ملامح من الإعجاز البياني في ضوء القراءات القرآنية
د. أحمد محمد الخراط
لا يخفى على أحدٍ منَّا وفرة الدراسات البيانيَّة التي تناولت إعجاز القرآن من حيث نظمُه وأداؤه التعبيري. وأود في هذا البحث أن ألفت أنظار الباحثين والمهتمين بدراسات إعجاز القرآن إلى جانب عَزّتْ فيه الدِّلاء، ونَدَرَت الأقلام، وقَلّت التأملات، وهو جانب الإعجاز البياني في ساحة القراءات القرآنية المتواترة، ولا سيما أن علماءنا كافة يقرون بسلامتها، وصحة سندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإذا كان علماء البيان، قد خدموا جوانب الإعجاز التعبيري المختلفة، التي تلتقي عليها القراءات القرآنية المتواترة، وذلك في الدراسات السالفة والمعاصرة، وكتبوا في روعة نظمها وأسلوبها وأسرار اختيار الحروف والكلمات، إذا كان علماء البيان قد فعلوا كل ذلك فإن مجال الكتابة والتأمل على ضفاف الجانب الجمالي الأدبي في القراءات كلٍ على حِدَة هو لون جديد من ألوان إعجاز هذا الكتاب الخالد؛ لأنه إذا كان معجزاً في بيانه الراقي عندما تلتقي القراءات على أداء ألفاظ الآية فإن هذا الاعجاز الجمالي يمتد ويمتد، حتى إنه ليدخل في نسيج كل قراءة بمفردها. وحبذا لو عُني المتخصصون بإبراز هذا الجانب الذي يتصل بأغوار اللغة والبلاغة أكثر ممَّا يتصل باختلاف اللهجات العربية.
وإذا كانت هذه القراءات كلها في الأصل للتيسير على العرب الذين تلقَّوا هذا القرآن، حيث كانوا ذوي لهجات ولغات متعددة، فإن حكمة الله قد اقتضَتْ أن يكون في هذه القراءات حِكَمٌ أخرى كثيرة، منها في هذا المقام أن تدلَّ من ناحيةٍ على صيانة كتاب الله وحفظه من أي تحريف وتبديل، مع كونه يتلى على أوجهٍ كثيرة. ومَنْ يطالعْ في كتب القراءات يعجبْ لهذه الدقة، والإحاطة برواياته وأدائه، على الرغم من تنوُّع طرق الأداء فيه، فقد سُجِّلَتْ هذه الطرق ووُصِفت على نحوٍ دقيق مبوب منظم. أليس في هذا دليل على أفق من آفاق الآية الكريمة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [1] ومن ناحية ثانية اقتضت حكمة الله أن يكون مع هذا الاختلاف في الأداء والقراءة ضروبٌ جديدة من الجمال والبلاغة يمتلكها كلُّ وجه من وجوه هذه القراءة، فيمتد الإعجاز وتتعاظم صوره، ويومئذ يفرح المؤمنون بهذا العطاءِ الرحبِ الفسيح وتطمئن قلوبُهم به.
وأودّ هنا أن أنبه إلى ضابطين ضروريين في هذا السياق وهما:
1 – ليس من منهجنا عَقْدُ العزم على تفضيل قراءة متواترة على غيرها، تفضيلاً يغضُّ من شأن الأولى أو الثانية، التي نعرض لأسرار أدائها. وقد رُوي عن الإمام أبي العباس ثعلب أنه قال:
"إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة لم أُفَضِّلْ إعراباً على إعراب في القرآن، فإذا خرجْتُ إلى كلام الناس فضَّلْتُ الأقوى"[2].
ونودُّ أن نكشف عن الجمال التعبيري في القراءات القرآنية غيرِ قراءة حفص عن عاصم المشهورة اليوم في العالم الإسلامي. ونحن إذا انتوينا ذلك، فليس من مقصودنا أن نشير إلى أن قراءة حفص هذه لا تملك من عوامل الإعجاز البياني والجمال التعبيري لدى موازنتها بغيرها.
