خطبة الحرم المكي - آداب وفضائل الثناء على المحسنين


الفرقان

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 2 من محرم 1444 هـ، الموافق 16 سبتمبر 2022 للشيخ أسامة الخياط بعنوان (آداب وفضائل الثناء على المحسنين)، واشتملت الخطبة على عدد من العناصر أهمها: الثناء على المحسنين منهج قرآني وسلوك قويم، وأمثلة على حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الثناء على المحسنين، وثناء السلف والتابعين على أهل الفضل، وفوائد الثناء على أهل الفضل والإحسان، وعاقبة إنكار فضل أهل الإحسان، ووجوب الاقتصاد وعدم المبالغة في الثناء.
في بداية الخطبة أكد الشيخ الخياط أن الثناء على المحسنين، والإشادة بالعاملين، والمدح للمجتهدين، منهجٌ قرآني، وهَديٌ نبوي، ومسلَكٌ تربويّ، يسلُكه أولو الألباب، ويُعرَف به الصفوةُ المخلصون، ويستمسِك به البررةُ المتقون، الذين سلِمَت صدورُهم من الغلِّ، وسَمَتْ نفوسُهم عن الصغائر، وطَهُرت قلوبُهم من السَّخائم.
الثناءَ على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم
إنهم يتلون كتابَ ربِّهم بالغداة والعشي، فيجدون فيه الثناءَ العَطِر، على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لجميل صفاتهم، وكريم فعالهم، في قوله -عزَّ اسمه-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(الْفَت ْحِ: 29).
الثناءَ على هذه الأمَّة
كما يجدون فيه الثناءَ على هذه الأمَّة، بأنَّها خيرُ الأممِ، وأنفعُ الناسِ للناس، لكونها تأمُر بما أمَر اللهُ به ورسولُه، وتنهى عمَّا نهى عنه اللهُ ورسولُه، ولإيمانها بالله، وذلك في قوله -سبحانه-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}(آلِ عِمْرَانَ: 110) الآيةَ.
الثناءَ على الأنصار
ويجدون فيه أيضًا الثناءَ على الأنصار، لمحبتهم إخوانهم المهاجرين، ولإيثارهم إيَّاهم بكل ما تحت أيديهم، ولو كانوا في أشدِّ الحاجةِ إليه، وذلك في قوله -عزَّ وجلَّ-: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}( الْحَشْرِ: 9).
الثناء في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم
وإذا نظروا في سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألفَوْا فيها حَشدًا وافرًا، وجمهرةً من النصوص الصحيحة الصريحة، في الثناء على المحسنينَ، والمدح لهم بما هو فيهم من كريم السجايا وجميل الخصال؛ فقد أثنى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الصِّدِّيق - رضي الله عنه - لسَبْقه وحُسن بلائه، وبَذله مالَه في سبيل الله، فقال في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ أمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ في صُحْبَتِهِ ومَالِهِ أبو بَكْرٍ»، وقال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «والذي نَفْسِي بيَدِهِ ما لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ، إلَّا سَلَكَ فَجًّا غيرَ فَجِّكَ»(أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه )، والفجُّ: هو الطريق الواسع بين جبلين.
الثناء على الحسن والحسين -رضي الله عنهما
وجاء في الثناء على الحسن والحسين -رضي الله عنهما- ما أخرجه الترمذي في جامعه، بإسناد صحيح، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحسنُ والحسينُ سيِّدَا شبابِ أهلِ الجنةِ»، وأثنى على أشج عبد القيس حين قدم عليه مع قومه، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة»(أخرجه مسلم في صحيحه)، إلى غير ذلك مما هو مُدوَّن في أبواب المناقب من كتب السُّنَّة النبويَّة.
سير سلف الأمة
فليس عجبًا إِذًا أن يكون لهذا المنهج القرآنيّ، والهدي النبوي، أعمقُ الآثار في نفوس سلف هذه الأمَّة وخيارها -رضوان الله عليهم-، فحَفَلَتْ سِيَرُهم بالكثير المعجِب؛ من حُسن الثناء على مَن استحقَّه بحُسن فعاله، وحلو خِصاله؛ فهذا الإمام سفيان الثوري والإمام عبد الله بن المبارك يقولان: «كان أبو حنفية أفقه أهل الأرض في زمانه»، وهذا الإمام الشافعي يقول عن شيخ الإمام مالك -رحمهما الله-: «إذا ذكر العلماء فمالك النجم، ومالك حجة الله على خلقه»، ويقول الإمام الشافعي -رحمه الله- عن تلميذه الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: «خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلًا أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل»، ويقول الإمام أحمد -رحمه الله- عن الإمام الشافعي -رحمه الله-: «ما أحد أمسك في يده محبرة وقلما إلا وللشافعي في عنقه منة»، وهذا الإمام مسلم -رحمه الله- يسأل الإمام البخاري -رحمه الله- عن حديث فيبين له علته، فيقول له مسلم: «أبقاك الله يا أستاذ الأستاذين ويا طبيب الحديث في علله»، وما زال هذا الحال شأن الفضلاء وديدن العلماء، ونهج الراسخين في العلم، في كل عصر، وفي كل مصر حتى يأتي أمر الله.
