صور من مشاورات النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه
منصور صالح حسين الجادعي


الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمَّد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنَّ للشورى أهميةً كبيرة في حياة الأمم والشعوب، وإن أيَّ نظام أو تنظيم يَنشُد الخير والفلاح، ويبحث عن العدالة والمساواة، ويتوق إلى العزة والكرامة، ويُحبُّ أن يَسود الأمنُ والاستقرار والرخاء، ويرغب في منْع الظلم والتسلُّط والاستبداد - لا بدَّ أن تكون الشورى سمْتَه ومنهجَه؛ لأن بالشورى تُكتشف الحقائق، ويَنجلي العمَى، ويُستنبَط الصَّواب، ويَصح الرأي، وتتضافَر الجهود، وتتوزَّع المسؤولية، وتقوَى شوكةُ الأمة؛ ما ذلك إلا لأنه بالشورى تَنبعث عواملُ الألفة والمودة والمحبة والتعاون والتناصُح، وتتشابك الأيدي لحل المُعضلات، وبالشورى يصل الإنسان إلى ما يصبو إليه مِن عزَّة وفلاح، وسعادة ونجاح، في أمور الدنيا والآخرة.
وبالشورى تُبنى المجتمعات الفاضِلة والدول القوية، وبالشورى يَحصُل النصر، وتُستمال القلوب، ويتعاون أهل الشورى مِن أجْل بناء الأوطان، وعمارة الأرض، وإرضاء الربِّ[1].
ولِما للشورى مِن أهمية كبيرة في حياة الأمة؛ فقد أمر الله نبيَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - بمُشاورة المؤمنين، فقال - تعالى -: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمرِ)[آل عمران: 159]، "وقد قيل: إن الله أمر بها نبيَّه؛ لتأليف قلوب أصحابه، وليَقتدي به مَن بعده، وليَستخرج بها منهم الرأيَ فيما لم يَنزِل فيه وحي؛ مِن أمْر الحروب، والأمور الجزئية، وغير ذلك، فغيرُه - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمشورة"[2].
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكثِر مِن مُشاورة أصحابه في قضايا الحروب والسِّلْم؛ حتَّى قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "ما رأيت أحدًا أكثر مُشاورةً لأصحابه مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"[3].
لقد طبَّق الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشورى تطبيقًا عمليًّا في كثير مِن المواقف والأحداث، وقد ضمنتْ هذه التَّطبيقات صورًا وألوانًا شتَّى من الشورى، ما أحوجَنا أن نتعلمها ونأخُذ منها الدروس والعِبَر! فليس كالشورى وسيلة لحشْد الجهود وتوحيد الصفوف لتحقيق أهداف الأمة.
ونحن لسْنا بصدد عرْض المواقف والأحداث التي استشار فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه؛ فهي كثيرة، ولا يتسع لها المقام، ولكنَّنا سنَذكُر بعض الأمثلة التي تُبيِّن تلك الصورَ المتنوِّعة في مُشاوَرات النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، وقد تَندرِج تحت كل صورة جملةٌ مِن الاستِشارات، لم نَذكُرها واكتفَينا بما يُوضِّح الصورة، كما أنه قد يَرى القارئ صورًا غير ما ذكرْناه، أو لا يرى ما ذكَرْناه، فهذا هو جهد الباحث وما توصَّل إليه رأيُه.
