ظاهرة الانزياح
بوطاهر بوسدر
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، وبعد:
فلقد قدَّمتِ البلاغةُ العربية خدمةً جليلة للغة العربية وللقرآن الكريم، لكنها - وبعد ازدهارها - دخلَتْ في عصور الجمود والتَّكرار، مما فرض تجاوزَها في الدراسة النقدية الحديثة، ولكن هذا التجاوزَ لا يعني القطيعةَ الأبستيمولوجية مع البلاغة، بل مجرد تطوير، وهكذا أصبح الحديثُ عن الأسلوبية كبلاغة جديدة.
وقد تعدَّدت مصطلحات الأسلوبية، ومفاهيمها، وآليات اشتغالها، ويعتبر الانزياحُ مِن أشهر هذه المفاهيم التي ظهَرت مع الشِّعرية الحديثة، خاصة في الشعر؛ وذلك لأن اللغة الشعرية تختلف عن غيرِها اختلافًا كبيرًا، فاللغة العلمية مثلًا تميل للأسلوب التقريريِّ المباشر الذي تكاد تنعدِم فيه نسبةُ التأويل، مما يضع المتلقيَ أمام دلالة واحدةٍ على العموم، رغم اختلاف المتلقِّين ومستوياتهم ومشاربهم الثقافية.
إن هذا الأمر نجده معكوسًا في الشِّعر؛ حيث يعتمد الشِّعر على لغةٍ لها حظُّها من التقريرية في بعض الأحيان، لكنها إيحائية في الغالب الأعم، بل يجب أن تكون كذلك، وهي تفتح بذلك المتلقِّيَ على عالَمٍ مِن التأويلات المتعددة التي تفرضها طبيعة اللغة، سواء صوتيًّا، أو صرفيًّا، أو تركيبيًّا، أو دلاليًّا.
إن الشاعر يهدفُ إلى إبهار المتلقِّي وشدِّه لقصيدته، مستعملًا عددًا من الوسائل في تحقيق غايته، وما الانزياحُ إلا وسيلةٌ من هذه الوسائل، بل هو أشهرها وأهمها، وجامعها وبوتقتها التي تنصهر فيها؛ فالانزياح من الظواهر المُهمَّة في الدراسات الأسلوبية التي تقارب النص الأدبي عمومًا، والنص الشِّعري على وجه الخصوص، باعتبار أن النص الشعريَّ يُميِّز نفسه بالخروج عن المألوف.
وتحاول هذه الورقة المختصرة تسليطَ الضوء على الانزياح في اللغة من الناحية النظرية.
1- تعريف الانزياح لغة:
جاء في مقاييس اللغة: "الزاء والياء والحاء أصلٌ واحد، وهو زوال الشيء وتنحِّيه، يقال: زاح الشيء يزيح، إذا ذهب"[1].
وجاء في معجم اللغة العربية المعاصرة: "انزاحَ انزياحًا، فهو مُنزاح، والمفعول مُنزاحٌ عنه، وانزاح الشَّيءُ: زاح؛ ذهب وتباعد، وانزاحَ عن مقعده: تنحَّى عنه وتباعد"[2].
وهكذا؛ فالانزياحُ في اللغةِ يرتبط بالذَّهاب والتباعد والتنحي، وفي كل هذا تغييرٌ لحالة معينة وعدم الالتزام بها، وإن كانت الدلالة اللُّغوية الأولى مرتبطةً بالمكان، فإن الأمر يتوسَّع لغيره، فيقال: زاح عنِّي المرضُ أو الباطلُ: زال عنِّي.
2- تعريف الانزياح اصطلاحًا:
اشتَهَر مفهومُ الانزياح وانتشر في الدراسات النقدية والأسلوبية، وكان السببُ في الاهتمام بهذا المفهوم يرجع بالأساس إلى البحث عن خصائصَ مميزة للغة الأدبية عمومًا، والشعرية خصوصًا.
وقد تبنَّى هذا المفهومَ عددٌ مِن الباحثين والنقاد، ومنهم جون كوهن الذي يرى "أن الشرط الأساسي والضروري لحدوثِ الشِّعرية هو حصول الانزياح، باعتباره خرقًا للنظام اللُّغويِّ المعتاد، وممارسة استيطيقية"[3].
