المنهج الوصفي: أسسه ووجوده في التراث العربي
د. عصام فاروق


أولًا - أسسه:
يقوم المنهج الوصفيُّ في الدرس اللغوي على عدة أسس، سأتناول في عجالة بعضًا منها:
1. جمع المادة اللغوية:
إن أيَّ وصف لظاهرةٍ لا يتمُّ إلا بعد جمعٍ لموادِّ هذه الظاهرة، من خلال مصادر محدَّدة، تفرضها طبيعة الموضوع، والمجال، وهدف الباحث... إلخ.

"وقد عزف بعض علماء المنهج الوصفيِّ عن دراسة اللغات القديمة كالسنسكريتية واليونانية القديمة واللاتينية وسواها، ويعود السبب في ذلك إلى أن (اللغة) يجب دراستها خلال الواقع المنطوق؛ لأن المنهج الوصفيَّ يهتم بواقع الظاهرة اللغوية في ضوء ما يسمَّى باللغة المنطوقة Spoken languag؛ لأن قواعد الإملاء والكتابة، مهما كانت دقيقة، لا تُفيد في وصف أية ظاهرة لغوية، ويضاف إلى ذلك أن النص المنطوق يتيح الفرصة لدراسة أصواته، وقوانين النبر الخاصة به، والتنغيم حين النطق لبعض العبارات والجمل" [2].

ويمكن الردُّ على هذا الكلام - من واقع دراسة اللغة العربية - على النحو التالي:
إمكانية معالجة اللغة المكتوبة في ضوء المنهج الوصفي؛ فالدراسة اللغوية للعربية منذ العصر الجاهليِّ حتى الآن تعتمد على النصوص الشعرية والنثرية المكتوبة التي وصلت إلينا، واستطاع الباحثون من خلالها الوصولَ إلى كثير من الخصائص اللغوية على اختلاف مستوياتها.

أن العربية بوصفها لغةً حيَّةً قديمة ونامية متجددة، تتناقض مع رؤية الغربيين للغة المكتوبة من كونها لغةً بَطَلَ استعمالُها، ومن ثم فإن هذا المنهج يصلح لدراسة العربية في صورتَيْها المكتوبةِ والمنطوقة[3].

إن جمع المادة اللغوية، سواء أكانت في صورتها المنطوقة أم المكتوبة، يتم بناءً على الفكرة التي وضعها الباحث، والأُطر التي أحاط بها هذه الفكرة، ومن ثم فقد يعتمد على ما يسمَّى الراويَ اللغويَّ الناطق أو المكتوب.

فإذا درس الباحث لهجةً معاصرة - على سبيل المثال - فلا بد أن يعتمد على الراوي اللغويِّ الناطق، فيستمع إلى أهلها ضمن شروط معينة وضعها العلماء لهذا الراوي، منها:
أن يكون من المواطنين الأصليِّين لتلك البيئة التي تؤخذ منها هذه اللهجة.

أن يكون أقل ثقافة؛ لأن المتعلمين دائمًا ما تتأثر لغاتهم بما يتعلمونه، وقد يستخدمون أيضًا أسلوب المبالغة في التفصُّح، يقول د. تمام حسان: "ويحسن أن يكون أُمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتب؛ حتى لا تؤثِّر العوامل الثقافية في تمثيله الصحيح لهذه اللهجة"[4].

أن تتوافر لديه شروط السلامة العقلية، والأدائية أو النطقية التي تؤهله لنطق الأصوات نطقًا صحيحًا.

ثم يحلِّل الباحث هذا المادة الصوتية بعد تسجيلها، ويستخرج منها النتائج.

وفي الحقيقة فإن "مصدر العناية باللغة المسموعة في المنهج الوصفيِّ متأتٍّ من أمرين:
أحدهما: جعل البحث اللغوي واقعيًّا من خلال ربطه باللغة المستعملة فعلًا.
والآخر: الوقوف على العادات النطقية لمتكلمي اللغة"[5]، لكنَّ رعاية اللغات ذات التاريخ الممتد كاللغة العربية، كان لا بد أن يوضع في حسبان الوصفيِّين.

