله عليها- طرفًا مما ذكرته لعائشة، وغض الطرف عن جزء من الكلام؛ حتى لا يجرح شعورها حين يعيد على سمعها ما ذكرته، وهو -صلوات الله عليه- يعي برهافة حسه ما يمكن أن يقال، وما يجمل تركه من كلام آخر؛ إلا أن هذا التعريض يقابله صورًا أخرى من التصريح، لا يمكن فيها التعريض، بل لا بد فيها من الإبانة؛ لأن المقام يستدعيها.

    ومن ذلك: التصريح بلفظ النكاح عند استبيان الأمر في شأن رجل أقر بفعل الزنا، فلا يمكن العدول إلى التعريض في أمر لا يتضح إلا بالتصريح، وبذلك تُحدِّثنا المرويات في قصة ماعز الأسلمي: وَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ -صلوات الله عليه- وَقَالَ: (أَبِكَ جُنُونٌ) قَالَ: لَا، قَالَ: (أُحْصِنْتَ؟) قَالَ: نَعَمْ. وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: (لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ)، وَفِي النَّسَائِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ: حَتَّى قَالَ لَهُ فِي الْخَامِسَةِ (أَجَامَعْتَهَا) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ)، قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قال: (هَلْ تَدْرِي: مَا الزِّنَا؟) قَالَ: "نَعَمْ، أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ حَلَالًا".

    فالمقام هنا لا يحتمل التعريض، بل لا مناص عن التصريح، ونرى هنا حرصه -صلوات الله عليه- على تكرار السؤال بصورٍ شَتَّى ينتفي بها الإبهام والغموض، وذلك لما يترتَّب على هذا الإقرار من إقامة الحد، فالتصريح هو سيد الموقف الذي لا يمكن النزوع عنه إلى أي تلميح أو تعريض، حتى وإن كانت العبارات تتناول ما يستحيي الناس -عادة- من ذكره، فتبعة الموقف ليست بالشيء الهيِّن.


    ويصرِّح أيضًا باسم البعض لِمَا بينه وبينهم من القرابة؛ لئلا يظن أحدٌ أنه يتستر عليهم؛ لما لهم عنده من مكانة، فالجميع عنده سواء أمام أحكام الله، فنراه يقول: (وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ *مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ *رِبًا أَضَعُ رِبَانَا *رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فَإِنَّهُ *مَوْضُوعٌ كُلُّهُ) (رواه مسلم).

    فلم يصرح باسم أناس؛ لمصلحة راجحة، وصرح باسم آخرين؛ دفعًا للتوهم وسدًّا للذريعة، وهكذا نراه -صلوات الله عليه- يصرح قصدًا ويخفي قصدًا، ويعرِّض قصدًا، وكل ذلك يأتي ملائمًا للموقف دون أدنى تكلف، وإنما ينساب على عقولنا انسيابًا رقيقًا.

    وهذه الآلية المختصة بالتصريح تارة، وبالتعريض تارة أخرى كانت البلاغة هي ميدانها الواسع؛ حيث اعتنى بها الدرس البلاغي في مباحث كثيرة، مثل: الحديث عن المجاز اللغوي، والمجاز العقلي، والكناية، والاستعارة، ومخالفة الأصل في التراكيب بالتقديم والتأخير.

    وللحديث بقية -إن شاء الله-.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين التصريح والتعريض

    هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين التصريح والتعريض (3)






    كتبه/ كريم صديق

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فمِن التعريض ما كان مبعثه صيانة المذنبين مما قد يلحقهم من ضرر نفسي إن هو صرَّح بما اقترفوه من آثام، مع ضرورة عرض القضية على أصحابه؛ حتى لا يتكرر الخطأ دون توجيه نبوي بهذا الشأن، فنراه يقول: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ؟)، فاشتدَّ قوله في ذلك حتى قال: (*لَيَنْتَهُنَّ *عَنْ *ذَلِكَ، *أَوْ *لَتُخْطَفَنَّ *أَبْصَارُهُمْ) (رواه البخاري)، وقال: (مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، *مَا *كَانَ *مِنْ *شَرْطٍ *لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) (متفق عليه).