الصورة الأولى: استشارته لعامة أصحابه، وهذه الصورة حَصلتْ في وقائع كثيرة، منها:
• ما وقَع يوم بدر عِندما خرَج للقاء القافلة العائدة مِن الشام فأفلتَتْ منه، وعَلم بخروج مُشركي قريش لحرْبه، فاستشار المسلمين الذين كانوا معه، فأشار عليه أبو بكر وعمر والمِقداد - رضي الله عنهم - ولكنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُريد الأنصارَ بهذه الاستِشارة؛ رغبةً منه في مَعرفة ما في نفوسهم، هل يُحارِبون معه خارج المدينة أم يُحاربون معه داخل المدينة فقط؛ تطبيقًا لما بايَعوه عليه في العقَبة؟ فتبيَّن له - بعد أن فَطِنَ سيدُهم سعد بن معاذ مُرادَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم معه في المدينة وخارجها، وأن روابط الإيمان الراسخ أقوى مِن روابط المعاهدات، وبذلك اتَّضح موقف الأنصار جليًّا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وللمُهاجِرين الذين كانوا معه يومئذٍ، وكانت هذه الاستشارة للجَميع؛ ولكنَّها أُريد بها الأنصار[4].
• ومنها: عِندما عَلِم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ قريشًا قد جاءت لحرْبِه ووصلَتْ إلى مَشارف المدينة، فاستشار أصحابه، وكان رأيه - صلى الله عليه وسلم - الدِّفاعَ في المدينة عن المدينة، ولكن أغلبيَّة المسلمين - وخاصَّةً مَن فاتَهم القِتالُ في بدر - أرادوا الخروج إلى أُحُد ومُنازَلة المُشركين هناك، فوافَق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على رأي الأغلبيَّة، وقرَّر مُغادَرة المدينة والخروج إلى أُحُد، فكانتْ وقعة أُحُد[5].
• وفي غَزوة الأحزاب، عَلِم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن قريشًا وحلفاءها وقبائل غطفان قد خرجَتْ صَوب المدينة تُريد غزْوها واستِئصال مَن فيها، فعقد النبي - صلى الله عليه وسلم - مَجلِسًا استِشاريًّا شاوَر فيه أصحابه حول خطَّة الدِّفاع التي يَدفعون بها هذه الجيوشَ الجرَّارة، فأشار سلمان الفارسي - رضي الله عنه - بحفْر الخَندق للحَيلولة دون دخول تلك الأحزاب إلى المدينة، فوافَق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على هذا الرأيِ وباشَر تطبيقه[6].
• ومنها ما كان في غزوة تبوك، فعِندما وصَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوكَ وأقام بها عِشرين ليلةً ولم يَلْقَ جيش الروم، استشار مَن معه من المسلمين في التقدُّم شمالاً من تبوك، فأشار عمر بن الخطاب بعدم التقدُّم؛ لإمكان الاصطِدام بحشود الروم وحلفائهم المتفوِّقة على المسلمين بعُدَّتها وعَتادها، وأنَّ دُنوَّ النبي إلى المكان الذي وصَل إليه قد حصَل به المقصود مِن إفزاع الروم، فقَبِل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مشورة عُمر ولم يتجاوزْ تبوك[7].
نُلاحظ أن تلك الأمثلة كلها استَشار النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها عامَّةَ أصحابه، ثمَّ بعْد ذلك أخَذ برأيهم وطبَّق ما أشاروا به عليه.
الصورة الثانية: استشارته لأكثر مِن واحد مِن أصحابه، وهذه الصورة نَذكُر لها ثلاثة أمثلة:
• فعندما وقعتْ غزوة بدر وانتهت المعركة، وقَع في أيدي المسلمين سبعون أسيرًا من مُشركي قريش، فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وعمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - في هؤلاء الأسرى، فكان رأي أبي بكر الصديق المنَّ على الأسرى بعد أخْذ الفِديَة منهم، وكان رأيُ عُمر الفاروق قتْلَهم، فأخذ برأي بكر الصديق - رضي الله عنه[8].
• وفي غزوة حمراء الأسد عندما عَلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قريشًا قد أزمعت العودة - بعد وقعةِ أُحُد - إلى المدينة، فطلَب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر الصديق ومِن عُمر بن الخطاب المشورة، فأشارا عليه بالخروج إلى حمراء الأسد لمُطارَدة المشركين؛ خوفًا من عودتهم إلى المدينة ثانيةً ومُداهَمة أهلِها، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشورتهما، وخرَج بالمسلمين إلى حمراء الأسد[9].