فإذا كان هذه اللهجة قديمة، اعتمد على ما ورد من أخبار وروايات ذكرها العلماء تصف الخصائص اللغوية المتعددة لهذه اللهجة، وبالتالي فإن الاعتماد على المراجع الأصيلة والمصادر الثانوية هو السبيل إلى هذه الدراسة.

2. تحديد زمن الدراسة:
إن وصف (المنهج الوصفي) بالسكون يقتضي زمنًا معينًا - طال أو قصر - تُدرس من خلاله الظاهرة؛ لأنه بتعدُّد الأزمنة ينتقل التناول إلى المنهج التاريخيِّ الذي لا يقف عند مرحلة زمنية معينة؛ لأن الظواهر اللغوية قد تتبدل وتتغيَّر خصائصها من مرحلة زمنية إلى أخرى، مما يقتضي من الباحث الوقوف بطريقة رأسية على الظاهرة المدروسة تمكِّنه من الوصول إلى نتائج دقيقة.

3- تحديد البيئة المكانية:
كما أن لتحديد البيئة المكانية للظاهرة المدروسة أهميةً كبيرة أيضًا، تعمل مع تحديد زمن الدراسة على تأطير الدراسة بسياج من الدقة، التي لا بد أن تنطبع على النتائج المتوصَّلِ إليها.

وتؤثر البيئة تأثيرًا واضحًا في لغة أصحابها، فتصبح اللغة "بدوية في المجتمع البدويِّ غير المتحضر، ولذلك نجدها فيه محدودةَ الألفاظ والتراكيب والخيال، وليست مرنة ولا تتسع لكثير من فنون القول، أما إذا كانت اللغة في مجتمع قد أخذ قسطًا من الحضارة، فإننا نجدها متحضرةَ الألفاظ، مطردة القواعد، يسيرة في نطقها، خفيفة الوقع على السمع"[6].

إن تحديد المدى الزمنيِّ والبيئة المكانية للدراسة قد يضمِّنهما الباحث عنوانَ بحثه، مثل: (المصاحبة اللغوية في الصحافة المصرية من عام 2011 إلى 2017).

فتحديد البيئة اتضح من خلال تأطيرها بالصحف التي تصدر في مصر، بينما يأتي التأطير الزمانيُّ واضحًا من خلال حصر دراسة الظاهرة في عدة أعوام، ومن المفترض أن هذا التحديد الزمانيَّ له مسوغ، يصب في مصلحة الدراسة، ويمكن للباحث أن يوضح هذا المسوغَ من خلال العنوان السابق، بأن عام 2011 قامت ثورة يناير، فأراد الباحث أن يرى المصاحبات اللغوية التي صاحبت هذا الحدث السياسيَّ الكبير.

ومن الممكن أن يكون ذكر البيئة والزمان في العنوان بطريقة ضمنية، فعلى سبيل المثال دراسة بعنوان: (السياق ودوره في توضيح المعنى في كتاب الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي) يتضمن البيئة المكانية المتمثلة في البيئة الأندلسية التي ينتمي إليها صاحب كتاب الموافقات، كما أنها محددة الزمان بزمن تأليف الكتاب أو حياة المؤلِّف نفسه، وإن كنتُ قد أخذت على عنوان هذه الرسالة أنها لم تذكر سنة الوفاة؛ لأن هناك أكثر من شاطبي (أبو القاسم بن فيره 590هـ - إبراهيم بن موسى 790هـ)، لكن قد يكون وصفه بصاحب (كتاب الموافقات) مندوحة عن ذلك.

ويمكن القول: إن دراسة الظاهرة في كتاب معين تقوم مقام الذكر الصريح للبيئة والزمان.

4- وحدة المستوى اللغوي:
يتطلب المنهج الوصفيُّ ضمن تحديداته تحديدًا للمستوى اللغوي للظاهرة المدروسة، ويرى بعض العلماء أنه "ليس من الدقة في شيء أن تكون النتائج واحدة لمقدمات تتنوع بتنوع المستوى اللغوي المعروض للفحص والدراسة، فهناك المستوى الأدبيُّ الفصيح، والمستوى اللهجي التراثي، والعامي الحديث، بالإضافة إلى المستويات المختلفة باختلاف الحرف والمهن، كطبقة الزراعيين، والصناعيين، والتجاريين... وما إلى ذلك من لهجات اجتماعية عديدة"[7].

