الوعي باللحظة في القصة الومضة: بلاغة التشكيل والتأويل
أ. د. أحمد يحيى علي محمد
فاعلية السياق الثقافي في تأويل النص:
إننا بصدد بِنْية حذفٍ لا تتبدَّد الآثارُ المترتبة عليها في أية لحظة من لحظات القراءة؛ بسبب هيمنة ضمير الغياب على طقْس الومْضة، إن ثنائية (هم وهي) تجعل من الغياب مَدعاةً للبحث عن نقيضه، عن اسم ظاهرٍ كاشفٍ عن هذا الجمع وعن هذا المفرد، في ظلِّ نَسَقٍ تساؤليٍّ يفرض نفسه على وعي القراءة، لا يقتصر عملُه على جواب يُحيل الغائب إلى حضورٍ محدَّدٍ معلوم، لكنه يقف عند حدِّ البداية ليسأل: ماذا كان قبل الرسم؟ وليقف عند هذه النهاية القَلِقة ليسأل: ماذا بعد التلوين؟
هنا يصير للوقوف عند البُعْد المعجميِّ للَفظةِ القصة عمومًا وجاهتُه؛ إن القصَّ: من القَطْع؛ فقصَّ الثوبَ؛ أي: قَطَعَه[8]، ومن القطع يمكن الانتقال إلى مسألة الانتقاء بالنظر إلى صنيع الراوي في القصة والرواية، وفي حقل الحكْي بصفة عامة.
إن الكاتب عبر راويه ينتقي مقطعًا حياتيًّا، ينطلق منه، ويُعيد صياغته بِناءً على حال ذهنيٍّ ونفْسيٍّ يُلقي بثقله عليه، وإذا نظرنا إلى هذه المتوالية القصصية التي تتأسَّس دراميًّا على فعلين: هما "رسموا، ولوَّنوا"، نجدنا أمامَ عالم الفن عمومًا وسمة الخيال المميزة له، فما الرسم والتلوين إلا انعكاسٌ لهذا الخيال، هنا تعمل آلة التأويل عملَها في فضاء التلقِّي من خلال افتراضات تحاول الوصول إلى قناعة وحكم.
إن الخيال شيءٌ، والواقع والحقيقة شيءٌ آخرُ، الجملة الأولى والجملة الثانية كلتاهما متضمِّنٌ معنى الخداع؛ خدعوها بأنها طائر، وأغووها فدخلت القَفَص، في الخيال أحيانًا كثيرة سِجْن للإدراك، الحياة في قيود اللاشيء، وتلك مفارقةٌ؛ البعض يظنُّ الخيال حريةً وتحليقًا، لكن القصة الومْضَة تُقدِّم معنًى قد يصدم أُفُق توقُّعات القارئ؛ إنه السجن، إنه القيد الذي لا يقتصر على ما هو واقعي يحول بين الذات وما تَحْلُم، فهذه الذات قد تهوِي في شِراك الوَهم المنصوبة فوق أرضٍ من خيالٍ يحسبه الظمآن ماءً.
إن هذه الومْضَة تُقدِّم طَرْحًا ينسجِم وواقعًا ثقافيًّا عربيًّا، للمدح فيه دورٌ في إنجاز علاقات إنسانية، وفي تحقيق غايات نَفْعيَّة بواسطة صياغات لغوية تُتيح لصاحبها إدراك ما يُريد، ولعلَّ بالإمكان قراءة هذه الومْضَة بهذا البيت الأثير للشاعر أحمد شوقي:
خَدَعُوها بِقَوْلِهم حَسْناءُ ♦♦♦ والغَواني يَغُرُّهُنَّ الثَّناءُ
إن الكلمة الطيبة صدقةٌ، نَعَمْ، لكنْ بين الطيِّب من القول، والمدح الذي يُقعِد الذات عن الحركة وتطوير أدائها، وكشفِ عيوبها، ومحاولةِ علاج الخلل في بُنيانها - خيطٌ لا بد من التنبُّه إليه؛ كي لا يُصاب الممدوح بغرور، أو يُفتن في أمره، فيتحوَّل من حالٍ إلى حالٍ؛ لذا يكون السجن مصيرًا مأساويًّا، بوصفه رمزًا لحالة الجمود التي تصل إليها الذات فردًا كانت أم جماعةً؛ فتتخلَّف عن مواكبة حركة الزمن وتغيُّراته، وما يترتَّب على ذلك من اتساع الفجوة بينها وبين غيرها من الأمم التي تُمارس وعيَها بالزمن من خلال حالة مضارعة، تقوم على قراءة لا تتوقَّف للحظتها، وتقييم لناتج عملها فيها؛ سعيًا وراء إنجازٍ للمستقبل يقترب والصورة المثلى المتمنَّاة.