وهكذا؛ فالانزياح كما في دلالته اللُّغوية خروج عن المألوف والمعتاد، وتجاوُزٌ للسائد والمتعارف عليه والعادي، وهو في الوقت نفسه إضافةٌ جمالية يمارِسها المُبدِع لنقل تجرِبته الشعورية للمتلقي والتأثير فيه، ومِن ذلك لا يُعَد أيُّ خروج عن المألوف وتجاوُزٍ للسائد وخرقٍ للنظام انزياحًا إلا إذا حقَّق قيمةً جمالية وتعبيرية.
ويقول جون كوهن:
"الأسلوب هو كل ما ليس شائعًا ولا عاديًّا ولا مَصُوغًا في قوالبَ مستهلكة...، هو مجاوزة بالقياس إلى المستوى العادي، فهو إذًا خطأٌ مُراد".
ومن أكثر التعريفات الواردة تعريفُ فاليري، الذي قال: "إن الأسلوب في جوهره انحرافٌ عن قاعدةٍ ما".
يرى ريفاتير أن الانزياح "يكون خرقًا للقواعد حينًا، ولجوءًا إلى ما ندر حينًا آخر، فأما في حالته الأولى، فهو من مشمولات علم البلاغة، فيقتضي إذًا تقييمًا بالاعتماد على أحكامٍ معيارية، وأما في صورته الثانية، فالبحث فيه من مقتضيات اللسانيات عامة، والأسلوبية خاصة"[4].
ويرى بيار جيرو أن الأسلوب هو انزياح écart بالنسبة إلى معيار norme، وقال: إن "كل انزياح لُغوي يكافئ انحرافًا déviation عن المعيار على مستوى آخر؛ مزاج، وسط، ثقافة ...".
أما قاموس جون ديبوا، فيشير إلى أن الانزياح حَدَثٌ أسلوبي، "ذو قيمة جمالية، يصدر عن قرار للذَّاتِ المتكلِّمة بفعل كلامي يبدو خارقًا transarressant لإحدى قواعد الاستعمال التي تسمى معيارًا norme، يتحدد بالاستعمال العام للغة مشتركة بين مجموع المتخاطبين بها"[5].
3- الاهتمام بالانزياح:
رغم أن الانزياح مصطلحٌ حديث ارتبط بالأسلوبية وبالشعرية الحديثة، فإن للمفهومِ الذي يدل عليه جذورًا بلاغيةً تعودُ إلى البلاغة اليونانية، كما نجد عند أرسطو الذي كان يُفرِّق بين اللغة العادية المعروفة والشائعة، وبين اللغة الغريبة غير المألوفة، مؤكدًا أن الثانية هي اللغة الأدبية[6]؛ لأنها - كما يرى كوينتليان - تعبيرٌ عن الحركية والتجدُّد والحياة، على عكس اللغة العادية الدالة على السكون والنمطية المُمِلَّة.
أما في البلاغة العربية القديمة، فصُوَرُ الانزياح عرَفتِ اهتمامَ البلاغيين، رغم أنهم لم يعرفوا المصطلح، فإنهم بحثوا في الخروج عن القاعدة والمألوف بتسميات مختلفة تُشكِّل في النهاية علمَ البلاغة؛ فدرسوا الاستعارة، والتقديم والتأخير، والعدول، إلى غير ذلك من المباحث البلاغية.
ويُعَدُّ عبدالقاهر الجُرجاني من أبرز النقاد الذين تطرَّقوا لمواضيع تُلامِس بقوةٍ مفهومَ الانزياح بمعناه الحديث؛ حيث أَوْلَى عِنايةً خاصة للعدول، وعدَّه مِيزةً كبيرة للشِّعر.