• ومن ذلك ما قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - عِندما كانت الأحزاب تُحاصِر المدينة وتُريد الانقِضاض عليها، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُصالح غطفان على شيء مِن ثمار المدينة؛ لِيَنسحِبوا مِن مُساندة الأحزاب، ويَتركوه يُواجِه قريشًا وحدها، فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - سعدَ بن معاذ وسعد بن عُبادة في هذا الأمر، فأشارا عليه بعدم إعطائهم شيئًا، فأخَذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشورَتِهما[10].
نتعلَّم مِن هذه الاستشارات الثلاث درسَين؛ الأول هو: أن يدَّخر المسؤول المُستشارين مِن ذوي الأمانة والرَّأي والخِبرة والإخلاص؛ يُشاورهم في الأمور المهمَّة العاجِلة.
والثاني: هو أن يَستشير ذوي الاختِصاص باختِصاصِهم؛ فقد استشار أبا بكر الصديق وعُمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وهما مِن قريش، بأمر أَسرى المشركين في بدر، وهم مِن قريش أيضًا.
واستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة بأمر تمْر المدينة، وهما سيِّدا الأوس والخزرج مِن الأنصار، وسيِّدا أهل المدينة.
أما استِشارَة أبي بكْر وعُمر في أمْر الخروج إلى حمراء الأسد، فهما أقرب أصحابه إليه، وكانا دومًا إلى جانبه، وكان أمر الخروج إلى حمراء الأسد أمرًا عاجِلاً لا يَحتمِل الإبطاء، كما أنهما مُستشاراه المُقرَّبان ووزيراه، فاستَشارهما[11].
الصورة الثالثة: استِشارة خاصَّة لبعض أصحابه:
وهذه الصورة مثالها ما كان في حادِثة الإفك، فعندما رُميت الطاهرة العفيفة أمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بما رميت به، واستَلْبَث[12] الوحي، دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بن أبي طالب، وأسامة بن زيد؛ يَستشيرهُما في فِراق أهله، فأمَّا أسامة، فقال: أهلُكَ يا رسول الله، ولا نعلم واللهِ إلا خيرًا، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يُضيِّقِ الله عليك، والنِّساء سواها كثير، وسلِ الجارِيَةَ تَصدُقْك، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَريرةَ، فقال: ((يا بريرةُ، هل رأيتِ فيها شيئًا يَريبُك؟))، فقالت بريرة: "لا والذي بعثك بالحق، إنْ رأيتُ منها أمرًا أَغمِصه عليها قطُّ، أكثر مِن أنَّها جارية حديثة السنِّ، تَنام عن العجين، فتأتي الداجِن فتأكُلُه"، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِن يَومِه، فاستَعذرَ مِن عبدالله بن أبي ابن سلول[13].
فعليُّ بن أبي طالِب ابن عمِّه - صلى الله عليه وسلم - ومِن أهلِه، وأسامة بن زيد مولاه وحِبُّه وابن حبِّه، فاستشارهما في هذه القضية الأسرية؛ حيث إنهما مِن أسرَتِه وخاصَّته.
الصورة الرابعة: استِشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لفرد من أصحابه:
وهذه الصورة نَجِد مِثالها في غزْوَة الطائف؛ فعِندما حاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أهلَ الطائف في حِصنهم ولم يتمكَّن مِن فتْحِه، استشار نوفل بن معاوية الديلي فقال: ((يا نوفل، ما تقول أو ترى؟))، فقال نوفل: "يا رسول الله، ثعلب في جُحرٍ، إنْ أقمْتَ عليه أخذته، وإن تَركتَه لم يَضرَّك شيئًا"، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُمر وأذَّن في الناس بالرَّحيل[14].
