التصور الإسلامي للفن


أ. د. عبدالحليم عويس


لا ينطلق الفنُّ الإسلامي من رؤية فنِّية مصلحية أو جمالية فحسب، وإنما ينطلق من رؤية إسلاميةٍ تعبِّر عن حقيقة التوحيد الذي هو جوهر الإسلام، وتعبر بالتالي - من خلال أُطر مختلفة - عن نظرة الفنَّان المسلم للعَلاقة بين السماء والأرض، والعَلاقة مع الكون والإنسان؛ ولهذا ينطلق الفنَّان المؤمن في عملِه بثقة لا نهائية في العون الإلهي، الأمر الذي يتجاوزُ به مرحلةَ التقليد ودور المحاكاة، ليندفع بقوَّة نحو تحقيقِ غايةٍ نبيلة هي القرب من الله تعالى، وتحقيق التواصل بين النسبي والمطلق، والدنيا (الشهادة) والآخرة (الغيب).

وكلَّما تجرَّد الفنانُ مِن العلائق الحسِّية.. وتمسَّك بالعروة الوثقى - تكامل عمله، وازدادت أمامه الرؤيا وضوحًا وشفافية، واهتدى إلى كشف عَلاقات جمالية متخفية عن الإدراك الحسي؛ مما تعدُّ طفرةً لم يكن ليحظى بها عن طريق آخر[1].

إنَّ تجاوز الفنان الإشباعات الحسية، وعدم تكالبه الغائي على الأماني الكاذبة، والأحلام المتهافتة، يعطي لعمله - بطبيعة الحال - نفحةً من الحقيقة السرمديَّة الرائدة، تتجلَّى فيها بعض الصور الجمالية المسطَّرة في السِّجل الكوني الرحيب؛ فيحظى الفنان بعطائه بلا حدود ولا قيود، ويملأ زادَه بما تيسَّر له من معاني الحكمة المبدعة والجود الإلهي[2].

إن مفهوم الفن الإسلامي جد مختلف عن مفهوم الفنون الحديثة التي تهتم بالصور المجسمة فحسب، والصورة - كما سبق الإشارة - لا تغذِّي وجدان المتذوِّق بمزيد من العلم والمعرفة، بل - على العكس من ذلك تمامًا - تُثير مزيدًا من القلق والوَجس والريبة؛ بما تبرزه من نماذج ذاتية غريبة، وما توقظه في رسمها من غرائز عدوانية ووحشية[3].

والفنان هنا لا يتحدَّى ولا يتمرَّد؛ لأنه يعلم أنه لن يرقى إلى مرتبة الخالق المبدِع، إنما حسبه أنه يستخدم موادَّه الفنية في الطبيعة بذوقٍ فائقٍ، وقدرة على التشكيل؛ ليخرج لنا منها آخر الأمر أشياء نافعة وجميلة، تشهد بالإتقان والمثابرة والإخلاص في تصوير وتناسق وروعة الخلق الإلهي.

ويتمثَّل ذلك واضحًا في الخطوط والنقوش والزخارف والرسوم والألوان على المصاحف والمساجد والأبنية والأوعية والبُسُط ورسوم الدواب[4].

وأيضًا فإنَّ الفن المعماري الإسلامي لا يقلُّ شيئًا عن الخطِّ والكتابة؛ إذ تدور حوله جميعُ الفنون؛ بما تُبرِزه مِن مقدرة على ربط الصِّيَغ الجمالية بعضها ببعض في وحدة وانسجام وتناسق تام، فلا فرق في التصوُّر الإسلامي بين ما هو تجريدي ومادِّي في جوهر التصور؛ ولذلك فالنجارة والحدادة وصناعة الزجاج المختلف الألوان، والأواني والثرايا، وفن الزخرفة والنقش والنحت، ليست فنونًا بسيطة، أو دُنيا كما يصورها الفن الأوروبي؛ إنما هي - بالإضافة إلى نفعها المباشر للإنسان - ذاتُ صلة وثيقة بممارسة الإنسان لقدراته وإظهار مواهبه التي وهبه الله إياها، وبتحقيقه الرسالة الإلهية الاستخلافية المنوطة به.

