مصادر الأدلة الشرعية المعتمدة عند الحنفية
ام طارق



كل مذهب من المذاهب الفقهية له قواعد وأصول سار عليها علماؤه وأئمته الكرام.
ولكل فريق مصادر للأدلة الشرعية المعتمدة في استنباط الأحكام.
بعض هذه المصادر متفق عليها بين المذاهب الأربعة وهي:الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
والبعض الآخر مختلف فيها ففي حين يصلح بعضها للاستدلال عند بعض المذاهب، يرى البعض الآخر أنها غير صالحة للاستدلال، وقد سميت هذه المصادر بالمصادر التبعية؛ وأهمها: الاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، والعرف، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، وسد الذرائع، وعمل أهل المدينة.
أصول المذهب الحنفي ومصادر الأدلة الشرعية المعتمدة عند الأحناف عشرة، وهي:
الكتاب ، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، والعرف، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا.:



1- أولاً: القرآن الكريم
ويعتبر القرآن الكريم المصدر الأول من مصادر التشريع عند الحنفية بلا خلاف كما هو الحال عند جميع الأئمة والمجتهدين.
يقول أبو حنيفة - رحمه الله-: "آخذ بكتاب الله إذا وجدت فيه الحكم". فما وجد فيه من أحكام أخذ دون البحث في المصادر الأخرى.
ويعتبر القرآن الدليل الأول والأقوى بين كل الأدلة لأنه قطعي الثبوت. كما أنه يشتمل على كليات الشريعة، وهو عمدة الدين.
وقد اتفق المسلمون على حجيته، ووجوب العمل بما فيه، وعدم العدول عنه إلى غيره من الأدلة إلا إذا لم يوجد فيه الحكم المطلوب.
ولا خلاف بين أحد من المسلمين أن القرآن قد نقل بكلامه بالتواتر فهو لذلك قطعي الثبوت يكفر منكره، وما نقل بغير طريق التواتر فلا يسمى قرآناً قطعياً.
إلا أن الحنفية ذهبوا إلى أن القراءة الشاذة وهي التي وردت بغير طريق التواتر تعتبر حجة ظنية توجب العمل دون العلم أي الاعتقاد لأنها مسموعة من النبي صلى الله عليه وسلم، والناقل عدل فهي سنة، والسنة يجب العمل بها.


2- ثانياً: السنة النبوية


وتعد السنة النبوية المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الحنفية المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد كتاب الله- سبحانه وتعالى.
يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "آخذ بكتاب الله إذا وجدت فيه الحكم، وإلا بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
والحنفية مثل بقية الأئمة متفقون إجمالاً على تقديم السنة النبوية على غيرها من الأدلة غير القرآن الكريم.
إلا أن السنة غير القرآن في ثبوتها، فهي ليست جميعها قطعية الثبوت بل إن منها القطعي ومنها الظني الثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها المتواتر ومنها المشهور ومنها أحاديث الآحاد. كما أن منها القوي ومنها الضعيف ومنها الحسن.
ولقد أدى الاختلاف في العلم بالسنة والوثوق بها، والميزان الذي ترجح به رواية على رواية إلى الاختلاف في قبول الروايات أو رفضها بين الأئمة، كما أدى إلى اختلافهم في درجة صحة الحديث من جهة، وفي تقديم وتأخير الحديث على القياس من جهة أخرى.
أما أبو حنيفة وأصحابه من مجتهدي العراق فقد كانوا يتشددون في قبول الرواية ويحتجون بالسنة المتواترة والمشهورة بين أهل الفقه، ويرجحون ما يرويه الثقات من فقهاء العراق دون غيرهم من الرواة، وترتب على ذلك أنهم جعلوا المشهور عندهم في حكم المتواتر وخصصوا به العام في القرآن وقيدوا به المطلق فيه.
وفي الوقت ذاته رفضوا أغلب أحاديث الآحاد المروية خارج العراق إلا إذا توفرت فيه شروط معينة لقبولها.
شروط أبي حنيفة للأخذ بخبر الواحد:
1 – ألا يعارض ما هو أقوى منه كنص الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة.
2- ألا يعارض عمل الصحابة أو الإجماع.
3- ألا يخالف الراوي ما روى، فإن خالفه فالعمل بما رأى لا بما روى؛ لأنه لا يخالف روايته إلا لأنه قد اطلع على قدح في الرواية أو استند إلى دليل أقوى.
4 - ألا يكون الخبر فيما تعم به البلوى، فإن عموم البلوى يوجب اشتهاره، فإذا روي آحادًا فهو علة قادحة عنده.
5- أن يكون الراوية فقيهاً إذا جاءت الرواية بالمعنى. وعليه إذا تعارض خبران يقدم خبر الراوي الفقيه.
6 - ألا يخالف القياس (أي القواعد العامة)، فإذا تخلف هذا الشرط فالحديث المعارض للقياس لا يقبل إذا عرفت العلة بنص راجح على الخبر ووجدت العلة قطعًا في الفرع، أما إذا وجدت العلة ظنًّا في الفرع فالإمام يتوقف، ويقبل الحديث المخالف للقياس.
هذه هي شروط أبي حنيفة للأخذ بخبر الواحد؛ فإذا توفرت هذه الشروط في خبر الواحد أخذ به ولو كان ضعيفًا ويقدمه على القياس، وإن لم تتوفر تلك الشروط في خبر الواحد اعتبر الحديث شاذًّا، وتركه وأخذ بالقياس.


