إقصاء ما لا يقصى


د. هادي حسن حمودي






يا ليت مَنْ يبتكر ما يحسبه جديدًا من القول أنْ يبتكر مصطلحًا ملائمًا له، بلا حاجةٍ لإقصاء ما لا يُقصَى.
♦♦ ♦♦ ♦♦

حين يخترع مخترعٌ جديدًا مِن المخترعات يضع له تسميةً تناسبه، وكذلك في فنِّ القول، فكلما ظَهَر تغيير في الشِّعر، مثلًا، رافَقَه مصطلح جديد، فحين ابتَكَرَ الأندلسيون شعرًا مغايرًا للموروث، أطلَقوا عليه تسمية (الموشَّح)، وحين ظهر في القرن التاسع عشر لونٌ جديد منه أطلقوا عليه تسمية (البند)، ومصطلحات غيرهما لغيرهما مِن كلِّ تطوير أو تغيير، وذلك حين كانت الأُمَّة تُغذِّي حضارات العالَم بآدابها وفكرها وقوَّتها، وثقة أبنائها بأنفسهم وبجميل موروثهم.

وجميع الثقافات تحترم مصطلحاتها، ولكنْ ظهر في الأزمنة الحديثة في بيئاتنا العربية مَن عَمِل على إقصاء الشعر الجدير بصفته، وتشعير ما لا شِعْر فيه، ولو اكتفى بالثانية لهان الأمر، أمَّا أنْ يلغي الشِّعر الجدير بصفته ويدعو إلى إزالته وإسقاطه، فيستحق منا محاورة بعض ما جاء في نصِّه الذي يروم تبرير ذلك الإقصاء:
1- قال كاتب النصِّ: (من جلاميد الصخر في شعر امرئ القيس إلى ألوان قوس قزح في أداء شعرائنا المعاصرين، أحسست أنَّ الشِّعر يغادر عصر المطوَّلات إلى عصر الومضة، تلك التي تظهر فجأةً لتختفي سراعًا، تاركةً المتلقِّيَ يتيه فاغرًا فمَه نشوةً واندهاشًا في عالم مسكون بالسِّحر والتداعيات).

فأولًا كان عليه أن يقول: سريعًا، لا سراعًا؛ فهذا للجمع لا للمفرد، وقوله: "يتيه" خطأ؛ لأن معناه يفتخر، وهو أراد الضياع فكان عليه أن يقول: "يتوه"؛ أي: يضيع؛ ذلك أنَّ الافتخار لا علاقة له بالاندهاش.

وثانيًا: يبدو أنه لم يلتفت إلى أنَّ المطوَّلات - كما يسمِّيها - ما تزال تَلقى الإعجاب والإكبار، وليكن معلومًا أنَّ الشِّعر الجدير بصفته يتطوَّر بعبقريةِ قائليه على وفق أصوله.

2- ثم يُصدر حكمه القضائيَّ الإقصائي بقوله: (إنَّ كل تروس ماكنة الحياة تضاعف مِن دورانها الآن... واهمون جدًّا أولئك النقاد الذين فاتَهم أنَّ الشِّعر أول مَن أعْلَن براءته من عقدة الجغرافيا، كما إنه أول مَن أعلن تمرُّده الناضج على حدود الزمان، وإنَّ الشاعر الذي يستورد حنجرةَ غيرِه هو عصفور خشبيٌّ يتجمَّد على غصن ميت).

نترك له التمرُّد الناضج، وعقدة الجغرافيا، فلا سبيل للحوار بشأنهما، ونقول: إنه أصاب وأخطأ؛ أصاب؛ لأنَّ قائلي النصوص التي يدافع عنها قد استوردوا حناجر غيرهم، وكان استيرادهم لها مشوَّهًا؛ فقد أصاب التكلُّس تروسها (حسب تعبيره).

نقرأ من قصيدة لأحدِ روادهم:
(على ناصية الرصيف،
جلس،
على بُعد مقعدين،
جلس،
لم ينظر نحوي،
لم يتطلَّع نحوي،
أخرج سيجارة،
أشعلها،
رشف رشفة من فنجانه،
ضاع الدخان،
تلاشى،
ورحل، من غير أنْ ينظر نحوي).

