(النِسْوِيَّة الإِسْلامِيَّة) لا محل لها من الإعراب
. سحر شعير
كان أول ظهور لمصطلح (النِسوية) في أوروبا، في العام 1895 ، ثم انتشر هذا المصطلح عالميًا بعد أنْ تم اعتماده في مؤتمر علمي أقامته مجموعة من النسويات في عام 1910 ثم أصبح هذا المصطلح عنوان للحركة التي تنادي بالمساواة بين المرأة والرجل واستقلالها عنه وإعطائها حقوقها في المجال العام، وقد حققت كثيرًا من مطالبها، ثم نَمَتْ وأصبحت حركة فلسفية لها تيارات، وموجات ومدارس مختلفة، اتسمت بالتطرف في طورها الثاني في ستينات القرن الماضي عندما أنكرت أي فروق بين الرجل والمرأة واستحدثت مصطلح (النوع الإجتماعي الجندر) بدلًا من (الجنس:ذكر أو أنثى)، ثم خرجت في طورها الثالث في تسعينات القرن الماضي لتتبنى أفكارًا شاذة مخربة مثل حق المرأة في الإجهاض تحررًا من قيود الأمومة، والمناداة بحرية الشذوذ وتقنينه.
ومنذ أن بدأت الحركة النسوية في أوروبا تأثرت بها المجتمعات العربية والإسلامية وانتقلت أفكارها من خلال حركات الابتعاث إلى الخارج، وكان تزييف المصطلح حاضرًا في المشهد لإحداث خلخلة الهوية الإسلامية وتلبيس الحق بالباطل كعادة المستعمر في خطته الجديدة الناعمة؛ فظهرت مصطلحات مثل (تحرير المرأة – المرأة الجديدة – حقوق المرأة – المساواة بين الجنسين) وصولًا إلى ذلك المصطلح الهجين (النسْوِية الإسلامية).
ويلمس القارئ المتتبع لتاريخ الحركات النِسوية في البلاد العربية أن دعاتها طفقوا يدفعون بهذه المصطلحات على أنها من مقومات الحضارة والتقدم، وتحمل أهدافًا بريئة مثل تحرير المرأة ورفع الظلم عنها، وأن رد هذه المصطلحات هو علامة التأخر والتخلف بعينه.
من أكبر مبررات ظهور هذا المصطلح هو محاولة أسلمة الفكر الدخيل وفرضه على المجتمعات الإسلامية فرضًا بمجرد إتْباع كلمة (النسوية) بكلمة (الإسلامية)، وقبول المصطلح بهذا الشكل غير ممكن، للبوْن الشاسع بين الإسلام والنسوية
وقد مكّن تدويل الأفكار النسوية وعولمتها من تمريرها إلى الدول العربية من خلال مؤتمرات المرأة والسكان، ومع تبنِّي بعض النخب العلمية النسائية لهذا الفكر بزغت فكرة (النِسْوية الإسلامية) وانتشرت عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم، متكئةً في بث تلك الأفكار على وجود مظالم فعلية تعاني منها المرأة في المجتمعات العربية والمسلمة، مُدَّعيةً أنّ السبيل إلى رفع تلك المظالم يتحقق عن طريق محاكمة النصوص الشرعية إلى الهوى والعقل، وإعادة قراءة التراث الفقهي والتفسيري بعقلية معاصرة.