3- الإجماع


الإجماع أصل شرعي عند جمهور المسلمين، ويأتي من حيث الاحتجاج به بعد الكتاب والسنة وقبل القياس، وهو معتبر عند الحنفية في كل عصر ولا يقتصر على عصر الصحابة.
أما شروط الإجماع عند الحنفية فهي:
1- اتفاق جميع أهل الاجتهاد وقت نزول الحادثة، ولا يكفي الأكثر أو إجماع أهل العترة، أو إجماع أهل المدينة. وعلى هذا قال الحنفية: التابعي المجتهد يعتبر عند انعقاد إجماع الصحابة، فلا يكون إجماعاً عند مخالفته إياهم. فالإجماع معتبر في كل عصر وليس فقط في عصر الصحابة فيحتاج إلى اتفاق جميع المجتهدين.
2- ألا تكون المسألة مجتهداً فيها زمن الصحابة واختلفوا فيها. وهذا الشرط وإن كان نسب إلى أبي حنيفة إلا أنه لا تصح نسبته إليه.
أنواع الإجماع عند الحنفية ثلاثة هي:
1- الإجماع الصريح: وبسميه بعض الحنفية عزيمة في الإجماع. وهي أن يتم الاتفاق على المسألة قولاً أو فعلاً.
2- الإجماع السكوتي: ويسميه بعضهم رخصة في الإجماع. وهو أن يجيب واحد ويسكت الآخرون، ولكنهم يرون ذلك على ما يرى طريقاً لتأييده، كأنهم بترك الاعتراض موافقون على صحة الحديث، فيكون خبراً عند عامتهم لأنهم لو كان عندهم خبر يخالفه ما تأخروا على الرد.
3- الإجماع على أن لا قول آخر في المسألة، وذلك إذا اختلف الصحابة في مسألة على قولين أو أقوال محصورة، فهذا إجماع على أن ما عداها باطل.
والحنفية بالإضافة إلى الإجماع الصريح كثيراً ما يذكرون الإجماع السكوتي ويعتبرونه مصدراً من مصادر التشريع، كما أنهم يعتبرون النوع الثالث من الإجماع ويخصّ أكثرهم هذا النوع بالصحابة وهم أهل الفضل والسابقة.
وقد ذكر النسفي وغيره أن الإجماع على مراتب:
1- فأقوى مراتب الإجماع إجماع الصحابة – رضي الله عنهم – الصريح فهذا يكفر جاحده عند أكثر الحنفية.
2- ثم الإجماع السكوتي عن الصحابة- رضوان الله عليهم- فهذا دون الأول.
3- ثم إجماع من بعدهم على حكم لم يظهر منه خلال من سبقهم، وهذا بمنزلة المشهور.
4- ثم إجماعهم على قول سبق فيه خلاف من سبقهم، وهذا بمنزلة خبر الواحد يوجب العمل دون العلم.
وكل هذه الإجماعات مقدمة على القياس عند الحنفية.