إنَّ واحدةً من أزمات الشخصية العربية الجمعيَّة تكمُن في احتفائها الزائد بماضيها، وما كان فيه من أمجادٍ، وما أفضى إليه حالها بإزاء غيرها من الأمم الأخرى.
إن قراءة الماضي أمرٌ ضروريٌّ لاستلهام خبرات الأولين والاستئناس بها، واكتساب الثقة من لحظات نجاحٍ كانت في الماضي، لكن الخطر في الركون إلى هذا الماضي والتجمُّد عنده؛ لأن إنجاز النجاح والأخذ بأسباب القوة بأشكالها المادية والمعنوية مسألةٌ متجدِّدةٌ مستمرةٌ، لا تتوقَّف عند زمن.
إن الفعلين "رسموا، ولوَّنوا" يُقدِّمان وجهًا لأزمةٍ تكمُن في حالة الوَهم التي تستبدُّ بالذات، فتبقى معها زمنًا بلا حركةٍ وبلا عملٍ وبلا سعي جادٍّ نشطٍ يؤمِن بقانون الزمن المبنيِّ على الحركة الدائبة بلا سكونٍ؛ لذا فإن الدالَّينِ "أجنحة، وقفص" بمثابة صيحةِ تحذيرٍ تسكُن خلْفَ منظومة السرد التي يُقدِّمها راوٍ عليمٌ بصوته، وهو يتحدَّث عن ظالمٍ وضحيةٍ في ثوبٍ لغويٍّ جماليٍّ يتجلَّى في الضميرين "هم" و"هي".
إن صوت هذا الراوي يحاكم ويدين وعيًا جَمْعيًّا يبدو أنه يعشق هذه الصناعة، يدلُّ على ذلك استخدامُه لصيغة الجمع بتوظيف الضمير "هم"، والاسم الظاهر "أجنحة"؛ إذًا يكون الوعي الزائف بمثابة أزمةٍ؛ لأنه يحُول بين الذات وقراءة دقيقة واقعية وحقيقية لنفسها ولعالمها، تُمكِّنها من رسم خططها، وتوظيف ما يُلائم من أنْساق فعلية تنسجم وتُيسِّر لها سُبُل الوصول إلى غاياتها المنشودة؛ ومن ثم تصير الحاجة ماسَّةً إلى تغييب هذا الوعي المرَضيِّ، وإحلال وعي حقيقيٍّ صادق مكانَه، عندما تبتعد الذات عن ضجيج المجموع وعشوائيَّتِه في التفكير والطابع الانفعاليِّ العاطفي الحاكم - في الغالب - لرؤيته للعالم وما يقع فيه، وتسعى إلى ممارسة التفكير بمنأى عن مُرسلات سابقة التجهيز.
إن هذه الومْضَة بمثابة برقيَّة مبعوثة لمن يهمُّه الأمر، تعكس في صياغتها الظاهرة هذه الفضيلة للأدب عمومًا، الذي يصنع لنفسه عبر سياقه معجمًا خاصًّا، يُضفي على المفردات معانيَ لم تكن لها فيما سبق؛ مما يجعل منه بِنيةً استعاريةً؛ فهو يُعبِّر عن المعنى بغير لفظه صراحةً، بل بما يمكن تسميته ترميزَ الرؤية، عبر إعادة إنتاج دلالات جديدة لألفاظه وتراكيبه[9]؛ انطلاقًا من تجرِبة المؤلِّف وما لها من خَصوصية.
[1] أ.د. أحمد يحيى علي: أستاذ الأدب والنقد المشارك، كلية الألسن، جامعة عين شمس، مصر.
[2] انظر: الجرجاني (عبدالقاهر)؛ أسرار البلاغة، من ص 22 إلى ص26، الطبعة الأولى، 1411هـ، 1991م، دار الجيل، بيروت.
[3] انظر: د. أحمد يحيى علي؛ الأدب وصناعة الوعي، صفحات 135، 136، 137، الطبعة الأولى، 2017م، دار كنوز المعرفة، عمان، الأردن.
[4] انظر: د. السعيد محمد بدوي؛ مستويات العربية المعاصرة، صفحة 89، 90، طبعة دار المعارف بالقاهرة، دون تاريخ.
[5] السرد ووظائفه: دراسة في الأشكال والغايات، من ص 95 إلى ص101، الطبعة الثانية، 2017م، مكتبة أوزيريس، القاهرة.
[6] انظر: السابق، من ص 99 إلى ص101.
[7] موقع الرابطة العربية للآداب والثقافة على شبكة المعلومات الدولية
[8] انظر: ابن منظور؛ لسان العرب، ركن المعاجم، الموسوعة الشعرية الإلكترونية، إصدار 2003م، المجمع الثقافي العربي، الإمارات العربية المتحدة.
[9] انظر: د. أحمد يحيى علي؛ الأدب وصناعة الوعي، من ص50 إلى ص60.