تحاول ناشطات النسوية الإسلامية تعريف المصطلح بطريقتهن، تقول الدكتورة أميمة أبو بكر:
" النسوية الإسلامية مشروع بحثي فكري يهدف إلى إنصاف النساء وتحقيق العدالة لهن والمكانة الإنسانية المتساوية، من خلال المرجعية الإسلامية واستلهام أو تفعيل المبادئ الأخلاقية العليا للقرآن والسنة الصحيحة" ، فكيف نحلل هذا المصطلح الدخيل؟
(النِسْوِيَّة الإِسْلامية) هُجنة المصطلح
اهتم القرآن الكريم اهتمامًا كبيرًا بقضية المصطلحات في إطار تربية العقل المسلم على النقد والتفنيد قبل القبول أو الرفض لما يرد عليه من معارف ومصطلحات، فلا يقبل إلا ما كان نافعًا متسقًا لفظًا ومعنىً مع أصول الإسلام، غير معارض لها، بل ونهى المؤمنين عن التلفظ بها إذا تبين سوء قصد قائلها، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيم"
قال الإمام القرطبي:( في هذه الآية دليل على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتقيص)
وأكّد شيخ الإسلام على هذا المعنى قائلًا:"ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث، فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها" -
كما يوضح ابن تيمية أن الأئمة الكبار "كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة؛ لما فيه لبس الحق بالباطل، مع ما تُوقِعُه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بانت معانيها" .
ومع ظهور تلك المصطلحات المضلِّلة لم يفت علماء العربية المسلمون المعاصرون التنبيه والتحذير منها، كما نقل عن شيخ العربية محمود شاكر قوله: (لا يغررك زخرف الألفاظ الوسيمة المتلألئة، مثل قولهم (الأصالة والمعاصرة – الثقافة العالمية – التقدم والتخلف) فإنما هي ألفاظ لها رنين وفتنة ولكنها مليئة بكل إيهام وزهوٍ فارغ، توغل بنا في طريق المهالك، وتستنزل العقل حتى يرتطم في ردغة الخبال).
وكما وجّه القرآن الكريم المؤمنين إلى صيانة اللسان عن النطق بالألفاظ التي يمكن أن تمثل انحرافًا في المستقبل أو تحمل في باطنها توّا هذا الانحراف، ولم يعوّل على مسألة النية بل أمر بهجر الألفاظ التي من شأنها فتح المجال لأي فساد أو تلبيس، فقد جاءت السنة النبوية بنفس التوجيه ولم تعوّل أيضاً على حسن النية، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال:"أمتهوّكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي"
(النِسْويَّة الإسْلامِية) ..فساد المضمون
تدعي النسوية الإسلامية أنها تهدف إلى إنصاف المرأة وتحريرها من خلال إعادة قراءة الموروث الفقهي والتفسيري المنحاز للرجل – بزعمهن – بعقلية معاصرة تتفق مع قيم القرآن والسنة ..!!
وعلى الرغم مما يحمله هذا الهدف المزعوم من تهجّم على التراث الإسلامي فضلًا عن عدم أهلية المنادين به للنقد والتجديد، وعدم امتلاكهم لأدوات البحث الفقهي والتفسيري، إلا أنه يبرهن على التناقض والاضطراب في هذا المصطلح الوافد، ويؤكد أن من أكبر مبررات ظهور هذا المصطلح هو محاولة أسلمة الفكر الدخيل وفرضه على المجتمعات الإسلامية فرضًا بمجرد إتْباع كلمة (النسوية) بكلمة (الإسلامية)، وقبول المصطلح بهذا الشكل غير ممكن، للبوْن الشاسع بين الإسلام والنسوية، فقد نشأت فكرة النسوية في مجتمع أوروبي غير مسلم، كانت المرأة تعاني فيه من التهميش والدونية والظلم الإجتماعي، وكان قيام هذه الحركة يمثل طوق نجاة تشبثت به المرأة الغربية وحققت بعض المكاسب في البدايات فقط قبل أن تصل (النسوية) إلى هذا الانحراف الكبير اليوم، ولو نظرنا إلى جملة المبادئ والأسس الفكرية التي قامت عليها فكرة (النسْوية) لتبين لنا ذلك، ومن أهمها:
- العلمانية: بمعنى القطيعة مع المرجعية الدينية، وقد كان لدى المجتمع الأوروبي مبررات لنشوء العلمانية، مثل استبداد الكنيسة تجاه العلماء، أيضا نظرة الكنيسة للمرأة وتقييمها لها حيث رسّخت فكرة دونية المرأة فكان ينظر للمرأة على أنها أقل انسانية من الرجل.