أليست هذه حنجرة الفرنسي جاك بريفير، بعد تقطيع أوتارها الصوتية ذات الإيقاع الشعريِّ المعروف في الشِّعر الفرنسي؟
وأخطأ لأنَّ لكلِّ جغرافيَّة ثقافية شِعرَها، وحين ينتقل بالترجمة إلى ثقافةٍ أخرى، فغالبًا ما يفقد وزنه وعَروضه، ومِن هنا انتشَرَ الوهم بأنَّ شِعر الجغرافيات الأخرى بلا وزنٍ ولا عَروض ولا إيقاع منغَّم؛ ذلك أنهم قرؤوه مترجَمًا فأَفْقَدَتْه الترجمة وزنه العروضيَّ وإيقاعَه الشعريَّ، فهوَّم المهوِّمون في سراب الكلمات.

وأذكر أنَّ طالبًا إنكليزيًّا كان يحضِّر رسالةً جامعيَّة للدكتوراه، عَرَض عليَّ - قبل سنوات - مشروع رسالته الجامعية التي يقارن فيها بين عَروض الأشعار الشرقية: العربية والفارسية والأرمنية والتركية، وصعوبة المحافظة على أوزانها العَروضية حين ينقُلها إلى لغةِ رسالته الجامعية، وقرأ لي ترجمته لقصائدَ تركيَّةٍ وأرمنية، بعضها من أداء جوني كاش، منها قصيدة (كلب عجوز)، وغلوريا اسطيفان التي أولها (لا يوجد حب جديد لديَّ)، لم يستطع المحافظة على وزنها وموسيقاها، وسأل النصيحة بهذا الشأن.

وكان بيننا حوار: أيهما أكثر صوابًا - في حال الترجمة -: الاحتفاظ بمعنى الشِّعر المترجَم، أم التضحية بالمعنى لصالح أوزان اللغة المترجَم إليها؟
وقادَنا الحوار إلى الموازنة بين عدَّة ترجمات لرباعيات الخيَّام من الفارسيَّة إلى العربية، ثم إقران ترجمة الصافي وترجمة رامي؛ فقد حاول هذان الشاعران وغيرهما مِن شعراء العربية ترجمة تلك الرباعيات بموجب تفعيلات الشِّعر العربيِّ، واختلف بعضهم عن بعض في مدى الاقتراب من المعاني التي أرادها عمر الخيَّام، وفي اختيار الإيقاع العروضيِّ، واختلافهم به، وأسباب ذلك.


وعرض عليَّ نصوصًا عربيَّةً مِن تشعيرِ ما لا شِعْر فيه، متسائلًا عن أوزانها العروضية، ولمَّا بيَّنت له افتقادها للأوزان الشعريَّة، قال: لو تركوا الصفحة بيضاء لكان أفضل لهم؛ مستشهدًا بقصيدةٍ للشاعر التشيلي نيكانور بارا، في هذا المعنى، وهو قول سمعت نظيره مِن غيره كثيرًا.


وما كنت أستطيع أنْ أصارحَه بأنَّ تزييف مصطلح الشعر ينسجم مع طبيعةِ هذه الفترة التي تحتفل بتزييف المصطلحات في سائرِ جوانب الحياة حتى صار النابل حابلًا، والحابل نابلًا، ثم اختلط الحابل بالنابل... إلى آخر آخره، وأمَّا معنى الحابل والنابل، فلك أنْ تعود إلى كتب الأمثال ومعجمات اللغة العربية.

وهذا كله لا يعني الافتئات على جميل القول، حديثًا كان أم قديمًا، وإنما دعوة ذات شقين:
أ- لا وجه لإسقاط الشِّعر العربيِّ بعَروضه وصُوَرِه، ولا أنْ يُستبدل به هذا الجديد من النصوص؛ فلمصطلح الشِّعر حدودُه، فلا شِعر بلا عَروض، أو إيقاع شعريٍّ، وصور شعرية، بغَضِّ النظر عن تسويق نصوص لا تمتُّ إلى الشِّعر بِصِلَة حتى لو كانت على نظام الشطرين.

ب- على كاتبي هذه النصوص الجديدة أنْ يبتكروا لها مصطلحًا يلائمها، إنْ أنفوا أنْ يُطلقوا عليها مصطلح النثر الفنيِّ، أو ما شابَهَه؛ احترامًا للمصطلح وحدودِه، واحترامًا لجمهوره الذي يتزايد بارتقاء المستوى الثقافيِّ.
وهو المأمول والمرتجى.


[1] د. هادي حسن حمودي: أستاذ جامعي عراقي - لندن.