الصورة الخامسة: مُبادَرة بعض أصحابه بتقديم مُقتَرح للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيتم الموافقة عليه:
وهذه الصورة لها عدة أمثلة، منها:
• ما كان في غزوة بدر؛ فقبْل نُشوب القتال في بدر بادَر سعد بن معاذ بمَشورة بناء العريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - لِيَكون مَقرًّا قياديًّا للمَعركة، فعَمِل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمشورة سعد، وبُني العريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - فكان فيه[15].
• وفي صُلحِ الحُدَيبية؛ حيث أشارت أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - حين أمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابةَ أن يَنحرُوا هدْيَهم ويَحلِقوا رؤوسهم، فلم يقمْ منهم أحد، فدخَل عليها فذكَر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتُحبُّ ذلك؟ اخرُجْ ثمَّ لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمة، حتى تَنحَر بُدْنك، وتَدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَج فلم يُكلِّم أحدًا منهم حتى فعل ذلك؛ نحَر بدنه، ودعا حالِقَه فحلَقه، فلما رأوا ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يَحلِق بعضًا؛ حتى كاد بعضهم يَقتُل بعضًا غمًّا[16]، فقدَّمتْ - رضي الله عنها - للنبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المشورةَ التي نجا بها أصحابُه مِن الوقوع في مُخالَفة أمرِه - صلى الله عليه وسلم -.
• وفي غزوة خيبر حاصَر النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود، فأشار الحُباب بن المُنذِر - رضي الله عنه - بقطْع النخيل؛ ليؤثِّر ذلك في معنوياتهم؛ لأنَّ اليهود تُحب النخْل، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه المشورة، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطْع النخل، فأخذ المسلمون في قطْعِها حتى أسرعوا بالقطع[17].
ولكن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أشار بالتوقُّف عن قطْع النخل؛ حيث إنَّ هذا الأمر قد أدَّى مفعوله في معنويات يَهود، ولم يَعُدْ هناك ما يُسوِّغ الاستمرار في القطع، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، إن الله - عز وجل - قد وعدَكم خيبر، وهو مُنجِز ما وعدَك، فلا تقطع النخل، فأمر فنادى مُنادِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهَى عن قطْع النخْل[18].
• وعِندما أجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجوعَ مِن تَبوك، نَفِد زاد المسلمين، فاستَأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نحْر ركابهم لِيَأكُلوها، فأَذِن لهم، ولكنَّ عُمر بن الخطاب أشار بعدم نحْر تلك الركاب؛ لصُعوبة تَعويضِها في مثل تلك الظروف الحَرِجة والمسلمون بعيدون عن المدينة، وأشار بجمْع فضْل أزواد المسلمين في مكانٍ واحِد ثم يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها بالبركة ثم تُوزَّع عليهم، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشورة عمر - رضي الله عنه[19].
الصورة السادسة: وتتمثَّل فيما كان يقوم به النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما يَنزِل بجيشه مَنزلاً يراه مُناسِبًا، فيسأله أصحابه:أهذا المَنزِل بوحْي أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فيجيب: ((إنما هو الرأي والحرب والمكيدة))، فيُشيرون عليه بتغيير المنزل إلى مكان آخَر هو أنسب، فيَقبَل مَشورَتهم، وهذه الصورة حَصلتْ في بعض الغزوات، منها:
• عِندما تحرَّك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بجيشه؛ ليَسبِق المشركين إلى ماء بدر، ويَحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل على أدْنى ماءٍ مِن مياه بدر، فقام الحُباب بن المُنذر - رضي الله عنه - وقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلَكه الله، ليس لنا أن نتقدَّمه ولا نتأخَّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة))، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمَنزِل، فانهض بالناس حتى نأتي أدْنى ماء مِن القوم - قريش - فنَنزِله ونُغوِّر - أي: نُخرِّب - ما وراءه مِن القُلُب، ثم نبني عليه حوضًا، فنملأه ماءً، ثمَّ نُقاتل القوم، فنَشرب ولا يَشربون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد أشرْتَ بالرَّأي، ثمَّ تحوَّل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالجيش إلى المكان الذي أشار به المُنذِر[20].