ويدخل ضمن هذا التحديد للمستوى الواحد كالأدبي الفصيح: هل ستكون الدراسة في الشعر أم النثر؟ ... إلخ.

ثانيًا - المنهج الوصفي والتراث العربي:
يمكن قبول أن المنهج الوصفي بكونه منهجًا بحثيًّا له أسسه المتكاملة وعناصره المترابطة - غربيٌّ دوسوسيريٌّ بشكلٍ كبيرٍ، لكنَّ ذلك لا يمنع أن هناك إشارات وممارسات في التراث العربيِّ تدلنا على سبق العرب إلى مثل هذه الأسس تنظيرًا أو تطبيقًا، ومن ذلك يمكن التمثيل بما يلي:
بالنسبة لجمع المادة العلمية:
فتمثِّل مرحلةُ جمع العربية النقية من أفواه العرب الخُلَّص تطبيقًا عمليًّا لهذا الأساس، ومن الأخبار الكثيرة المروية في ذلك أن الكسائي خرج إلى البوادي فأنفد خمس عشرة قنينة حبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظه [8].

وبالنسبة لتحديد زمن الدراسة:
فقد كان علماء العربية القدامى واعين لهذا التحديد، من خلال ما يعرف بعصور الاحتجاج، فحدَّدوا للأخذ من فصحاء العرب منتصف القرن الثاني الهجري في الحواضر، ونهاية القرن الرابع الهجري في البوادي؛ ليكون هذا الإطار الزماني حافظًا لصحة نقلهم عن العرب الفصحاء.

وبالنسبة لتحديد البيئة المكانية:
فكما حددوا المدى الزمني للأخذ عن العرب الفصحاء، حدَّدوا بعض القبائل التي سيأخذون منها اللغةَ، فلقد وصفوا الحواضرَ وأطراف الجزيرة بأنها لا تمثل لغتُها لغةَ العرب تمثيلًا صحيحًا؛ لتعرُّضها لمؤثرات أجنبية؛ ولذلك أخذوا من قبائلَ محددة، هي: قيس، وتميم، وأسد، ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ لا من قبيلة لخم ولا من جذام؛ لأنهم كانوا مجاورين لأهل مصر والقبط، ولا من قضاعة ولا من غسان ولا من إياد؛ لأنهم كانوا مجاورين لأهل الشام وأكثرهم نصارى يقرؤون في صلاتهم بغير العربية، ولا من تغلب ولا من النمر؛ لأنهم كانوا مجاورين لليونانية، ولا من بكر؛ لأنهم كانوا مجاورين للنبط والفرس... إلخ[9].

وقد وضح السيوطيُّ أيضًا الخطة المكانية الأساسية التي وضعوها لهذا الجمع بقوله: "وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضريٍّ قطُّ، ولا عن سكان البراري، ممن كانوا يسكنون أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم"[10].

وبالنسبة لوحدة المستوى اللغوي:
وقد أدرَكَ علماء العربية الأوائل أهميةَ هذا التحديد؛ ولذلك قصَروا عملية الجمع اللغويِّ على مستوى لغويٍّ معيَّن، هو اللغة الفصحى، والتي كان من أهم مصادرها القرآن الكريم وقراءاته المختلفة، والحديث النبويُّ الشريف، وكلامُ الفصحاء من قبائلَ معينةٍ حصروها في المناطق البادية من شبه الجزيرة العربية.

من ملامح المنهج الوصفي في كتاب سيبويه[11]:
والمقصود بذلك: الطريقة التي عالج بها سيبويه الظواهر اللغوية، ومجموعة العمليات العقلية الاستدلالية التي استند إليها لحل جوانب هذه الظاهرة، وسأكتفي من ذلك بثلاثة جوانب، هي:
أولًا - السماع:
يقوم المنهج الوصفي بشكلٍ كبير على السماع؛ لأن الخطوات التالية للبحث إنما تكون بعد جمع المادة التي تجري ملاحظتها ودرسها.

