تردي الشعر
إبراهيم بلفقيه اليوسفي




وما الدهرُ إلا مِنْ رُواةِ قصائدي ♦♦♦ إذا قلتُ شِعْرًا أصبحَ الدهرُ مُنْشِدَا

هكذا كان المتنبي يقول في شِعْره، وحقًّا كان قولُه، لقد تربَّع الشِّعر على سلطان الأدب في حضارتنا لأَزْيَد مِن أربعة عشر قرنًا، ورغم التمدُّن والتحضُّر الذي عرَفه العرب والمسلمون في شتى البقاع التي دخلها الإسلام، فإنَّ الشِّعر كان يتسلَّط دائمًا على أولاء القومِ ويسلُبهم إرادتهم، فلا يجدون مناصًا سوى الركون إلى سِحْره، والغوصِ في بحره، والمَتْحِ مِن مَعِينِه.

ولقد نشأت فنونٌ أخرى من ضروب القول، إلا أنها لم تستطعْ أن تزحزحَ الشِّعر عن عرشه، فكانت المقامات والموشَّحات والأزجال والملحون وما عُرف بالشعر النبطي... كل هذه كانت بجانب الشِّعر؛ لكن لا أحد منها استطاع التكلُّم في حضرةِ الشعر، ثم توالت الأيامُ، ودارت الأزمان، فانحطَّ الشِّعر إلى أسفلِ سافلين، وغلب عليه البديعُ والصناعة اللفظية، فصار أجوفَ لا معاني فيه، ولا رُواءَ عليه؛ هذا في المشرق.

أمَّا المغرب، فالأمر خلاف ذلك، ومَنْ أراد الاطِّلاع، فعليه بالنبوغ المغربيِّ في الأدب العربيِّ لعبدالله كنون.
وما نَسِيَ الناسُ الشِّعرَ الحسن العالي حتى هبَّ مِن مصرَ أناسٌ هزَّتهم الغيرةُ، وأخذتهم الحمية لهذه اللغة الشريفة والبيانِ العربيِّ الآسر، فحملوا مشعل الشِّعر، ونافحوا دونه، وأحيوا النماذجَ العاليةَ، والأساليب الراقية، فعارضوا البحتري وأَضْرابَه مِن المتنبي وبشار بن برد وأبي تمام وابن الرومي وأبي فِراس... فاستنشق الناسُ نسيمَ الجَمَال، وتَنَسَّمُوا رَيَّا الجلال مرةً أخرى، وعقدت لهذا المحافل واستنهضت الهِمَم، خاصة مع البارودي وشوقي وحافظ، ثم الجواهري وعمر أبو ريشة ونزار...

ثم خلف من بعدهم خَلْفٌ قتلوا الشِّعر دون رحمة، وذبحوه بغير سكين، فقالوا - باسم التقدُّم، وبفعل النكبات التي حلَّت بنا -: إنَّ هذا الشِّعر قَيَّدَهم، ولا يصلح للتعبير عمَّا يختلج نفوسَهم مِن حسرةٍ وألم، فجَدُّوا واجتهدوا، وما خرجوا عن ربقة التقليد للغرب، فحاد الشعر شيئًا فشيئًا عن سِكَّتِه، وطفق يدخل في الرمز ويوغل فيه، حتى أضحى الشعراءُ لا يعرف بعضُهم ما يقول بعضٌ؛ فاتسعت الهوة بين الشعر العربيِّ والقارئ العربيِّ، وانصرف الناس عن الشعر بعدما أحبُّوه واستوعبوا مراميه عن البارودي وأصحابه، والزهاوي ورفاقه، والأخطل الصغير، ومَن سَلَك سبيلَ البيان، ولم يلتفتْ إلى دعاوى المُغْرِضين، التي لا همَّ لها إلا إسقاط الخصوصيات الثقافية لهذه الحضارة.

كان الشعر تُعْقَدُ له الأماسي، ويُلْقَى الليالي الطوال، وكان الفلاح في حقله يسمع ويعرف أن هناك شاعرًا اسمه فلان الفلاني، وأنه يدافع عن كذا وكذا... أمَّا اليوم، فإنَّ الشعراء لا يعرفهم إلا النقاد، وقلةٌ قليلة ممن يُعْنَوْنَ بأشعارهم لغرضٍ سياسيٍّ أو نحوه.