وإن الأدوات التي يستعملها الفنَّان في الزخارف والنقش والنجارة والنحت تبدو للعيان بسيطةً، إلا أن عمله في النهاية عظيمٌ للغاية، يشهد به مَن رأى بيتًا من بيوت الله تعالى.

إنَّ السبب الخفيَّ للتكاملِ الفني في الأَبْنِية والقباب الإسلامية إنما يرجع أولًا وأخيرًا إلى الإسلام بصفة عامة، والتوحيد بصفة خاصة[5].

فالفن الإسلامي بهذا المعنى توحيدي، يستشف أصوله من الإسلام ذاتِه، ويستقي مادته من الكون الرحيب؛ فلا يعترف بالأهواء ولا بالمسميات المستحدثة الغامضة، ولا يدَّعي مصطلحات أنانية؛ كالاختراع الفردي، والخلق الفني، والابتكار من العدم، والعبقرية الخالدة، والعمل الفني الأوحد؛ إلى غير ذلك من المصطلحات الفنية غير الدقيقة[6].

وذلك التصوُّر الفلسفي للفن الإسلامي ينتظم ما هو إبداع قولي أو عملي، وما هو فن يتَّصِل بالكلمة، وما يتصل بالفعل، وما يتصل بالنظري التجريدي، وما يتَّصل بالصناعي أو الحرفي، وما يتصل بالرسم أو الشعر، أو الخط أو الزخرفة، أو المعمار أو الصناعة بشتى أشكالها، على قدرٍ سواء.

وذلك كله ينبع مِن نظرة الإسلام التوحيدية من جانب، ونظرته الشمولية من جانب آخر؛ فالمادة والمحسوس، والروح والمجرد، وعالَمَا الغيب والشهادة، والإنسان والكون، والصلة بالخالق العظيم، كل ذلك يتناغم وينسجم ويتكامل في تصور الفنان المسلم وفي إبداعه.

وإذا أدركنا ذلك؛ إذا أدركنا أن الفن هو: محاولة البشر أن يصوروا حقائق الوجود وانعكاسها في نفوسهم، في صورة موحية جميلة، وأن مكان الفنان والفن يتحدَّد بمدى المساحة التي تشملها الحقيقة التي يشير إليها العمل الفني، أو يرمز لها من كيان الكون - إذا أدركنا ذلك فقد أدركنا في ذات الوقت أن الفن الذي يمكن أن ينبثق عن التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، هو أرفع فنٍّ نستطيع أن تنتجه البشرية.

إن الإنسان في نظرِ الإسلام ليس شقينِ منفصلينِ: شقًّا أرضيًّا (يعمل)، وسماويًّا (يتعبد)؛ وإنما العبادة عمل، والعمل عبادة، والإنسان بشقَّيْه شيء واحد؛ لأنه منذ مولده الأول قبضةٌ من طين الأرض، ونفخة من روح الله، ممتزجتانِ غير منفصلتين، ومن ثَمَّ فليس شيء في كيانه منفصلًا عن بقية الكيان، الروح والعقل والجسم، والعمل والعبادة، والدنيا والآخرة، كيان واحد[7].

وكل عمل يقوم به الإنسان صادرٌ عن كيانه كله، وكل لحظة من حياته هي للدنيا والآخرة في آنٍ واحد، ومِن هنا لا تنقسمُ الأعمال إلى قسمين: قسم لقيصرَ، وقسم لله تعالى، وإنما تكون كلُّها لله، ولا تكون هناك بالتالي نظرياتٌ اقتصادية، ولا نظريات اجتماعية، ولا تنظيمات أرضية منقطعة عن الله.