واهتم سيبويه بالمسموع من اللغة جريًا على طريقة أساتذته، وتنوَّعت مصادر السماع عنده، بين الأخذ المباشر من أفواه العرب، أو السماع عن طريق شيوخه؛ كعيسى بن عمر (149هـ)، والخليل بن أحمد (170هـ)، ويونس بن حبيب (182هـ)، وغيرهم ممن يَعِجُّ الكتابُ بذكر الأخذ عنهم.

وقد يستعين ببعضٍ من العرب، الذين ينتمون إلى قبيلة معينة تشعَّبت أماكن سكنها، ويقوم ذلك كدليل على حرصه على جمع أكبر عدد ممكن من البيانات اللغوية من اللهجات المنتشرة في الجزيرة العربية، ويستعين في ذلك ببعض العبارات؛ نحو: "وسمعنا العرب الفصحاء يقولون"[12]، "وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول..."[13]، "وسمعت من أثق به من العرب يقول..."[14].

ومما يضفي على منهجه صفةَ الوصفية: أخذُه عن عربيٍّ واحد، أو عن عربيين اثنين، وهو الذي يُعرف في المنهج الوصفيِّ الحديث بالراوي أو مساعد البحث؛ كونه الممثل الحقيقيَّ للغة، والمعبِّر الصادق عنها، ومن ذلك قوله: "وأنشدناه هكذا أعرابيٌّ من أفصح الناس"[15]، "سمعت عربيًّا مرة يقول"[16].

ثانيًا - اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة:
قلنا من قبل: إن الوصفيين يعطون اللغة المنطوقة جلَّ اهتمامهم، وقد أدرك سيبويه أهمية اللغة المنطوقة في منهجه الوصفي، وكان يعتمد عليها في استقراء الأصول اللغوية، ويظهر ذلك بوضوح في وصفه الأصوات اللغوية، حيث ذكر أن "أصل الحروف العربية تسعة وعشرون حرفًا"[17].

ومن مظاهر اعتنائه باللغة المنطوقة ذكره أن اختلاس الحركة في نحو (يضربها)، و(من مأمنك) "تحكمه لك المشافهة"[18]، وما الاهتمام بالتماثل الصوتي، والتخالف الصوتي، والإدغام... وغيرها من التغييرات الصوتية التي يتحكم فيها النطق - إلا أثر من آثار اهتمامه باللغة المنطوقة.

ثالثًا - التصنيف:
من العمليات المهمة في المنهج الوصفيِّ مرحلة التصنيف، التي تستقصي ظواهر اللغة بوسائل متنوِّعة، وذلك عن طريق تقسيمها على مستويات لغوية تسهِّل على اللغويِّ وصفَها وتحليلها، والخروج بنتائج دقيقة لها.

ولم يكن سيبويه بعيدًا عن هذا الجانب، فقد هداه عمله التصنيفيُّ إلى معرفة أقسام الكلم، قال: "فالكلم: اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل"[19]، وصنَّف أصواتَ اللغة، ومخارجَها، وبيَّن صفاتها[20].
--------------------------------------


[1] د. عصام فاروق/ أستاذ أصول اللغة المساعد بكلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان - جامعة الأزهر.

[2] منهج البحث اللغوي (117).

[3] ينظر: منهج البحث اللغوي (117)، البحث اللغوي مناهجه وأصوله (83).

[4] اللغة بين الوصفية والمعيارية (153).

[5] المنهج الوصفي في كتاب سيبويه (26).

[6]المدخل إلى علم اللغة (129).

[7] البحث اللغوي مناهجه وأصوله (94).

[8] ينظر: نزهة الألباء (59).

[9] ينظر: المزهر (1/211، 212).

[10] الاقتراح (56، 57).

[11] ينظر: المنهج الوصفي في كتاب سيبويه (37) وما بعدها بتصرف.

[12] الكتاب (1/219).

[13] السابق (1/423).

[14] السابق (1/230).

[15] الكتاب (3/300).

[16] السابق (2/413).

[17] السابق (4/431).


[18] السابق (4/202).

[19] السابق (1/12).

[20] ينظر: السابق (4/431 وما بعدها).