• وفي خيبر نزَل النبي - صلى الله عليه وسلم - بساحة اليهود، وعسْكَر المسلمون قُرْب حصونهم، فأشار الحُباب بن المنذر على النبي - صلى الله عليه وسلم - بتَغيير هذا المنزل إلى منزل أكثر أمنًا؛ حتى لا يَتضرَّر جيش المسلمين مِن سهام اليهود ووباءة المكان، فقَبِل النبي - صلى الله عليه وسلم - مَشورةَ الحُباب، وكلَّف مُحمَّدَ بن مَسلمة باختيار منزل مُناسب للجيش[21].
• وفي غزوة الطائف عسْكَر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين في مُعسكَر قريب مِن حصْن العدوِّ، فأُصيب المسلمون بجراحة، وقُتل منهم اثنا عشر رجلاً، فأشار الحُباب بن المنذر بتغيير المعسكر، فكلَّفه النبي - صلى الله عليه - بذلك، فاختار الحُباب مكانًا بعيدًا لا تَصل إليه سِهام العدو، وأصبح الجيش في منطقة آمِنة؛ بفضْل تطبيق النبي - صلى الله عليه وسلم - لمشورة الحُباب بن المنذر - رضي الله عنه-[22].
الصورة السابعة: استِشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بصورة غير مُباشِرة:
ومثال ذلك ما حصَل في سبْي هَوازِن، فعندما هُزمتْ هَوازن في حُنَين، ثمَّ غَنم المسلمون أموالَهم ونساءهم وانتَظر النبي - صلى الله عليه وسلم - هَوازن لعلَّهم يَأتُون، ولكنهم أبطؤوا، فقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - الغَنائم بين المسلمين، ثمَّ جاء أهل هَوازن مُسلمين، وطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يردَّ عليهم أموالهم ونساءهم، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فردَّ ما كان له ولبني المُطَّلب، وردَّ المُهاجِرون ما كان معهم وكذا الأنصار، وامتنع بعض مُسلِمة الفتح، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إنَّ هؤلاء القوم جاؤوا مسلمين، وقد اسْتَأْنأتُ سَبْيَهُمْ، وقد خيَّرتُهم فلم يَعدِلوا بالأبناء والنساء شيئًا، فمَن كان عنده منهنَّ شيء، فطابَتْ نفسُه أن يَردَّه، فسبيل ذلك، ومَن أبى فليرد عليهم، وليكنْ ذلك فرضًا علينا ست فرائض مِن أول ما يَفيء الله علينا)) قالوا: رَضينا وسلَّمْنا، فردُّوا عليهم نساءهم وأبناءهم[23].
"وهكذا استَشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه بصورة غير مُباشِرة وحَصيفة جدًّا في ردِّ سبْي هَوازن إلى أهليهم، دون ضغط ولا إكراه، بل بالمِثال الشخصي؛ إذ بادَر بالتنازُل عما بين يديه وأيدي بني المطَّلب مِن السبْي، فما كان من المسلمين إلا الاقتِداءُ به، والسيرُ على مِنواله، وإعادةُ السبْي إلى هَوازن؛ إكرامًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتنفيذًا لرغبته في العفو والتسامُح، وإصلاح ذات البَين، وتصفِيَة القلوب مِن الضَّغائن والأحقاد، وتوجيه المَغلوبين إلى اعتِناق الإسلام.