وفي العصر الحديث اهتمَّ بعض النقَّاد العرب بمفهوم الانزياح، وعلى رأسهم عبدالسلام المسدي، في كتابه (الأسلوب والأسلوبية)، وصلاح فضل، وتمام حسان، ومحمد العمري، وغيرهم، إلا أن المُلاحَظ هو أن النقاد العرب يصطلحون على المفهومِ اصطلاحات مختلفة؛ حيث تتداخل مع مصطلح الانزياح عدةُ مصطلحات، أهمها العدول والتغريب:
♦ العدول: لغةً: هو الميل والانعراج، وبذلك فإن العدولَ في اللغة هو دلالةٌ على حياد الشيء عن وجهته وإمالته عنها[7].
أما العدول في المعنى الاصطلاحي، فهو مَيلٌ عن النظام أو الأصل اللُّغوي[8].
إنه الانتقالُ بالألفاظ في النصِّ مِن سياقها المألوف إلى سياق جديد غير اعتيادي، مما يثير التساؤلَ، ويَلْفِت النظرَ والانتباه.
وقد عدَّ أبو عُبَيدة العدولَ مِن أشكال المجاز في القرآن الكريم، بقوله: "ومجازُ ما جاء لفظه لفظ الواحد ووقع على الجميع، ومجازُ ما جاء لفظ الجميع ووقع معناه على الاثنين، ومجاز ما جاء لفظه خبر الجميع على لفظ خبر الواحد، ومجاز ما جاء الجميع في موضع الواحد...، وكلُّ هذا جائز قد تكلَّموا به"[9].
♦ التغريب: مصطلحٌ مِن أدبيات الشكلانِيِّين الرُّوس، وهو سِمَة أدبية تُميِّز النص الأدبيَّ عن غيره، وهو فعل قصدي من المبدع كما يظهر من دلالته الصرفية؛ فالمُبدِع للنص الأدبي - خاصة النص الشعري - يسعى إلى تغريب لُغَة نصِّه لصدم المتلقِّي، من خلال الخروج على ما هو معتاد؛ وذلك من أجل كسبِ تفاعُلِه مع النص، وقد كان أول ما دعا إليه الشكلانيون ضرورة تجاوز الطابع التقريريِّ للأدب، واقترحوا من الوسائل لتحقيق ذلك مفهومَ التغريب؛ أي: جعل المألوف لدى المتلقي غريبًا، عن طريق التنويعات الفنية.
ولذلك كان شلوفسكي يربِطُ هذا المفهوم بمفهومَيِ الأداة والإدراك؛ حيث يقول: "إن أداة الفنِّ هي أداةُ تغريب الموضوعات وأداة الشكل التي بها يصير صعبًا، وهي أداة تزيد مِن صعوبة الإدراك ومدته؛ لأن عملية إدراك الفنِّ هي غاية في حدِّ ذاتها؛ ولذلك ينبغي تمديدها"[10].
4- أنواع الانزياح:
يمكن تقسيمُ الانزياح عمومًا إلى قسمين: انزياح لُغَوي، وانزياح غير لُغَوي.
♦ فأما الانزياح غير اللُّغوي، فخروجٌ على السائد والعُرف في المجتمع، وخرق للتقاليد والأعراف، فهو ذو طبيعة اجتماعية وثقافية.
♦ والانزياح اللُّغوي يرتبط بالنص، وينقسم بدوره إلى نوعين اثنين:
1- الانزياح الدلالي (الاستبدالي):
وهذا النوعُ مِن الانزياح هو الأشهر والأكثر دلالةً وتأثيرًا في القارئ، يقول عنه صلاح فضل - رغم أنه يسميه انحرافًا -: "الانحراف الاستبدالي يخرجُ على قواعد الاختيار للرموز اللُّغوية؛ كمثل وضع الفرد مكان الجمع، أو الصفة مكان الاسم، أو اللفظ الغريب بدل المألوف"[11].
وهذا النوع يُعرَف في البلاغة بالصورة الشعرية أو البلاغية، ويُعَد التشبيه والاستعارة والمجاز مِن أهم أشكال هذا الانزياح الدلالي.
2- الانزياح التركيبي:
يرى صلاح فضل أن هذا النوعَ مِن الانزياح يتصل "بالسلسلة السياقية الخطية للإشارات اللُّغوية، عندما تخرج على قواعد النظم والتركيب؛ مثل الاختلاف في ترتيب الكلمات"[12].