حِكَم كثيرة وفوائد جليلة
إنَّ في الثناء على المحسنين، حِكَمًا كثيرةً، وفوائدَ جليلةً؛ منها: توجيهُ الأنظارِ إلى الخِصالِ الشريفةِ، والفِعالِ الحميدةِ، التي استحقَّ عليها أهلُها الثناءَ، ومنها تثبيتُ مَنِ اتَّصف بهذه الصفات وتشجيعُه، وحثُّه على الاستدامة عليها، ومنها حَفْزُ الهِمَم، واستنهاضُ العزائمِ، بالتشويق لغيرهم ممَّن لم يتَّصِف بتلك الصفات، إلى حُسن التأسِّي وكمال الاقتداء، ومنها القيامُ بمقتضى العدل؛ إذ العدل يقتضي أنَّه كما يُذَمّ المسيءُ لإساءته، فكذلك يُثنى على المحسن لإحسانه؛ فجميلٌ أن يأخذ كلُّ امرئٍ نفسَه بهذا الخُلُق، ويتحلَّى بهذه الحِلية، وأن يُعوِّد عليه أهلَه وأولادَه، وكلَّ مَنْ يلي أمرَه، وإنَّه لَيَسِيرٌ غايةَ اليسر على مَنْ يسَّره اللهُ له، ووفَّقَه إليه، فما هي إلا كلمةٌ طيبةٌ، وهي صدقةٌ يتصدق بها المرءُ على نفسه وعلى إخوانه، فيؤجَر عليها، كما جاء في الحديث الصحيح: «والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ»، «ودعاء للمحسن»؛ أي: هي دعاء للمحسن بحُسن الجزاء، وهو عبادةٌ يُثاب عليها الداعي، كما جاء في الحديث الصحيح الذي أخرَجَه الترمذيُّ وابنُ ماجه في سننهما بإسناد صحيح، عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدعاء هو العبادة».
خُلُق الجحود والتجاهل
إنَّه لا يجني المرءُ من خُلُق الجحود والتجاهل، وكراهية الاعتراف بالفضل لأهله، والنفور مِنْ شُكر مسدي المعروف على معروفه، غيرَ أن يَصِمَ نفسَه بوصمة الحسد، ويضعها عن مراتب الأخيار، ويَقعُدَ بها عن بلوغ المعالي، وعن اللَّحاق بالسابقين إلى كل فضل، والمتقدِّمين إلى كل خير، وإنَّ في شيوع التخلُّق بهذا الخُلُق الكريم، والخصلة الجليلة، وعموم التحلِّي بها، أثرًا عظيمًا آخَر، يتجلَّى في إبراز الصورة المشرقة لهذه الأمَّة المُحمديَّة؛ إذ إنَّها تَعرِف للمحسن إحسانَه، وتُثني عليه، ولو كان من غيرها، كما تُنكِر على المسيء إساءتَه، ولو كان منها، فهذا مقتضى العدل مع الخَلْق جميعًا، وهو الذي أمَر به -سبحانه- بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الْ مَائِدَةِ: 8).
الثناء على المحسن لإحسانه
إن الثناء على المحسن لإحسانه، ليس منه المبالَغة والإسراف في المدح؛ فإن هذا هو الذي جاء النهيُ عنه في الحديث الذي أخرَجَه الشيخانِ في صحيحيهما، واللفظ للبخاري، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنَّه قال: «سَمِعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يُثني على رجلٍ ويُطريه في المِدحة، فقال: أهلكتُم -أو قطعتُم- ظهرَ الرجلِ»؛ فإن المراد بالنهي: النهي عن المبالَغة، والإفراط في المدح؛ بدليل قوله في الحديث: «يُطريه»، والإطراء يا عبادَ اللهِ: هو مجاوَزة الحدّ في المدح؛ لأنَّه -كما قال أهل العلم-: «لا يؤمَن على الممدوح في هذه الحالة أن يُداخِلَه العُجْبُ؛ لظنِّه أنَّه بتلك المنزلة، فرُبَّما ضيَّع العملَ أو ترَك الازديادَ من الخير، اتكالًا على ما وُصِفَ به، مما هو مبالَغ فيه»؛ ولذا: فإنَّ المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخَر، الذي أخرجه الإمامُ مسلمٌ في صحيحه عن المقداد - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «احثُوا في وجوه المدَّاحينَ التُّرابَ»؛ على أن هذا مَن يمدَح الناسَ في وجوههم بما ليس فيهم، وأمَّا المدح بما فيهم فلا يدخل في النهي، على أن يقول في مدحه: «أحسِبه كذا، والله حسيبُه، ولا أزكِّي على الله أحدًا».