وتطبيق الشورى بهذا الأسلوب المُبتكَر يَدعو إلى التقدير والإعجاب؛ فهو قد عرَض الحلَّ الذي يُريده لخير المسلمين وهَوازن، الغالبين والمغلوبين؛ لجمْع الصفوف وتوحيدها، ونشْر الإسلام بالحُسنى، وإزالة آثار الحرب المادية والمعنويَّة؛ حتى لا تَبقى الأحقاد وتتصاعَد، وتزول الضَّغائن مِن النفوس، فاستجاب المسلمون القُدامى لهذا الحلِّ ورحَّبوا به، ولم يَستجِبْ له بعض المسلمين الجُدُد الذين أسلموا بعد فتْح مكة، ولم يرسخ الإسلام في قلوبهم وعقولهم بَعدُ، فعرض النبيُّ- صلى الله عليه وسلم - على الذين لم يَستجِيبوا للحلِّ الذي عرَضه تعويضًا ماديًّا يُرضيهم، فاستجاب المسلمون جميعًا للحلِّ المُقتَرح.
وتعلَّم المسلمون أسلوبًا فريدًا في الشورى، ما أحراهم أن يُطبِّقوه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً! "[24].
لقد كانت الشُّورى أساسَ النظام الإسلامي، الذي لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يَحيد عنه؛ ليُعلِّم أصحابه والمسلمين مِن بعدهم في كل زمان ومكان أهميَّةَ تطبيقِه لحاضر الإسلام والمسلمين ولِمُستقبلِهم، وقد رأينا مِن الأمثلة السابقة كثْرةَ مُشاوَرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مَن هو، فما أحوجَنا إلى تَطبيق هذا المبدأ وهذا المَنهَج في شُؤوننا كلِّها!
نسأل الله بمنِّه وكرَمِه أن يُلهِمنا رُشدَنا، ويُعلمنا ما يَنفعنا، ويَنفعنا بما علَّمنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
_______________
[1] "الشورى في الشريعة الإسلامية"، (ص: 9)؛ للقاضي حسين بن محمد المهدي.
[2] "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" (ص: 126).
[3] "صحيح ابن حبان" (11: 217).
[4] انظر: "سيرة ابن هشام" (1: 615)، و"دلائل النبوة"، للبيهقي (3: 34).
[5] انظر: "سيرة ابن هشام" (2: 63).
[6] انظر: "سيرة ابن هشام" (2: 224)، و"السيرة النبوية" و"أخبار الخلفاء"، لابن حبان (1: 255).
[7] انظر: "مغازي الواقدي" (3: 1019) و"سُبُل الهُدى والرَّشاد في سيرة خير العباد" (5: 461).
[8] انظر: "صحيح مسلم" (3: 1383) رقم (1763)، و"دلائل النبوة"، للبيهقي (3: 137).
[9] انظر: "مغازي الواقدي" (1: 326)، و"سُبل الهُدى والرَّشاد في سيرة خير العباد" (4: 308).
[10] انظر: "المعجم الكبير"، للطبراني (6: 28)، و"سيرة ابن هشام" (2: 223).
[11] "الشورى العسكرية في عهد الرسالة"، (ص: 95 - 96)؛ اللواء محمود شيت خطاب.
[12] مِن اللُّبْث، وهو الإبطاء والتأخُّر.
[13] "صحيح البخاري" (3: 173) رقم (2661).
[14] "مغازي الواقدي" (3: 937).
[15] "دلائل النبوة"، للبيهقي (3: 44)، و"سيرة ابن هشام"، (2: 192).
[16] "صحيح البخاري" (3: 196) رقم (2731).
[17] "مغازي الواقدي" (2: 644).
[18] "مغازي الواقدي" (2: 644).
[19] "السنن الكبرى"، للنسائي (8: 103)، و"مغازي الواقدي" (3: 1037).
[20] انظر: "دلائل النبوة"، للبيهقي (3: 35) و"السيرة النبوية وأخبار الخلفاء"، لابن حبان (1: 166).
[21] انظر: "مغازي الواقدي" (2: 644).
[22] "مغازي الواقدي" (3: 926).
[23] "سيرة ابن هشام" (2: 489) و"عيون الأثر" (2: 244) و"مصنف عبدالرزاق الصنعاني" (5: 381).
[24] "الشورى العسكرية في عهد الرسالة" (ص:53 - 54).