اللسانيَّات

أ.د. عبد الحميد النوري عبد الواحد
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى


اللسانيات أو علم اللسان مثله مثل الكثير من العلوم الحديثة الأخرى، هو علم ناشئ ولد في بلاد الغرب وفي العالم على يد علماء كبار من أبرزهم فردينان دي سوسير السويسري المولد. ودي سوسير ما فتئ يتنقل بين سويسرا وفرنسا وألمانيا. وهو يحاضر في أشهر وأكبر جامعاتها. ولعلّ محاضراته الأهمّ والتي خلّدت اسمه هي التي جمعها طلبته وعلى رأسهم شارل بالّي تحت عنوان Cours de linguistique générale. ولا غرو في أن هذه المحاضرات قد ترجمت إلى كثير من لغات العالم ومن ضمنها العربيّة. بل إنها ترجمت في العربية ثلاث ترجمات لعلّ أهمّها الترجمة التي جاءت بعنوان دروس في الألسنية العامة لصالح القرمادي وآخرين.

ويقوم كتاب دي سوسير على نقد فقه اللغة أو الفيلولوجيا الغربيّة، والنحو المقارن، والنحو التعليميّ المعياريّ، ليؤسس لعلم جديد بناه على جملة من المفاهيم والتصوّرات لم تكن شائعة في مجال الألسن واللغات، وإرساء منهج جديد في النظر إلى هذه الألسن.

ولقد أرسى دي سوسير في هذا الشأن، ولحلّ قضاياه جملة من الثنائيات مثل اللغة واللسان، واللسان والكلام، والدال والمدلول، والتحليل الآنيّ والزمانيّ. ووقف عند مسائل كثيرة هامّة مثل اعتباطية الدليل والوحدة الصوتيّة الدنيا أو الفونيم والبعد الاجتماعيّ والجغرافيّ والسياسيّ للغة، ونظام أو أنظمة اللغة، والبنية الداخلية لهذا النظام، والتأثيرات الخارجية للغة، والاهتمام باللغة في ذاتها ولذاتها، وعلاقة اللغة بجملة من العلوم الأخرى.

كتاب دي سوسير مهمّ من حيث كونه يعتبر رائداً في مجال اللسانيّات، ومؤسّساً للبنيويّة الحديثة التي شاعت لا في اللسانيّات وحدها، وإنّما في علوم أخرى من نحو النقد الأدبيّ وتحليل النصوص أو الخطاب والتحليل النفسي وعلم الجناسة وغيرها.

إن نقل هذا العلم إلى البلاد العربيّة، والحقّ يقال، لاقى مصاعب جمّة، ولم يُبدأ بنقله حقيقة إلّا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي على يد طلّاب نابهين زاروا بلاد أوروبا وتعلّموا في جامعاتها، وذلك من أمثال إبراهيم أنيس وكمال محمد بشر وتمّام حسّان وغيرهم. وألف هؤلاء وأشباههم في مواضيع مختلفة تهمّ اللسانيات واللغة العربيّة، واصطدموا بحجر عثرة تتمثّل في التراث اللغويّ أو النحويّ والموقف منه. الأمر الذي أدّى إلى صراعات وسجالات كبيرة ظلت قائمة إلى اليوم.

وبالرغم من هذه الصعوبات ظلّت اللسانيّات تفرض نفسها، ومثّلت اتجاهات شتّى هي انعكاس لبعض المدارس والاتّجاهات الغربيّة نفسها. واختلف هؤلاء اللغويّون العرب المحدثون في تعاملهم مع التراث. وهم بين مؤيّد له يدعو إلى إعادة قراءته والاستفادة منه، وبين رافض له يريد الاستعاضة عنه بمناهج جديدة أو حديثة.

بيد أنّ اللسانيّات بدأت تفرض نفسها بلا منازع، وتبيّن أنها ليست نقضا للتراث أو مقوّضة لأركانه. وتبيّن أنّ لها من القدرة على معالجة مواضيع قديمة بطرق جديدة. وما أعطى الشرعيّة لهذ العلم الناشئ ليست القدرة على اقتراح حلول لبعض المشكلات فحسب، وإنّما ما حظيت به من اهتمام في مجال التدريس الجامعيّ، في الكثير من الجامعات العربيّة، وإن لم تحظ بالفوز بقسم مستقلّ لتدريس هذا الاختصاص.


ولا أحد ينكر اليوم أهميّة اللسانيّات في تحسين دراسة العربيّة القديمة أو الحديثة على حدّ سواء، أو ينكر القدرة التي عبّرت عنها في حلّ بعض القضايا مثل الترجمة والتعريب، وحلّ معضلة المصطلح، وتعليم اللغة للناطقين بها وبغيرها، ومعالجة اللغة وحوسبتها وغير ذلك.