ولئن دلفت النِسوية من باب تغيير واقع المرأة المتردّي في المجتمعات العربية المسلمة، فلم يكن ترديها حكمًا عامًا ولم يكن بمعزل عن حال الأمة، وإنما هي جزء من نسيج المجتمع ترتقي بارتقائه، وتتردى أوضاعها بترديه
- الفردية: فالمجتمع الغربي تقوم ثقافته على تقديس حرية الفرد، وأنه لا ينبغي أن توضع قيود على حرية الفرد إلا القيود التي يرتضيها هو، ولذلك الحركة النسوية ترفض أي قيود دينية أو اجتماعية أو أخلاقية، وما دعوتها إلى الانحلال الخلقي وتقنين الشذوذ إلا الصورة المرادة لهذا الانفلات من أي قيود.
- المادية: المجتمع الغربي مجتمع مادي لا يعير اهتماما كبير للعاطفة أو المعنويات، والمرأة الأوروبية عاشت بالفعل حياة بؤسٍ وشقاء وكانت مضطرة لأن تكدح لكي تحصل على قوتها الضروري، ولذلك كان هناك انعكاس لهذا الواقع البئيس الذي عانته المرأة في المطالبات الأولى للحركة النسوية.
- مبدأ المنفعة أو اللذة: الحضارة الغربية قائمة على أن كل ما فيه تحصيل المنفعة الشخصية واللذة فهو حقٌ للفرد، له أن يحصّله بلا قيود، وانطلاقًا من هذا االمبدأ الفاسد طالبت الحركة النسوية باطلاق الحرية الجنسية وملكية المرأة لجسدها، وإباحة الشذوذ وتقنينه، في مقابل رفض الأمومة ومسؤوليات الزواج والسرة لأنها تقيد حرية المرأة وانطلاقها كيفما شاءت.
- العبثية: بمعنى عدم التسليم بالبدهيات والمسلمات ومناقضتها، مثل رفض الحركة النسوية الاعتراف بأي فروق بين الرجل والمرأة حتى الفروق البيولوجية التي خلقها الله تعالى وميز بها كل جنس عن الآخر في البشر جميعا، رفضت التاريخ وادّعت أن التاريخ ذكوري، رفضت اللغة وقالت أن اللغة منحازة للذكور..وهكذا حاولت أن تتمرد على كل البدهيات وتنقلب عليها.
أما الإسلام:
فدين الله الحق وشريعته الكاملة، التي تقوم على تحقيق المصالح ودرء المفاسد للفرد والمجتمع في كافة مجالات الحياة، قال تعالى:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا"
فهو نظام متكامل لا يقبل دخائل شرقية ولا غربية، نظام محكم يعالج كل جوانب الحياة الإجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية منضبط، ترتكز فيه كل هذه الأنظمة على محور الإيمان بالله واليوم الآخر ومركزية الوحي المطهّر (القرآن والسنة) . ولئن دلفت النِسوية من باب تغيير واقع المرأة المتردّي في المجتمعات العربية المسلمة، فلم يكن ترديها حكمًا عامًا ولم يكن بمعزل عن حال الأمة، وإنما هي جزء من نسيج المجتمع ترتقي بارتقائه، وتتردى أوضاعها بترديه، والضابط لمعنى الرقي أو التردي يحدده مدى بعد المجتمع المسلم أو قربه من تعظيم الدين واتخاذ الشريعة منهج حياة، قال تعالى:"ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" – الأعراف:96 - .
ولا نقول أن الشريعة قد أنصفت المرأة فقط ولكنها ضبطت سائر العلاقات بين المسملين رجالًا ونساءًا بقوانين الحقوق والواجبات، والمعاشرة بالمعروف، وكفلت التقاضي عند وقوع المظالم...فالحل إذن في الرجوع إلى الشريعة، وتعظيم حقوق العباد وإدراك مغبة تضييعها في الدنيا والآخرة، أما استيراد الأفكار المنحرفة بدعوى أنها ترفع ظلما أو ترد حقا فلا يستقيم أبدا.
وبذلك يتبين فساد المصطلح، وأن (النِسْويّة الإسْلاميّة) لا محل لها من الإعراب