معاذ الله أن يقول هذا ذو قلب بصير بمواطن البيان وأطايب الكلام، فالإعجازُ في كل قراءةٍ أمرٌ ملموس. وسبحانَ الله الذي جعل في كتابه على تنوع طرق أدائه لمفرداته روعةً وحسناً وجمالاً ونكهة. فأنت إذاً أمام حديقة غنَّاء، فيها من مُعْجب الورود والرياحين والأزهار، فتأخذ الحيرةُ لُّبَّك، والدهشةُ فؤَادَك، فلا تدري ماذا تجني، وماذا تشمُّ، وماذا تقطف، فكل قراءةٍ وردةٌ متناسقة الأكمام، طيبة الرائحة، شهية الجنى. وهذا المجال كما قلت رحب فسيح، ألفت نظر الباحثين والمختصين إليه، لعلهم يضيفون إليه جديداً رائقاً؛ لنصل في مطافنا هذا إلى يقين راسخ – إن شاء الله – بأن هذا الكتاب لا تنقضي عجائبه، ولا يقف عطاؤه في محيط دائرة لا يتعدَّاها. وفي هذا جانب يمكن أن يَفيدَ منه الدعاة، فيكون لهم مجال جديد للقول والاستدلال على مصدره.
2 – أما الضابط الثاني فيتعلق بمنهج هذه الدراسة، حيث يتمثل في المحافظة على منطوق اللغة، وحدودها، وطاقتها التعبيرية، والابتعاد عن التكلف، الذي لا تُقِرُّه دائرة اللغة نفسها، وذلك لأن المتأمِّل في هذا الجانب، ينبغي له أن يبقى في محيط العطاء، الذي يمنحه نسيج اللغة، وعبقها الذي تتنفس من خلاله.
من هذه النماذج التي اختَرْتُها، قراءة حمزة[3] {فلا تعلم نفس ما أَخْفِيْ لهم مِنْ قُرّة أَعْين} حيث ورد الفعل مستقبلاً، وربنا عزوجل يخبر بهذا الفعل عن نفسه. وقرأ باقي القراء بالفعل الماضي المبني للمجهول ((أُخْفِيَ لهم)). يلاحظ البلاغيون أن الفعل المضارع ينطوي على حياة ورونق. فهو من ناحية يُشْعِر بالحركة المتجددة من صنوف النعيم المخبوء. ففي كل يوم من أيام القيامة يكشف الله عزوجل عن خفاء، وما يكشفه اليوم غيرُ ما يكشفه غداً. وتبقى النفس المؤمنة تطمع في المزيد؛ لتُرْوِيَ غليلها، بما يخفيه لها ربُّها عزوجل، من أَطايبَ ونفائس، فتقَرَّ عينُها بذلك المَخْفيّ المتجدد المستمر في عطائه الجزيل. ومن ناحية ثانية يحقق الفعل المضارع ((أُخفيْ)) انسجاماً مع الفعل المضارع الذي قبله، المتصل به، وذلك لأن قراءة حمزة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ}فيكون ثمة توافق بين المضارع الأول ((ينفقون)) والمضارع الثاني ((أُخْفِي)) كما يكون ثمة جزاء مستمر متجدد في نسيج المضارع، ذي الفعل الربَّاني ((أُخْفِيْ)) في مقابل المضارع ذي الفعل البشري ((ينفقون)). ومن ناحية ثالثة: يقوي إخبار الله تعالى عن نفسه، أن قبله إخباراً عنه سبحانه في قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَِمْلَأَنَّ}[4] وفي قوله: ((إِنَّا نَسِينَاكُمْ)) وفي قوله: ((بِآيَاتِنَا)) فكلُّ هذا إخبارٌ من الله عن نفسه، فجرى ما بعده عليه.