4- التوسع في القياس


المصدر الرابع من مصادر التشريع عند الحنفية القياس.
ولقد توسع الحنفية في القياس في غير الحدود والكفارات والمقدرات الشرعية.

أسباب كثرة القياس عند الحنفية عديدة، من أهمها:
1- أن الإمام أبا حنيفة أقل من غيره من الأئمة في رواية الحديث؛ بسبب الشروط الخاصة للإمام في قبول الحديث، ولتشدده في رواية الحديث بسبب فشو الكذب في العراق وكثرة الفتن.
2- لتقدم عهده على عهد بقية الأئمة.
3- تأثر أبي حنيفة بمنهج مدرسة الكوفة وهي نتاج أقضية عمر وعلي وابن مسعود.
4- بعض القواعد الأصولية عند الحنفية كاعتبار العام قطعي الدلالة لا يُزاد عليه إلا بقطعي الدلالة مثله، لأن الزيادة نسخ عندهم.
5- الوقائع المتجددة الكثيرة التي كانت في بيئة العراق.
6- ظهور الفقه التقديري وهو افتراض أجوبة لحوادث لم تقع.
وقد كان الإمام يقدم القياس على حديث الآحاد الذي لم تنطبق عليه الشروط التي حددها.
كما أنه لم يتقيد بقول سابق للصحابة والتابعين ما لم يتبين له صحة ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روي عنه أنه في النص الآنف الذكر قال:
"آخذ بكتاب الله إذا وجدت فيه الحكم، وإلا بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله أخذت بقول الصحابة، آخذ بقول مَن شئت منهم وأدع قول من شئت، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين وعطاء وسعيد بن المسيب فإني أجتهد كما اجتهدوا".
من أجل ذلك يعد الأحناف أبعد الفقهاء أثراً وأرسخهم قدماً في القياس.
وبسبب كثرة اعتماد أبي حنيفة وأصحابه على القياس سمي هو ومن معه أصحاب الرأي.


5- التوسع في الاستحسان

الاستحسان: هو العدول بالمسألة عن نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى يقتضي هذا العدول.
وقد أكثر الحنفية من الاستحسان. وتوسع الإمام أبو حنيفة في الأخذ بهذا الأصل، فكان يقيس ما استقام القياس، فإذا قبح القياس استحسن ولاحظ تعامل الناس، وقال: "أستحسن وأدع القياس".
ولقد كان إكثار الحنفية من الاستحسان مثار طعن عليهم ممن لم يعرف مصطلحهم فيه، حتى قيل: "إن الاستحسان قول بالتشهي". ونقل عن الشافعي أنه قال:"من استحسن فقد شرع".
وهذا الإنكار مرجعه في الحقيقة إلى عدم معرفة حقيقة الاستحسان الذي أراده الحنفية، فالاستحسان في الحقيقة راجع إلى أدلة شرعية معتبرة فهو راجع إما إلى النص من الكتاب والسنة، أو إلى الإجماع، أو إلى الضرورة أو إلى القياس.
أنواع الاستحسان:
يقسم الحنفية الاستحسان إلى أنواع بحسب سنده الذي كان العدول بسببه، وهي:
1- استحسان النص: وهو العدول عن حكم القياس الظاهر إلى حكم مخالف له ثبت بالأثر،كالسلم والإجارة فإن القياس يأبى جواز هذه العقود ولكنها جازت بالنص.
2- استحسان الإجماع: وهو العدول عن حكم القياس الظاهر إلى حكم مخالف له ثبت بالإجماع، كصحة عقد الاستصناع الذي ثبت بالإجماع.
3- استحسان الضرورة: وهو أن توجد ضرورة تحمل المجتهد على ترك القياس والأخذ بمقتضياتها. ومثالها: تطهير الحياض والآبار، فإن القياس ينافي تطهيرها إذ لا يمكن تطهيرها بصب الماء عليها. وكذا الماء الداخل في الحوض أو الذي ينبع من البئر يتنجس بملاقاة النجس، ولكنهم تركوا العمل بموجب القياس للضرورة.
4- استحسان القياس الخفي: وهو أن يكون في المسألة وصفان يقتضيان قياسين متباينين، أحدهما ظاهر وهو القياس الاصطلاحي، والآخر يقتضي إلحاقها بأصل آخر فيسمى استحساناً. ومثاله سؤر الطير نجس اللحم ولكنه طاهر لأن الطير تشرب بمنقارها ومنقارها طاهر.
هذه هي أنواع الاستحسان عند الحنفية وإن كان بعض العلماء لا يسميها جميعاً استحساناً لأن الحكم الثابت بها إنما يضاف ثبوته إلى النص أو الإجماع.


