واجبنا تجاه الوطن


فحب الوطن غريزة في كلّ النفوس السّليمة، والفطر المستقيمة، وطبيعةٌ طبعَ اللهُ النّفوس عليها، وقد اقترنَ حب الأرض بحب النفس في القرآن الكريم؛ فقال الله -عز وجل-: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ} (النساء: 66).
الخروج من الوطن أمر عسير
ولما كان الخروج من الوطن قاسياً عَسِيراً على النّفس، كان مِنْ فضائل الصَّحابة المهاجرين -رضي الله عنهم-، أنّهم ضَحّوا بأوْطانهم وهاجروا في سبيل الله، لمّا أمَرَهم الله ورسولُه بذلك، وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح: عن عبد الله بن عدي قال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفًا على راحلته- عند خروجه من مكة- فقال: «إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجتُ منك ما خَرجت».
فهذه الكَلِماتُ تَعْبِير صَادِق عنْ حُبِّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِوَطَنِه الذِي نَشَأَ فِيه، وتَرَعْرَعَ في أَكْنَافِه، وتَنَعَّمَ بخَيْرَاتِه، وأَمْضَى فِيهِ سَنَواتِ شَبَابِهِ وكُهُولَتِهِ.
قال العيني -رحمه الله-: «ابْتَلى اللهُ نبيّه بفِراق الوطن».
اللهم حبب إلينا المدينة
ولمّا علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه سيبقى مهاجراً، دعا الله -تعالى- بتحبيب المدينة إليه، كما في الصحيحين.
وهكذا كان، وفِي مَوقِفٍ آخَرَ لَه - صلى الله عليه وسلم - وهو عَائد مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، حتَّى إِذَا شَارَفَ المَدِينَةَ، أَسْرَعَ في سَيْرِهِ، وتَهَلَّلَ وَجْهُهُ بِالبِشْرِ، قَائلاً: «هَذِهِ طَابَةُ، وهَذَا أُحُدٌ، جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ».
وفي صحيح البخاري: «أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قَدِم مِنْ سَفر، فأبْصرَ درجاتِ المدينة، أوْضَع ناقته -أي أسْرع بها».
قال ابن حجر- رحمه الله-: «فيها دَلالة على فَضْل المَدينة، وعلى مشروعية حبّ الوطن، والحَنين إليه».
مفهوم الوطنية
والوطنية بهذا المفهوم الطبيعي أمرٌ غير مُسْتنكر شَرْعاً، وهذه السّعادة والفرح به، ليس بمحرّم، وكذلك الحزن والكآبة لفراقه، بل كلُّها مشاعرُ إنسانيةٌ لا اعتراضَ عليها؛ فالإسلام لا يُغيّر انتماءَ الناسِ إلى أرضِهم، ولا إلى شعوبِهم ولا إلى قبائلهم، لكن لا يجوز أنْ تكون المشاعر مفهوماً يُعارَض به الولاءُ للدّين، والأخوّة في الله -تعالى-، ونُصرة كلمة الله -تعالى.
واجبنا نحو الوطن
وهذا الوَطَن الذي نَنعِمْ بِالأَمْنِ والطُّمَأنِينَة ِ في أَكْنَافِه، ونعيش على خَيْرَاتِهِ وثَمَراتِهِ، يَحْـتِمُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَّا أَنْ يَنْهَضَ بواجِباتِه تِجَاهَه؛ فالمُواطَنَةُ أَخْذٌ وعَطَاءٌ، أَخْذٌ لِلحُقُوقِ وأَدَاءٌ لِلواجِبات، وهُو إِحْسَاسٌ بِالمَسؤولِيَّة ، وقِيامٌ بِالوَاجِبَات.
حب الوطن ليس مجرد شعار
فحب الوطن ليس مجرّد شعارٍ يرفعه الإنسان، أو يُعلقه، بل هو مسؤوليةٌ، وعمل، وإصْلاحٌ، وحب.
ويمكن أن نلخص الواجبات تجاه الوطن وحبّه بما يلي:
1- العملُ على تَحقيق توحيد الله -تعالى- في البلاد، الذي هو أعْظم ما يَحفظ الله -تعالى- به العباد والبلاد، والحرص على حمايته من كلّ شائبة تخدشه أو تُناقضة، والتحذير من الشّرك ومظاهره كلّها، صغارها وكبارها.
2- العمل على الأخذ بكتاب الله -تعالى-، حفظاً وتلاوة ودراسة وفَهماً، وعملا به ظاهراً وباطناً، والتحاكم إليه، ودعوة أهله وأبنائه وإخوانه جميعا إلى التمسك به.