* * *
وقرأ نافع {وَأَلْقُوهُ فِي غياباتِ الْجُبِّ}[5] بالألف جمع غيابة، وقرأ الباقون ((غيابة)) بالإفراد، والسياق القرآني حسب القراءة بالجمع يشير إلى أن البئر لها غَيابات متعددة، لأن لكل جزء منها غَيابةً، والمراد ظلمات البئر ونواحيها المتعددة فكان الجمع لمراعاة ذلك. إخوة يوسف في مرحلة الوصول إلى البئر في رحلة الحسد والبغضاء موتورون، امتلؤوا غيظاً وتِرة، وتفجَّروا حقداً وغضباً، وهم الآن قد تَمكَّنوا من أخيهم، والسبيلُ مُيَسَّر إلى إرواء ما يعتمل في القلوب والصدور، فكان قرارهم بعد ذلك بإلقائه في هذه الغيابات السحيقة. أجل إنها غيابات؛ لأنها أحقاد تراكمية مجتمعة، وجَمْعُ الغَيابة في هذا السياق يناسب الأشكال السوداء، من الحالة النفسية، التي تتمَطى وتتثاءب فيهم، لقد تصوروها غَياباتٍ امتداداً للغَيابات التي تجثم في ذاكرتهم، من الحسد المتجدد، والغضب الدائم. فبالله عليك يا من تُمْسك بيد يوسف لا تكتفي برميه في البئر، وإنما تود لو ترميه في غياباتها، في أعماقها، في ظلماتها المتعددة، فلعلَّ في هذا شفاءً لما في الصدور، وبَلْسماً لما في القلوب، وبذلك لن تراه عيوننا فيما نستقبل. وهكذا توافق التعبير اللفظي مع الخلجات النفسية المتصاعدة، في هذا الجمع الغنيّ الثر. ثم إن كل ما غاب عن النظر من الجب يُعَدُّ غَيابة، وذلك أشياء كثيرة.
وقرأ أبو عمرو: {وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلُنا بادئَ الرأي} [6] منْ بَدَأت بكذا، ومعناها: أوَّلَ الرأي. وقرأ غير أبي عمرو ((باديَ)) من غير همزٍ، من بدا يبدو، أي: ظهر. والمعنى على قراءة أبي عمرو: أن قوم نوح قالوا له: ما نراك اتبعك إلا أراذلُنا في بادئ رأيهم، من غير أن يتأمَّلوا أمرك أو يتدبَّروه؛ لأنهم إنْ فكَّروا في دينك تردَّدوا في اتباعك. والمعنى على قراءة الجماعة: اتبعوك في ما ظهر لهم من آرائهم. وفي ضوء قراءة أبي عمرو ينقل لنا القرآن الكريم موقف قوم نوح على طريقته في التصوير الفني الدقيق. فهم قوم عمَّهم الغيظ، وشحنَتْهم البغضاء، فكانوا يختلقون الأكاذيب والإشاعات على هذا النبي الكريم؛ ليقللوا من شأن دعوته، ويزهِّدوا الناس فيها. فمَنْ أولئك الذين اتبعوه؟ إنهم أولاً أراذل القوم وسفلتهم، وهم ثانياً اختاروا طريقتك يا نوح، من غير أن يتقدموا نحو أغوار الفكر والتأمل أشواطاً بعيدة، فرأيُهم إنْ كان فطيراً فلا عجب يا نوح؛ لأنهم لم يجربوك ولم يَخْبَرُوك، وكثيراً ما يتهم الإنسان بصره الحسي، عندما يفتحه بعد رقاد طويل؛ فإذا ما تأمَّل المشهد ووعى عرف الحقيقة.
وكثيراً ما يندم المرء على قرار اتخذه ولكنه يعترف أنه قرار مبني على بادئ الرأي. ولقد علقَتْ أفكارهم بدعوتك من الوهلة الأولى فحسب، من غير سابق تجربة، وأساسِ فهم ورويَّة. ومن المعلوم أن القراراتِ التي يتخذَها الرجل من غير نظرة كلية شاملة قراراتٌ سريعة فطيرة. وعندي أن ثمة مذاقاً في هذه القراءة يختلف عن مذاق القراءة الثانية؛ لأن قراءة غير أبي عمرو معناها اتبعوك في ظاهر رأيهم. وفرقٌ بين الإنسان عندما يعطي قراءة بعدما شهده من ظاهر الأمور التي يتعامل معها، وبين القرار السريع الخفيف. فالحكم المبني على الظاهر قد يستدعي التأمُّلَ في هذا الأمر الظاهر، كما يستدعي تقليب وجهات النظر والتشاور مع الآخرين، وهذا لا يتوافر في القرار المبني على بادئ الرأي، وسياقُ الآية سياق ذم وحقد وبغضاء وهذا الجانب تكشفه قراءة أبي عمرو التي تستوعب هذه الانفعالات النفسية، وهي تتكامل مع القراءة الأخرى التي تكشف جانباً آخر من انفعالاتهم النفسية.