6- قول الصحابي
يلحق الحنفية قول الصحابي بالكتاب والسنة، لأن قول الصحابي إنما يستمد حجته من كونه محمولاً على السماع من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد علمنا أن من أصول أبي حنيفة الالتزام بمجموع أقوال الصحابة وعدم الخروج عنها.
وقد ذهب الحنفية إلى حجية قول الصحابي مع تفصيل وبعض خلاف نذكره فيما يلي:
- قول الصحابي منه ما لا يدرك بالقياس فهذا باتفاق الحنفية حجة لأنه يحمل على السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ألحقه الحنفية بالسنة.
- ومن قول الصحابة ما يدرك بالقياس والاجتهاد فجمهور الحنفية يرون أنه ملحق بالسنة، وهو أيضاً قول المتأخرين من الحنفية. وإن كان بعضهم لا يرى أن يلحقه بالسنة.
وهناك فريق ثالث فصل في المسألة فأوجب تقليد الخلفاء الراشدين وأمثالهم في الفضيلة.
ومنهم من أوجب تقليد الخلفاء الأربعة فقط. وقال بعضهم يجب تقليد الشيخين فقط.
أما عمل الإمام أبي حنيفة وأصحابه فالذي يظهر أنهم لم يخالفوا قول الصحابي الذي لا مخالف له.
وخلاصة القول: أن قول الصحابي الذي لا مخالف له حجة عند جمهور الحنفية سواء كان قوله مما لا يدرك بالقياس أو مما يدرك بالقياس. وإن كان له مخالف فيجب الترجيح.



7- العرف

وقد عرف بتعاريف منها: هو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول.
والذي يبدو للناظر في المذاهب الفقهية أنها جميعها قد أخذت بالعرف، وجعلته أصلاً ينبني عليه شطر عظيم من أحكام الفقه.
ومن العبارات المشهورة: (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً).
أنواع العرف: ينقسم العرف إلى أقسام:
1- منها أنه ينقسم إلى عرف قولي وعرف عملي
2- ومنها أنه ينقسم إلى عرف عام وعرف خاص
3- ومنها أنه ينقسم إلى عرف مقبول وعرف مردود لمخالفته للشرع
أما الحنفية فلا يفرقون بين العرف القولي والعرف العملي.
أما العرف العام والعرف الخاص فلهما فيهما تفصيل.
وقد بين ابن عابدين أن العرف العام ما لم يعارض الدليل الشرعي يثبت به الحكم العام، والعرف الخاص ما لم يعارض الدليل الشرعي يثبت به الحكم الخاص.
فالعرف المعتبر عندهم هو ما لم يعارض الدليل الشرعي سواء كان عاماً أو خاصاً، ولو عارض المنصوص في كتب المذهب، وإذا عارض العرف الدليل الشرعي من كل الوجوه يترك ولا يلتفت إليه، وإذا عارضه من بعض الوجوه فإن العرف العام يصلح مخصصاً للأثر ويترك به القياس، والعرف الخاص لا يصلح مخصصاً ولا يترك به القياس.