ماذا سيفهم القارئ اليوم من قولِ بعضِهم:
سأنصت
ملقيًا وجهي إلى أدنى برودة شرفة

تُمْلِي عليَّ خريفَها سحبًا ودبالًا
لهن الماء مجهولًا
يضاعف بذرة المجهول

ماذا سنفهم من هذا؟ لقد وجد الناسُ قديمًا في الشعر ضالَّتهم؛ فبِهِ تُضْرَب الأمثال، ومنه تُستخرَج الحِكَم، واليوم لا حِكَمَ ولا أمثال، إنما هي طلسمات مثل قول بعضهن:
لو...
هرولتُ حافية القدمين

ربما كنتُ نسخًا صادقًا
لما تحجبه الأعراف
لو...
تسكعت عارية الرئتين ربما شرحت
ما يعجز عنه البيان
وتخجل
أن تتبناه الحروف

ولا يفهمنَّ أحدٌ من كلامنا هذا أننا ننتصر لهذا الشِّعر أو ذاك، ولكننا ننتصر لعودة الجمال والجلال إلى أدبنا، الذي لو عرفناه ما وَسِعَنا سوى أن نقول: إنه (لحن الحياة وسرُّها).

ولعل ما نراه اليوم من انصراف القرَّاء إلى الرواية، وعزوفهم عن باقي الأجناس الأدبيَّة - سببه ما أسلفنا من غموض شعرِنا المعاصر، ودخوله فيما وراء الطبيعة - كما يقال - وسنورد هذا المثال وليختبر قارئُنا الكريم ذاكرَتَه: هل تسعفه بشيء يفيده في حلِّ مثل هذه الطلاسم؟ قال أحدهم:
مثلها
صرتُ تمثالَ رَفْضٍ

وَثَنًا عاشقًا، وأُحِسُّ كأن الصواعق
تأتي وتذهبُ فيه
لو بُعِثَ الجرجاني مِن قَبْره، ما وسعه إلا أن يسألَ شاعرَنا هذا عن مُرَادِه!

إنَّ الشعرَ قبل أن يكون وسيلةً للإقناعِ، هو طريقةٌ للإمتاع، ومحالٌ أن يستمع قارئٌ إلى شعر يكدُّ ذهنه ليفهمه، ولا يجد فيه مِن الإمتاع بُغْيَتَه، خاصة في هذا الزمن الذي تكالبت فيه المِحَن والفتن الطائفية والعِرْقية على الإنسان، حتى صار كما قال تميم:
على نشرة الأخبارِ في كلِّ ليلةٍ ♦♦♦ نرى موتنا تعلو وتهوي مَعَاوِلُهْ

والشعر صنعةُ العرب الأُولى، وهُمْ أربابُه وفوارسه، وإن كان للعلماءِ رسالةٌ، فللشِّعْرِ ألفُ رسالةٍ، وكيف يبلغ شعرُنا اليوم رسالتَه وهو غارق في ظلامه لا يراه أحدٌ، ولا يرى أحدًا؟
قد يظنُّ ظانٌّ أننا ننادي بعودةِ شعر المطايا وبكاء الأطلال، وذِكْرِ الحبيبة والمحبوب، والسُّلافة والمشروب، كَلَّا فما يصلح شعرُ زمان لزمان، فلئن كان الإنسانُ الواحد يتغيَّر فكرُه وعقلُه ووجدانه أنواعًا، ويتشكَّل ألوانًا مع مرور السنين، وتعاقب الأيام والشهور، فأَولى أن يتغيَّر الشِّعر الذي يُعبِّر عن حياة الأُمَم، ويختصر المعاني والحِكَم في أوجز عبارة، وأقرب إشارة.

ولئِنْ عِبْنَا شعرَنا وشعراءَنا بهذا الذي أتوه، فنحن لا ننسى القارئَ العربيَّ الذي وضع القلم، واستبدَّ به النَّغَم، فلا يقرأ كتابًا، ولا يستزيد شعرًا ولا إعرابًا، حتى غاب عن نوادينا الأدبُ، وقلَّ فيه الرَّغَبُ، وكَسَدَت علومُ العرب، فشتَّان ما بين قارئ شوقي والبارودي، وقارئ أدونيس وبنيس، لقد ضَعُفَ المستوى العلميُّ والثقافيُّ للقارئ المعاصر شرقًا وغربًا، حتى بلغ الحضيض أو كاد، وفشا الجهل وساد، فلم تبق للكِتاب مكانتُه، ولا للعلم رونَقُه، وصار حاملُ الشهادة مثل الأميِّ، كلاهما يطالع منشوراتِ وسائلِ التواصل الاجتماعي (مثل الفايسبوك والتويتر...) بدل أن يقرأ الأولُ ما جدَّ في مجاله، وظهر لحينه وأوانه، ويطالعَ الثاني روايات أدبيَّة، ومختارات شعريَّة.

وفي الأخير لا نقول ما قلنا شامتين ولا جارحين، ولكن نُذَكِّرُ أربابَ الأقلام من السادة الأعلام، بما عليهم من المهمَّات الجسام، وأختم بقول نزار:
فإذا صرختُ بوجه من أحببتُهم
فلكي يعيش الصرفُ والإعرابُ

وذنوب (عتبي) كلُّها مغفورةٌ
واللهُ جَلَّ جلالُهُ التوَّابُ