وصور التلاؤم الصوتي والتناسب اللفظي في القراءات القرآنية كثيرة. ومن المعلوم أن هذه الألوان مما ترتاح إليه النفس العالمة بأسرار الفن التعبيري، ومفاتيح الجمال، التي تشارك في رونق الاداء وطلاوته، وذلك لأنها تعنى بتنظيم الألفاظ والجمل والنظم على نحوٍ هندسي، يحقق المزاوجة، ويراعي التساوق، فتتلو الآية الكريمة وأنت تحس بأن الكلمة كالطائر الجميل، الذي يعرف أين يحلق؟ ومتى؟ وأين يستقر؟ على نحو معجب رائق.
ومن أمثلة ذلك قراءة حمزة والكسائي وابن عامر:{إنِ الحكُم إلا الله يقضي الحق وهو خير الفاصلين }[7]. وقرأ الباقون ((يقصُّ الحق)) و((يقضي)) مِنْ قضى يقضي إذا حَكَمَ وفَصَلَ، لمراعاة قوله ((وهو خير الفاصلين)) لأنَّ الفصل عادة يكون في ميدان القضاء، واتخاذ الأحكام، وبهذا يكون ثمة تناسق بين صدر الآية وآخرها؛ حيث إنها بدأت بقضاء الحقوق المشروعة من قبل الله عزوجل، وانتهت بالثناء على خير قاضٍ في ميدان القضاء، فليس الحكم الحق المَقْضِيّ إلا لله، وهو خير مَنْ يفصل في الحقوق. فيكون بين أيدينا لفظتان متساوقتان: ((يقضي))، و((الفاصلين))، وذلك في سياق الحكم الذي بدأت به الآية، وبذلك تكون الألفاظ منتقاة تسير على منوال واحد. ومن أمثلة الألفاظ المتناسقة بناء وصياغة في القراءات المتواترة قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي عمرو {فالقُ الإصباح وجاعلُ الليل سكناً}، وقرأ الباقون {وجَعَلَ الليلَ سكناً }"[8].
فقراءة نافع ومَن معه من أئمة القراءة ((وجاعلُ الليل)) مبنية على قوله في صدر الآية {فالق الإصباح} فأجرى ((جاعلُ الليل)) على لفظ ما تقدَّمه، إذ أتى في سياقه، فالله عزوجل خالقٌ فجاعلٌ، فهذا تناسق في البناء والصياغة يوحي بالهندسة اللفظية المنظمة، ولا سيما أنَّ مجالَ القدرة والإبداع مجالٌ واحد، وهو المجال الكوني في الأفلاك العلوية. قال الإمام مكي بن أبي طالب[9] ((ويقوي ذلك أن حكم الأسماء أن تُعْطف عليها أسماء مثلها، فكان عطف فاعِل على فاعلٍ)) ومرةً أخرى أذكِّر بنهج هذا البحث في عدم تفضيل قراءة على قراءة بحيث يتعدَّى على قَدْر قراءةٍ متواترة، ولكنها محاولة في فَهْم أسرار كل قراءة على حِدة.
ومن الأمثلة اللطيفة قراءة ابن كثير وأبي عمرو: {إنَّ الذين اتَّقَوْا إذا مَسَّهُم طَيْفٌ من الشيطان تذكَّروا فإذا هم مُبْصرون}[10]. وقرأ الآخرون ((طائف))، وحجة من قرأ طَيْفٌ قولُه تعالى قبل هذه الألفاظ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} ولم يقل ((نازغ))، فالميدان الذي نحن فيه إصابةُ الإنسان بخلل عَقَدي أو حسي، والأسلوب القرآني الشائع أسلوبُ وزنِ ((فَعْل)) نحو ((نَزْغ))، أو أسلوب ((فُعْل)) نحو: {وإذا مَسَّكم الضرُّ} ولم يقل الضار. وفي لغة العرب: ((أصابته نظرةٌ)) ولا يقال: ناظرة. وقوله ((طَيْف)) في القراءة يحتمل أن يكون مصدر طاف يطيف طيفاً، ويحتمل أن يكون اسماً مثل الطائف. وهكذا يتحقق في هذه القراءة التناسق بين الآيتين في مجال الموضوع الواحد: ينزغَنَّك نَزْغٌ ومَسَّهم طَيْفٌ، وهذا التناسق البديع له طاقة فنية، في أي عمل يكون تَوَخّي الإجادةِ والإبداع فيه واضحاً.
يتبع