حب الخير للآخرين


إن دين الإسلام سعى إلى تربية المسلمين على مكارم الأخلاق ومحاسنها، للفوز بالجنة وأعلى درجاتها، فجعل من علامة كمال الإيمان أن يحب المسلم الخير للآخرين كما يحبُّه لنفسه، فعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» [1]، والمعنى: "لا يكْمُل إيمانُ أحدِكم حتى يحبَّ لأخيه في الإسلام مثلَ ما يحب لنفسه"[2].

وهذا الحديث يُعتبَر ميزانًا يَعرف به المؤمنُ قدْر إيمانه، فمنْ يحبُّ الخير للآخرين، بحيث يُحبُّ لهم الصلاح والهداية، والحياة الطيبةَ السعيدة، ويفرحُ إذا أصابهم خير، ويَحْزنُ إذا أصابهم شرٌّ، ويسعى إلى إدخال السرور عليهم، فهذا مؤمن كامل الإيمان.

وأمَّا مَنْ يحبُّ الخير لنفسه فقط، فيحزن إذا رأى أخاه أصابته نعمة، ويفرح إذا نزلت عليه مصيبة؛ بل قد يسعى إلى إفساد سعادة الآخرين وفرحتهم، فهذا مؤمن ناقص الإيمان؛ لأن من كمال الإيمان أن تحبَّ الخير للآخرين كما تحبُّه لنفسك.

معاشر الصالحين، كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كاملَ الإيمان، وكان يحبُّ لقومه أن يكونوا كذلك، فكان يحزن حزنًا شديدًا على الذين يرفضون الاستجابة لدعوته، فخاطبه الله تعالى قائلًا: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، فاللهُ سبحانه يدعو رسوله ألَّا يُتعِبَ نفسه ويُحزنَها، فما عليه إلا البلاغ؛ لكنَّ حِرْص رسول الله صلى الله عليه وسلم على هداية قومه، نابعٌ من حُبِّه الخير للآخرين[3].

وكان الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم- يحبُّون الخير لإخوانهم، وتَهُمُّهُم سعادتهم وراحتهم، فعندما نزلت آية تحريم شرب الخمر، جاء أناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن مصير إخوانهم المؤمنين، الذين ماتوا أو استشهدوا قبل تحريم الخمر، خوفًا من أن يكون مصيرُهم إلى جهنم، وهنا أنزل الحق سبحانه وتعالى قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] ففرحوا لَمَّا علموا أن الله تعالى لن يعذبَ إخوانهم على ما شربوه من الخمر قبل التحريم.

ولما أسلم الوليدُ بنُ الوليد، ونال شرفَ القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى ما في حياة الإسلام من الخير والسعادة، والراحة والطمأنينة، أَحبَّ هذا الخيرَ لأخيه - خالدِ بن الوليد- فكتب إليه رسالةً يخبره بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنه، ويأمره فيها بأن يعلنَ إسلامه، ليستدرك ما فاته من الخير الكثير، فلما قرأ خالد رسالة أخيه، تأثر بها، وشرح الله صدره للإسلام، وخرج مهاجرًا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم[4].

وهذا عبدالله بن عباس رضي الله عنه يقول: "ما نزل غيث بأرض إلا فرِحت بذلك، وليس لي فيها شاة ولا بعير، ولا سمِعتُ بقاضٍ عادلٍ إلا دعوت الله له، وليس عنده لي قضية، ولا مررتُ بآيةٍ من كتاب الله إلَّا أحببت أن يعلم الناس منها ما أعلم"[5].

هذا الصحابي الجليل يفرح بكل خيرٍ يُصيب المسلمين في كل مكان، ويحمدُ الله تعالى عليه، وكأن هذا الخير أصابه هو.

أيها الإخوة المؤمنون، من تطبيقات هذا الحديث الشريف أن نجاهد أنفسنا ونحبَّ الخير لجميع الناس، فإذا غابَ أحدُنا تَفقَّدناه، وإذا مرضَ عُدْناه، وإذا احتاج ساعدناه، وإذا افتقرَ أعَنَّاه، وإذا أخطأ نصحناه، وإذا كان في شدة أو ضيق جعلنا أنفسَنا مكانه ورحمناه، لأن {مَثَل الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ الواحد} [6].

ومن تطبيقاته ألَّا يتعرض المسلم لنساء وبنات المسلمين، بتحرُّش أو أذًى، أو استغلال أو اعتداء، فقد نصَح النبي صلى الله عليه وسلم أحد الشباب قائلًا: «أتحبُّ الزنا لأُمِّك؟ ولأختك؟ ولابنتك؟ ولعمَّتك؟ وخالتك» ؟، فقال: لا يا رسول الله، فقال له: «وكذلك الناس لا يحبُّونه لأمهاتهم وأخواتهم وبناتهم وعماتهم وخالاتهم» [7].

ومن تطبيقاته ألَّا نظلم اليتامى بأكل أموالهم، والله تعالى يقول: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 9]؛ أي: أنْزِلوا أنفسكم منزلةَ هؤلاء، فكما تكرهون أن يستوليَ الناس على أموال أولادكم بعد موتكم، فلا تأكلوا مال هؤلاء اليتامى[8].

ومن تطبيقاته أن يكره المسلم لأخيه كلَّ ما يكره لنفسه، وهذا يجعلنا نترك مجموعةً من الصفات السيئة؛ كالغيبة والنميمة، والتكبُّر والكذب، والحسد والحقد، والغش في المعاملات المالية، وغيرها من الصفات التي نكره أن يعاملنا الناس بها.

إن تطبيق هذا الحديث في حياتنا، يحقق لنا خيرًا كثيرًا، ويدفع عن مجتمعنا شرًّا كبيرًا، فاللهم اجعلنا ممن يحبُّ الخير للآخرين.
إنَّ حبَّ الخير للآخرين نعمةٌ عظيمةٌ من الله سبحانه، ويكفي هذه النعمة شرفًا ومنزلةً، أنها من الأعمال الجليلة، الموجبةِ لدخول الجنة، يقول رسول الله: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ» [9]؛ أي: يعاملهم كما يحبُّ أن يعاملوه به.

وقد بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة الكِرام بالجنة ثلاث مرات، وعندما سُئل عن سبب هذه البشارات قال: «إِنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي غِلًّا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَحْسُدُهُ عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ» [10].

فالمسلم كلما كان محبًّا الخيرَ لإخوانِه في الدنيا، فيفرحُ لفرحهم، ويحزن لحزنهم، يجازيه الله بالخير في الآخرة، ويُدخلُه الجنةَ دارَ كرامته، {فَـهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] فاللهم إنا نسألك قلوبًا سليمة، وصدورًا نقية يا رب العالمين.

اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

[1] رواه البخاري.
[2] شرح النووي لصحيح مسلم.
[3] تفسير الشعراوي (بتصرف).
[4] يُنظَر: مغازي الواقدي.
[5] ينظر: حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني.
[6] صحيح مسلم.
[7] مسند الإمام أحمد.
[8] التحرير والتنوير لابن عاشور (بتصرف).

[9] صحيح مسلم
[10] سنن النسائي
______________________________ _______________________
الكاتب: محمد بن أحمد زراك