8- الاستصلاح

وهو بناء الأحكام على المصالح المرسلة.
والمصالح المرسلة: وهي المصالح التي أرسلها الشارع، ولم يقم دليل على إلغائها، أو اعتبارها.
وقد جاءت الشريعة لتحقيق خمسة أنواع من المصالح، وهي على هذا الترتيب: الدين، والحياة، والعقل، والنسل أو العرض، والمال.
وكيفية الاستدلال بذلك الدليل أن العالِم الفقيه يرى أمامه مصلحة حديثة العهد طارئة، لم تكن موجودة من قبل تقتضي حكمًا شرعيًّا، ولكن هذا الفقيه لا يجد عليه (أي على الحكم الشرعي) دليلاً من القرآن أو السُنَّة، ولا يجد دليلاً على حكم يشبهه للقياس لا سلبًا ولا إيجابًا، فيعود بهذه المسألة في الحكم إلى جنس هذه المصلحة التي يحققها الحكم، فينظر هل هي واحدة من هذه المصالح الخمس التي جاءت الشريعة بحمايتها ورعايتها؟ فإن كانت واحدة من هذه المصالح وكان الأخذ بها لا يُفَوِّت مصلحة أهمّ منها، يجتهد على وفق هذه المصلحة.
ولم يتكلم الحنفية في هذا الدليل في كتبهم مما يفهم منه أن الحنفية لا يحتجون بهذا الدليل ولا يعملون به، إلا أن بعض الكتاب المعاصرين بينوا أن الحنفية يعملون بالمصالح ولكن ليس كدليل مستقل وإنما من خلال أدلة أخرى.
وإذا كان الحنفية لم يبحثوا في المصالح المرسلة بحثاً موضوعياً يبينون فيه مناهجهم وشرائطهم في رعايتها كما فعل المالكية إلا أنه فرعوا كثيراً وأفتوا كثيراً فتاوى استحسانية من نوع استحسان الضرورة الذي يقوم عندهم على أساس رعاية المصالح الحقة، ورفع الحرج، والسياسة الشرعية، وهي النوع الذي تندرج فيه المصالح المرسلة في تعبير غيرهم.


9- الاستصحاب


ومعناه باختصار في اصطلاح الأصوليين: الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على أنه كان ثابتاً في الزمان الأول. أو هو التمسك بالحكم الثابت في حال البقاء لعدم الدليل المغيّر. أو هو الحكم ببقاء أمر تحقق ولم يظن عدمه.
والاستصحاب أنواع بعضها معتبر يجب العمل به بلا خلاف، وبعضها مختلف في اعتباره.
فالاستصحاب المعتبر الذي يجب العمل به بلا خلاف هو:
1- استصحاب الحكم العقلي: وهو كل حكم عرف وجوبه أو امتناعه، وحسنه أو قبحه بمجرد العقل.
2- استصحاب الحكم الشرعي: الذي ثبت تأييده وتوفيقه نصاً أو ثبت مطلقاً وبقي بعد وفاة النبي.
وهذان النوعان يجب العمل بهما لقيام دليل البقاء وعدم الدليل المزيل.
أما الاستصحاب المختلف فيه فهو:
استصحاب الحكم الذي ثبت بدليل مطلق غير متعرض للزوال أو البقاء، فهذا قبل البحث عن الدليل ليس بحجة باتفاق، وبعد البحث عن الدليل المغير وعدم ظهوره فقد اختلف فيه:
1- فذهب بعض الحنفية إلى أنه ليس بحجة أصلاً لا لإثبات أمر لم يكن ولا لإبقاء ما كان على ما كان.
2- ذهب البعض إلى أنه حجة لإبقاء ما كان على ما كان ولإثبات حكم مبتدأ.
3- وذهب أكثر المتأخرين من الحنفية إلى أنه حجة للدفع لا للإلزام- أي حجة في نفسه ولا يصح الاحتجاج به على غيره.




10- شرع من قبلنا
مذهب الحنفية في شرع ما قبلنا أنه إن ورد في شرعنا ما ينسخه فليس بحجة لنا، وإن ورد وأُقرّ فهو شرع لنا، وهذا القدر لا خلاف فيه لأحد.

وإن ورد ولم يُقرّ فهذا حجة عند الحنفية يجب العمل به على أنه شرع نبينا صلى الله عليه وسلم حتى يقوم الدليل على نسخه أو إنكاره أو على خلافه.

هذه هي أهم مصادر استنباط الأحكام عند الأحناف.