وهذا الكون لا يعلم سرَّه إلا خالقه: لِم خُلق؟ كيف خلق؟ متى خلق؟ كم يظل قائمًا؟ كيف يصير حاله غدًا بعد آمادٍ متطاولة من الزمان[8]؟
وأول ما يَلفِتُ الحسَّ في الجمال أنه (نظام)، ولكنه ليس (ضرورة)، ولهذا النظام - كما يبدو في صفحة الكون - مظاهرُ متعدِّدة؛ منها: الدقة، والتناسق، والتوازن، والترابط، وخفة الحركة، رغم ثقل الأوزان.

الدقَّة العجيبة المذهلة التي لا تختلُّ قِيد شعرةٍ في هذا الفضاء العريض، الدقة المضبوطة لا باليوم ولا بالساعة، ولا بالثانية، ولكنها مضبوطة بسرعة الشعاع الذي ينطلق بسرعة 186000 ميل في الثانية.

فهذا الكون الذي يشتمل على بلايين البلايين من النجوم، كلها متحرِّكة لا تفتُرُ عن الحركة لحظةً واحدة منذ الأزل السحيق الذي لا يُدرِك عقل البشرية مداه، هذا الكون قائمٌ على التوازن والترابط والتناسق؛ بحيث لا يصطدم فيه نجم واحد بنجم، ولا يحدث الخطأ في مدار واحد من مداراتِه التي تُعد بالبلايين، وتلك دقة معجزة لا يقدر عليها غير مبدعٍ واحد للكون، الواحد الْفرد الذي ليس له شريك، وهي دقة جميلة بلا شك، تَبْدَهُ الحسَّ وتَهُزُّه من الأعماق[9].

وكل ما في الوجود مهتدٍ إلى الله تعالى، سائر على هداه: ﴿ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه: 50]، ليست هذه (حقيقة روحية) فحسب؛ تدركها الروح الواصلة، المتصلة بضمير الوجود، الشاعرة بوحدة الاتجاه ووحدة العبادة، وأن كل شيء يُسبِّح بحمده، ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ [الإسراء: 44]، ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾ [الرعد: 13] - بل هي حقيقة روحية، تدركها الروح الواصلة، وهي كذلك (حقيقة علمية) تسير على القانون الذي أراده الله؛ فأي فلك من الأفلاك لا يجري على مزاجه الخاص، بل هو خاضع لناموس الخلق، وأي كائن من الكائنات لا يستطيع أن يسير إلا على الفطرة التي فطره الله عليها...

ومن خلال هذه الفطرة التي أصَّلها الإسلام للفن، ووجَّه إليها الفنان المسلم، نستطيع أن نقول: إن ظهور الإسلام، وفقه المسلمين به، قد حوَّل نظرة الإنسان إلى مظاهر الجمال الأسمى والأكثر رقيًّا وخلودًا مما عرَفه من قبل؛ من جمال في ظاهر الأشياء وباطنِها، وبذلك تحوَّل مِن مجرد النظرة إلى الاهتمام بالجوهر والباطن، ومن الاتجاه للارتقاء بالقيم وراء المطلق إلى الارتقاء من الحسي إلى المعنوي، ومن المادي إلى الروحي؛ فهو يتأمَّل الكون من حوله، ويشعر بضآلته أمامه، وبنعمة استخلاف الله له، وبالإضافة إلى رؤيته لهذا التنوُّع الحيوي للكائنات والأشياء والموجودات، يندفع إلى التدبُّر والتفكير في لا محدودية الكون [10].


[1] د/ حسن الشرقاوي، نحو منهج إسلامي علمي، دار المعارف بمصر 1978، ص (257).

[2] ينظر في موضوع الفنون في الحضارة الإسلامية: عباس محمود العقاد: أثر العرب في الحضارة الإسلامية، ص (61 - 65).

[3] حسن الشرقاوي: المرجع السابق، ص (261).

[4] المرجع السابق، ص (262).

[5] المرجع السابق ص (264).

[6] المرجع السابق ص (265).

[9] المرجع السابق، ص (86).

[10] عماد الدين خليل: مرجع سابق، ص (24، 25).