3- العمل على الأخذ بالسّنة النّبوية الشَّريفة، وأحاديث المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فهي الوحي الثاني، قراءةً وتدارساً، وفَهْماً وحِفظاً، وعملاً بها، ونَشْراً لها بين الناس وتعليماً.
4- المحافظة على أمْنِ الوَطن وأمانه، وتَرك الاعتداء على أمْوال الناس وأعْراضهم ودمائهم، والتذكير بحُرمة ذلك في ديننا الحنيف.
فالأَمْنُ في الأَوْطَانِ منْ نِعَمِ اللهِ العُظْمَى على عِبادِه، ولِهذَا امتَنَّ اللهُ -تَعَالَى- بِها على أَهْـلِ مَكَّةَ، في قَولِهِ -سُبْحانه-: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْـلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (قريش).
وَسَأَلَ نَبِيُّ اللهِ إِبرَاهيمُ -علَيه السَّلاَمُ- رَبَّهُ ذلك، فقالَ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} (البقرة).
وأَنْ يَكُونَ مِنْ دُعَائِنا لِرَبِّنا في صَلَواتِنا: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا.
ومن تَحقِيق الأَمْنِ: أَنْ نَدْرَأَ الفِتْنَةَ ونَمْـنَعَ قِيامَها، وَأَنْ نَئِدَ الإِشَاعَاتِ الكَاذِبَةَ، والإِرْجَافَاتِ المُزَعْزِعَةَ، وأَنْ نَبتَعِدَ عَنْ تَرْوِيعِ الآمنِينَ، وتَخْوِيفِ الأَبْرَياءِ المُسَالِمِين.
5- السّعي في إقامة العَدل، والعَمل على تحقيقه بين الناس، كما أمر الله -تعالى-: {إنّ اللهَ يأمرُ بالعَدْل} (النحل).
وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين َ} (النساء: 135).
أي: كونوا في كلّ أحْوالكم قائمين بالقِسْط، الذي هو العَدل في حُقوق الله -تعالى-، وحقوق عباده.
ويبدأ الفَردُ بنفسه أولاً قبلَ غيرها، فلا يَظلمها بالمَعاصي والوقوع في الآثام، ولا يظلم غيره، مِنْ زوجةٍ وولد، أو جارٍ أو صديق، أو عاملٍ وخادم، والحَذَر من الظلم بشتى أنواعه.
وأَنْ يَكُفَّ الأَذَى عَنِ النَّاسِ، فيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ إِساءَتِه وأَذَاهُ، كمَا قالَ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِهِ الشَّرِيف: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ ويَدِهِ، والمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وأَمْوَالِهم». رواه أحمد والترمذي والنسائي.
6- العملُ على تحقيق الوسطية التي اختارها الله -عزّ وجل- لهذه الأمة المسلمة الوسط، بالتمسك بشرع الله -تعالى- المطهر، من غير زيادةٍ ومبالغة وغلو، ولا تفريطٍ وتساهل، والتحذير من الأعمال الخارجة عن الوسطية، من الأفراد والجماعات الضالة المنحرفة.
7- وجوب لزوم جماعة المسلمين، وترك تفريق كلمتهم، وشقّ صفّهم، خَصوصاً عند ظُهور الفتن والاختلافات، وترك الخروج عنهم بالقول والعمل، والتحذير من السعي في حُصُول الاختلاف بينهم، وهو ممّا نهت عنه نصوص القرآن العظيم المتكاثرة، والسنة النبوية المطهّرة.
8- بذل الحقوق الواجبة لولاة الأمور، التي أمَرَ اللهُ تعالى بها ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ السمع والطاعة لهم في العُسر واليسر، سراً وعلانية، في غير معصية الله، كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59).
وبذل النّصيحة لهم دُونَ تشهير، وترك التَّحْريض عليهم، والتَّهْييج على عصيانهم، فالتهييج بالقول: هوبالحثّ على الخُروج عن أمْرهم، والدَّعوة إلى نزعِ اليد من طاعتهم، أو بالعمل: وهو بالخُروج إلى الشوارع والميادين، والتظاهر والاعتصام، وتعطيل الأعْمال، والتسبب بأعمالِ الشَّغب والتّخريب في البلاد، وضياع الأمن والأمان. وغير ذلك من الواجبات التي يصعب حَصْرها.
نَسأَلُ اللهَ -تعالى- أَنْ نَكُونَ مِمَّنَ عَمَرَ الأَرْضَ والوَطَنَ والوقتَ بِطَاعَتِه وَمَرْضَاتِه، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ، والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ.


الشيخ: د. محمد الحمود النجدي