ومن المعلوم أن الإمام أبي حنيفة لم يدون كتابا جامعاً في أصول الفقه كالرسالة للشافعي، وكذلك لم يرد أن أحداً من أصحاب أبي حنيفة دوّن كتاباً في أصول الفقه، وإن كان قد ورد أن أبا حنيفة وبعض أصحابه كتبوا بعض المباحث المتفرقة في أصول الفقه.
إلا أن عدم وجود هذه الأصول مدونة لا يعني أن أبا حنيفة بنى فقهه على غير أصول وقواعد، ذلك أن تأخر تدوين هذه الأصول لا يعني عدم وجودها.
يدل على ذلك التراث الفقهي الضخم المنقول عن الإمام وأصحابه، فهذه الفروع الفقهية يدرك المتأمل فيها أن بينها ترابطاً وتماسكاً يدلان على أن واضع هذه الفروع يتعلق بقواعد لا يخرج عنها.
ثم إن العلماء الذين جاءوا فيما بعد ودونوا أصول المذهب الحنفي إنما استنبطوا هذه القواعد من خلال الفروع المنقولة عن الإمام وأصحابه، حيث لاحظوا أن مجموعات من الفروع تنتظمها قواعد معينة، ولولا أن هذه القواعد كانت معتمدة عند الإمام وأصحابه لما جاءت تلك الفروع متسقة ومترابطة. وأول من دون أصول الفقه على طريق الحنفية أبو الحسن الكرخي (ت 340هـ).
أما أشهر الكتب المؤلفة في أصول المذهب الحنفي على طريقة الفقهاء فهي:
1- رسالة الكرخي في الأصول ، لأبي الحسن الكرخي (ت 340)، وهي رسالة صغيرة في أصول الفقه أقرب إلى القواعد الفقهية.
2- أصول الفقه لأبي علي الشايش (ت 344هـ)، وهو أقدم كتاب وصلنا في أصول الفقه
3- الجدل في أصول الفقه لأبي منصور الماتريدي (ت 330)
4- الفصول في الأصول، لأبي بكر الرازي الجصاص (ت 370هـ)
5- تأسيس النظر، لأبي زيد الدبوسي (ت 430هـ)، بين فيه أصول الخلاف بين الحنفية وغيرهم
6- كنز الوصول إلى معرفة الأصول، لفخر الإسلام البزدوي (ت 482هـ)، وهو من أشهر كتب الأصول عند الحنفية، وأكثرها اعتمادا لذا كثرت عليه الشروح.
7- (أصول السرخسي) ، للإمام أبي بكر السرخسي (ت 483هـ)، وقد توسع فيه بالشواهد والأدلة حتى أصبح من أوسع كتب الأصول عند الحنفية
8- ميزان الأصول في نتائج العقول لأبي بكر السمرقندي (ت 538هـ)
9- المنتخب في أصول المذهب لأبي عبد الله الحسام الأخيسكي (ت 644هـ) اعتمده الحنفية بالشرح والتعليق وكثرت عليه الشروح.
10- المغني في أصول الفقه لجلال الدين الخبازي (691 هـ) وهو كتاب مختصر سهل العبارة ، وله شروح عديدة.
11- (بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والإحكام)، لابن الساعاتي (ت 694هـ)، لخص فيه كتاب الإحكام للآمدي وزاد عليه من أصول البزدوي. وهو أول كتاب جمع بين الطريقتين في الأًصول.
12- منار الأنوار للإمام حافظ الدين النسفي (ت 710هـ)، وله شروح عديدة منها كشف الأسرار للمؤلف نفسه.
وبعد ذلك تتالت المؤلفات التي قامت بالشرح والتعليق على الكتب السابقة. فظهرت مؤلفات كثيرة على طريقة الفقهاء هذه من مختصرات ومطولات وشروح وحواشي، ألفت كتب خاصة في بيانها.
المراجع:

1- خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي- عبد الوهاب خلاف
2- تاريخ التشريع الإسلامي- السبكي، السايس، البربري
3- تاريخ التشريع الإسلامي- مناع القطان
4- دراسة في الفقه وأصوله- مصطفى الخن
5- المدخل إلى مذهب أبي حنيفة
6- أصول الفقه – عبد الوهاب خلاف
7- المذهب الحنفي- أحمد بن محمد النقيب
8- الأئمة الأربعة- محمد عمارة