فإذا كانت اللغةُ تفرِضُ نمطًا أو قانونًا تركيبيًّا مُعينًا، فكل خروجٍ عن هذا القانون يُعَدُّ انزياحًا تركيبيًّا، سواء كان الخروج يَمَسُّ ترتيب السلسلة الكلامية؛ أي: التقديم والتأخير؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ [مريم: 40]؛ ففي الآية تقديم الجار والمجرور (إلينا يرجعون)؛ لإفادة القصر؛ أي: لا يرجعون إلا لله، أو الحذف، أو كان يمس نظام اللغة النَّحْوي.
وتجدر الإشارة أن هذينِ النوعين من الانزياحاتِ لا يمكن الفصلُ بينهما دائمًا، بل قد يتداخلان ويترتب أحدهما عن الآخر.
وخلاصة القول:
إن الانزياح ظاهرةٌ مُهمَّةٌ في اللغة العربية؛ فهو وسيلة لتوسُّعها، وأداة فنية وجمالية عرَفَتْها اللغة منذ القديم؛ حيث نجد أن العرب قديمًا تنبَّهوا للظاهرة، ولو بمصطلحات أخرى أهمُّها العدول؛ كما نجد عند ابن جني، وعبدالقاهر الجرجاني، والقاضي الجرجاني، وابن رشيق القيرواني، وغيرهم.
وفي العصر الحديث ظهر مفهومُ الانزياح، سواء عند العرب أو عند الغرب، بمصطلحات كثيرة؛ كالانحراف، والميل عن القاعدة، والتغريب، والجسارة اللُّغوية.
وقد ارتبط الانزياح بالدراسة الأسلوبية؛ حيث عرَّف بعضُهم - ومنهم فاليري - الأسلوبَ بأنه انحراف عن قاعدة، وانزياحٌ عن قانون أو عرف لُغَوي، وخروج عن المألوف، وخرق للسائد، إلا أن الذي يجب الاتفاق عليه هو أن الانزياح يتطلب أن تكون له دلالة، وأن يحقِّق إضافة جمالية للغة، وإلا فهو مجرد شذوذ لغوي لا يقدِّم ولا يؤخِّر، ويعتبر جون كوهين مِن أشهر المشتغلين على مفهوم الانزياح.
إن الانزياح يظهر في اللغة في شكلينِ اثنين تتولَّد منهما مجموعةٌ مِن الأشكال والتجليات الانزياحية في اللغة:
فالأول هو الانزياحُ الدلالي الذي يرتبط بالصور البلاغية؛ كالاستعارة والتشبيه والمجاز؛ ولذلك يمكن تسميتُه بالانزياح التصويري.
والثاني هو الانزياح التركيبيُّ الذي يرتبط - كما سبقت الإشارة - بالتركيب والنحو والمعجم وما يتصل بهما.
-------------------
[1] ابن فارس، مقاييس اللغة، دار الفكر، 1979، ج3، ص39.
[2] أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، عالم الكتب، ط1، ج2، ص1014.
[3] إسماعيل شكري، نقد مفهوم الانزياح، مجلة فكر ونقد، العدد 23، نونبر 1999.
[4] عبدالسلام المسدي، الأسلوب والأسلوبية، الدار العربية للكتاب، ط3، 103.
[5] سامية محصول، مجلة دراسات أدبية، العدد الخامس، فبراير 2010.
[6] محمد ويس، الانزياح من خلال الدراسات الأسلوبية، المؤسسة الجامعية للدراسات، 2005، ص 82.
[7] الفراهيدي، معجم العين: مادة (عدل).
[8] عبدالحميد هنداوي، الإعجاز الصرفي، ص141.
[9] أبو عبيدة، مجاز القرآن، مكتبة الخانجي، القاهرة طبعة 1381 هـ، ص18 - 19.
[10] نظرية التلقي، روبرت هولاب، ص 20. عن الطيب الرحماني، مجلة أدب وفن الإلكترونية
[11] صلاح فضل، علم الأسلوب ومبادئه وإجراءاته، دار الشروق، القاهرة، 1998، ص 212.
[12] المرجع نفسه، ص 211.