شهر صفر بين الجاهلية والإسلام


شهر صفر هو أحد الشهور الإثنى عشر الهجرية، وهو الشهر الذي بعد المحرم، وقد جاء في سبب تسميته بهذا الاسم أقوال، منها: أنه سمِّي بذلك لإصفار مكَّة من أهلها (أي خلّوها من أهلها) إذا سافروا فيه.
ولقد كان للعرب في شهر صفر منكران عظيمان: - المنكر الأول: هو التلاعب به تقديما وتأخيرا. - والمنكر الثاني: هو التشاؤم منه.
التلاعب بشهر صفر
فأما التلاعب به فذلك أن الله -تعالى- خلق عدة شهور السنة اثني عشر شهراً؛ فجعل منها أربعةً حرم، يحرم فيها القتال تعظيماً لشأنها، وهذه الأشهر هي: ذو القعدة، ذو الحجة، محرم، ورجب، قال -تعالى-: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (التوبة/ 36)، وقد علم المشركون ذلك، لكنهم كانوا بدافع المصلحة يؤخرون ويقدمون فيها بأهوائهم: فيجعلون شهر صفر بدلاً من المُحرَّم! جاء في البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرَّم صفراً، ويقولون: إذا برأ الدَّبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلَّت العمرة لمن اعتمر. رواه البخاري حديث رقم 1489 ومسلم حديث رقم 1240، والمقصود أنهم كانوا يتلاعبون بالأشهر، فيجعلون المحرم حلالاً، ويقولون هو صفر قدمناه وأخرنا المحرم إلى الشهر الذي يليه هذه صورة من صور التلاعب.
يجعلون صفر محرما
ومنه أيضاً أنهم يجعلون صفر محرما؛ فإذا احتاجوا إلى القتال فيه أخروه إلى ربيع وجعلوا ربيع مكانه، ومن صور التلاعب أيضاً بصفر أنهم كانوا ينقلون ذا الحجة مكان المحرم في بعض الأعوام، وفي بعضها مكان صفر، فيقدمون ويؤخرون في الحج على حسب مصلحتهم وما تمليه عليهم أهواؤهم حتى كانت حَجَّةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال في خطبته: «أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فقد رضي به، فاحذروه -أيها الناس- على دينكم، {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَه ُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»، وإنما قال لهم رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان؛ لأنهم أيضا لم يكونوا متفقين على موقع شهر رجب من الشهور؛ فقد كانت مضر تجعل رجب بين جمادى وشعبان، وكانت ربيعة تجعله بين شعبان وشوال مكان رمضان، فأثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - مكانه على ما كانت ترى قبيلة مضر.
التشاؤم بشهر صفر
وأما المنكر الثاني فهو التشاؤم به؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث البخاري ومسلم: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامَة ولا صَفَر»؛ فقوله لا صفر أي لا تشاؤم بصفر، وقوله: لا هامة أي: لا طائر يخرج من القتيل يطلب بثأره كما كانت تعتقد الجاهلية، وقوله: لا طيرة أي لا تشاؤم بطير ولا غيره، وقوله: لا عدوى لا انتقال للمرض بذاته من مريض إلى مريض من غير تقدير الله ذلك، فبين - صلى الله عليه وسلم - أن التشاؤم بصفر بدعة جاهلية لا تصح في الإسلام؛ فما هو إلا شهر من شهور الله لا إرادة له وإنما هو وعاء عمل ووسيلة انتقال من زمن إلى زمن؛ فلا يمضي إلا بتسخير الله له، شأنه في ذلك شأن سائر الأزمان.
أحداث في شهر صفر
لقد حفل شهر صفر بكثير من أحداث السيرة النبوية العطرة منها أحداث مفرحة ومنها غير ذلك، ففي صفر كانت أول غزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وهي غزوة (الأبواء) ويقال لها ودَّان، فقد كانت في صفر على رأس اثني عشر شهراً من مهاجره، ولم يلق فيها من المشركين قتالاً، وقد كان من بركات خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة أنه لقي فيها سيدًا من سادات العرب يقال له عمرو بن مخشي سيد بني ضمرة؛ فعقد معه النبي - صلى الله عليه وسلم - معاهدة حلف ومناصرة. وفي صفر أيضاً بعد ثلاث سنوات من الهجرة كانت مأساة الرجيع حين جاء ناس من قبائل عضل وقارة يتظاهرون بالإسلام، ويطلبون أن يبعث معهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من يعلمهم الدين فبعث معهم عشرة من أصحابه فيهم عاصم بن ثابت وزيد بن الدثنة وخبيب بن عدي؛ فلما كانوا بقرب جدة عند ماء يقال له الرجيع، غدروا بهم واستعدوا عليهم حيا من هذيل؛ فقتلوا منهم سبعة وأسروا الباقين وباعوهم لأهل مكة يقتلونهم بقتلاهم في بدر، والعجيب أن هذا الشهر بعينه وهو صفر من السنة الرابعة كانت فيه وقعة (بئر معونة) التي قتل فيها تسعة وستون رجلا من خيرة علماء الصحابة وقرائهم؛ إذ بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين من أصحابه في أهل نجد يدعونهم للإسلام بجوار رجل منهم يقال له البراء بن عامر؛ فلما نزلوا نجداً بعثوا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سيدهم عامر بن الطفيل وكان رجلاً سفاحاً له بأس شديد، فقتل رسولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، واستنفر القبائل على الباقين من الصحابة فقتلوهم إلا رجلا واحداً كان بين القتلى، ولكنه عاش حتى قتل يوم الخندق وهو كعب بن زيد بن النجار، فكانت هاتان المأساتان من وقائع شهر صفر.
سرية (قطبة بن عامرابن حديدة رضي الله عنه)
لكن فيه أيضاً وقعت سرية (قطبة بن عامر بن حديدة رضي الله عنه ) وكانت في صفر سنة تسع للهجرة؛ حيث بعثه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قبيلة يقال لها خثعم، وكانت خثعم قد قتلت قائد سرية المسلمين، ولكن المسلمين استبسلوا في القتال حتى غنموا من الغنائم شيئا عظيما، فلما ركب المشركون في إثرهم يريدون إنقاذ أموالهم التي غنمها المسلمون، أرسل الله -سبحانه- عليهم سيلاً عظيماً حال بينهم وبين المسلمين، فسار المسلمون بما معهم، والمشركون ينظرون لا يستطيعون أن يعبروا إليهم حتى غابوا عنهم.
دروس ملهمة
إن شهر صفر شهر من أشهر الله لا يجوز التشاؤم به، وما حل بالمسلمين فيه إنما هو من جملة الابتلاءات التي لم يخل منها زمن من الأزمان منذ ظهور الإسلام وحتى الآن، وما وقع في بعث الرجيع وبئر معونة إنما يحمل دروساً يجب أن يتعلم منها المسلمون في كل زمان ومكان، منها:
سنة التدافع
إن سنة التدافع هي العامل الفاعل في صراع الحق والباطل، وأن أقدار الله لا تنحاز لطرف على آخر بمجرد الإيمان، مهما كان عظم المبدأ الذي يؤمن به، فلابد أن يكون مع الإيمان قوة تحميه، جاء عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه قال: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».


الشيخ: محمد محمود محمد