    فنراه -صلوات الله عليه- يُعَرِّض بذكر هؤلاء الذين لم يحسنوا صلاتهم، ورفعوا أبصارهم إلى السماء في إشارة إلى فعلهم، من غير أن يصرح بأسمائهم، وحسبهم من ذلك أن بيَّن لهم الخطأ وحذَّر مَن لم يفعل من الوقوع في مثل ما وقعوا، ويحذِّر أولئك الذين اشترطوا شروطًا ليست في كتاب الله أو خالفته، ويبيِّن لهم أن الولاء لمَن أعتق وليس لمن باع؛ لأن البائع استفاد من الثمن؛ فكيف يُحرم المعتق من الولاء؟ ويحوز المال والولاء من باع فيحرم المعتق من الخير كله؟!

    وثمَّ تعريض مبعثه استخراج ما في نفوس الأنصار؛ فقد أبرم معهم معاهدة تنص على حمايته داخل المدينة، وهو -صلوات الله عليه- ينوي الخروج إلى لقاء قريش خارج المدينة، فلا زال يكرر سؤاله حتى تبيَّن القوم أنه إنما يريد الأنصار، ففي الأثر: "وأتاه الخبر بمسير قريش ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله! فنحن معك فو الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: (*فَاذْهَبْ *أَنْتَ *وَرَبُّكَ *فَقَاتِلَا *إِنَّا *هَاهُنَا *قَاعِدُونَ) (المائدة: 24)، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله - صلوات الله عليه- خيرا، ودعا له، ثم قال: أشيروا علىّ أيها الناس- وإنما يريد الأنصار لأنهم عدد الناس- فقال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل، قال: فقد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللّقاء، لعلّ الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله" (السيرة النبوية لابن هشام).

    قال ابن حجر -رحمه الله-: "عَرَفُوا أَنَّهُ يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَكَانَ يَتَخَوَّفُ أَنْ لَا يُوَافِقُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُبَايِعُوهُ إِلَّا عَلَى نُصْرَتِهِ مِمَّنْ يَقْصِدُهُ، لَا أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى الْعَدُوِّ" (فتح الباري).

    والتورية كانت سمة غالبة في غزواته -صلوات الله عليه- إلا حين يكون التصريح أمرًا حتميًّا؛ لبعد المسافة -مثلًا- الذي يستوجب مصارحة الناس بصعوبة الرحلة وخطورة المعركة، قال كعب بن مالك - رضوان الله عليه- في ثنايا حديثه عن غزوة تبوك : "ولم يكن رسول الله -صلوات الله عليه- يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسولُ الله -صلوات الله عليه- في حَرٍّ شَديدٍ، واستقْبَلَ سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عَدُوًّا كثيرًا، فَجَلَّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهَّبوا أُهْبَةَ غزوهم، وأخبرهم بوجْهِهم الذي يريدُ" (متفق عليه).

    قال ابن حجر -رحمه الله-: "وَرَّى بِغَيْرِهَا أَيْ أَوْهَمَ غَيْرَهَا، وَالتَّوْرِيَةُ أَنْ يَذْكُرَ لَفْظًا يُحْتَمَلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ مِنَ الْآخَرِ، فَيُوهِمُ إِرَادَةَ الْقَرِيبِ وَهُوَ يُرِيدُ الْبَعِيدَ" (فتح الباري).


    فاستعمل النبي -صلوات الله عليه- التورية في موضعها المناسب، وذلك عند خوفه من أن ينتقل الخبر إلى أعدائه، واستعمل التصريح عند أمن انتقال الخبر، أو وجود مصلحة أكبر.

    قال المناوي: "والتورية أن يذكر لفظا يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر، فيسأل عنه وعن طريقه فيفهم السامع بسبب ذلك أنه يقصد المحل القريب، والمتكلم صادق، لكن لخلل وقع من فهم السامع خاصة، وأصله من وريت الخبر تورية سترته وأظهرت غيره، وأصله ورا الإنسان؛ لأنه من ورى بشيء كأنه جعله وراءه" (فيض القدير).

    وللحديث بقية -إن شاء الله-.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •