تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: دراسة للخطب في الجاهلية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي دراسة للخطب في الجاهلية

    دراسة للخطب في الجاهلية (1)


    د. إبراهيم عوض





    يتناول الجاحظ في كتابه: "البيان والتبيين"، ضمن ما يتناول، الخطابة عند العرب في العصر الجاهلي، مبينًا أنهم كانوا بارعين في هذا الميدان براعة منقطعة النظير، حتى إنهم لم يكونوا عادة بحاجة إلى الاستعداد المسبق لمواجهة الجموع التي يتطلبها هذا الفن، بل كان الكلام في مثل تلك المواقف ينثال عليهم انثيالًا؛ إذ كانت قرائحهم خصبة ممتازة، وتفوُّقهم في ميدان الأحاديث العامة معروفًا لا يحتاج إلى برهان، وبخاصة أنهم كانوا يدربون أبناءهم عليها منذ وقت مبكر، بيد أن من الباحثين العرب المُحدَثين من يرى أنهم كانوا يعدون خطبهم ويهيئون أنفسهم لإلقائها مسبقًا؛ فهذه طبيعة الإبداع الأدبي كما يقول؛ (د. إحسان النص/ الخطابة العربية في عصرها الذهبي/ دار المعارف/ 1963م/ 16 - 17)، وهو ما تميل النفس إليه، وبخاصة أن من خطبهم التي تبعث على الثقة بصحتها ما كان يحليه السجع، مما يصعب تصور انثياله على لسان الخطيب ارتجالًا، وهو من الأسباب التي دفعتني للشك في بعض الخطب الجاهلية المثقلة بالتسجيع والمحسنات البديعية كما سيأتي لاحقًا، كما كانت لهم تقاليد مشهورة في إلقاء الخطب يحرصون عليها أشد الحرص، منها لُبس العمائم واتخاذ المخصرة؛ أي العصا، وفي كتاب الجاحظ المذكور آنفًا نماذج من الخُطب التي تركها لنا الجاهليون، ومعها أسماء عدد ممن اشتهروا بالتفوق في ذلك الباب، وهذا كله يبرهن أقوى برهان على أن العرب في ذلك العصر كانت لهم خطبهم وأحاديثهم، وأن هذه الخطب والأحاديث لم تَضِعْ، رغم أنهم كانوا أمة أمية في غالب أمرها؛ إذ كانت حافظتهم لاقطة شديدة الحساسية، كما أن اعتزازهم بكلامهم وتقاليدهم قد ضاعف من اهتمامهم بحفظ نصوص خطبهم المشهورة.


    وبالمِثل يؤكد جرجي زيدان أن العرب في ذلك العصر كانوا خطباء مصاقِعَ بتأثير طبيعتهم النفسية وأوضاع حياتهم السياسية والاجتماعية؛ إذ كانوا ذوي نفوس حساسة أبيَّة تعشق الاستقلال وتبغَض العبودية أشد البغض، كما كثر فيهم الفرسان آنذاك، والخطابة، حسبما يقول، تناسب عصور الفروسية، حيث تغلِب الحماسة على النفوس، وتكون للكلمة البليغة المتلهبة مكانة عظيمة عالية، فضلًا عن أنهم كثيرًا ما كانوا يتنافرون ويتفاخرون بالأحساب والأنساب مواجهةً عن طريق المناظرات والخطب، إلى جانب كثرة وفودهم في المناسبات المختلفة، وبخاصة عند الملوك، مما كان يستلزم قيام الخطباء للحديث في تلك الظروف، وهم في العادة شيوخ القبائل ورؤساء الناس، كما ذكر أيضًا أنهم كانوا يدربون فتيانهم على إتقان هذا الفن منذ حداثتهم، وأنهم كانوا يحفظون خطبهم ويتوارثونها جيلًا بعد جيل، ومن هنا كانت عنايتهم الشديدة بها وبصياغتها؛ (جرجي زيدان/ تاريخ آداب اللغة العربية/ مراجعة وتعليق د. شوقي ضيف/ 1/ 167 - 169)، و"كان مفروضًا في الخطيب الجاهلي أن يعرف القبائل والأنساب والوقائع والتاريخ حتى تجتمع له من ذلك مادة الخُطبة حين ينافر أو يفاخر أو يهادن أو يحرض قومه على قتال أو يدافع عن أحساب قومه"؛ (محمد عبدالغني حسن/ الخطب والمواعظ/ دار المعارف/ 1955م/ 21).

    هذا ما يقوله ثلاثة من كبار مؤرخي الأدب العربي قديمًا وحديثًا، بَيْدَ أن للدكتور طه حسين رأيًا مختلفًا تمامًا عما سمعناه منهم؛ إذ يؤكد أن العرب لم يتركوا لنا أية آثار أدبية نثرية البتة، لا خُطبًا ولا غير خُطب: فالنثر من جهة يحتاج إلى بيئة ثقافية متقدمة لم تكن متوفرة في جزيرة العرب قبل الإسلام، ومن جهة أخرى لم يصل إلينا عنهم شيء من ذلك مكتوب، فكيف نطمئن إذًا إلى ما يقال: إن العرب قد خلفوه لنا من خطب وحكم ووصايا وأسجاع كهنوتية؟ لكننا نراه، بعد أن أكد هذا في أسلوب حاسم قاطع، يرجع على عقبيه القهقرى مستثنيًا مِن شكه هذا بعضًا من النثر، وهو الأمثال، التي يعود فيقول: إنها أقرب إلى الأدب الشعبي منها إلى النثر الفني الذي يقصده، أما الخطابة فإنها تستلزم حياة خصبة جياشة، وحياة العرب قبل الإسلام لم تكن فيها سياسة قوية ولا نشاط ديني عملي، بل كانت قائمة على التجارة، وهي لا تحتاج إلى خطابة ولا تعين عليها، أو على الحروب والغزوات، وهذه إنما تحتاج إلى الحوار والجدل لا إلى الخطب؛ (طه حسين/ في الأدب الجاهلي/ دار المعارف/ 1964م/ 329 - 332)، ولعله لهذا السبب نبحث عبثًا، في كتاب "التوجيه الأدبي" الذي ألفه طه حسين مع أحمد أمين وعبدالوهاب عزام ومحمد عوض محمد، عن أي حديث يتعرض للخطابة في العصر الجاهلي؛ إذ كلما ورد ذكر الخطابة عند العرب وجدنا كاتب الفصل، وأغلب الظن أنه طه حسين نفسه، يقفز مباشرة إلى الحديث عنها بدءًا من العصر الإسلامي فهابطًا إلى العصر الحديث متجاهلًا تمام التجاهل أي كلام عنها فيما قبل الإسلام! (التوجيه الأدبي/ مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر/ 1359هـ - 1940م/ 41 وما بعدها، وكذلك 73 وما بعدها)، رغم تأكيد الكاتب أيضًا أن "تاريخ الخطابة يكاد يكون مقارنًا للتاريخ الإنساني: نشأ بنشأته، وارتقى برقيه"، وأنه "لهذا رُويت لنا الخطب منذ عُرف التاريخ"، وأنه متى توفر عاملَا الحرية وشعور الأمة بسوء حالتها وتطلعها إلى حالة أفضل انتعش هذا الفن انتعاشًا كبيرًا؛ (المرجع السابق/ 38 - 40)، وهو ما تحقق للعرب في ذلك العصر حسبما هو معلوم؛ إذ لم يكن لهم دولة تمارس سلطانها عليهم، وينزلون لها عن حظ مِن حريتهم واستقلالهم، كما أن السخط على الأوضاع كان منتشرًا بين كثير منهم آنذاك، هذا السخط الذي كان إحدى عُدَد الإسلام في مواجهة الجاهلية وأوضاعها الباطلة التي جاء ليغيِّرها إلى ما هو أفضل، ثم إنه من غير المنطقي أن يخترع العرب في عصور التدوين كل تلك الخطب وكل أولئك الخطباء من العدم ودون أن يقوم من بينهم من يفضح هذا التزييف، وكأن الأمة قد صارت كلها أمة من الكذابين أو من الكذابين والسذج المغفلين الذين يجوز عليهم مثل هذا الخداع دون أن يثير فيهم إنكارًا أو حتى دهشة واستغرابًا!

    على كل حال، فطه حسين إنما يسير في إنكاره للنثر الجاهلي على ذات الدرب المتخبِّط الأهوج الذي سار عليه في نفيه للشعر الجاهلي كله تقريبًا مشايعًا المحترق مرجليوث في خُرقه وضلاله وعمى منطقه وبصيرته! وفوق ذلك فمن الصعب على العرب، كما يلاحظ بحق عبدالله عبدالجبار ود. محمد عبدالمنعم خفاجي، أن يرتقوا فجأة في ميدان الخطابة هذا الارتقاء الذي يقر هو به بعد الإسلام لو كانوا لا يعرفون الخطابة في الجاهلية، أو كانت خطابتهم على الأقل من التفاهة وعدم الغَناء بالموضع الذي يزعم طه حسين؛ (انظر كتابهما: "قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي"/ مكتبة الكليات الأزهرية/ 1400هـ - 1980م/ 202 - 203)، كذلك قد قفشه د. محمد عبدالعزيز الموافي قفشة بارعة بحق حين لفت الانتباه إلى أن طه حسين عندما أنكر وجود الخطابة الجاهلية إنما كان اعتماده في ذلك الإنكار على خلوِّ العصر الجاهلي من الحضارة والحياة المدنية الراقية، مع أنه سبق أن أقام إنكاره لصحة الشعر الجاهلي على القول بأن ذلك الشعر لا يمثل الحياة العقلية الراقية لدى الجاهليين؛ (د. محمد عبدالعزيز الموافي/ قراءة في الأدب الجاهلي/ ط7/ دار الثقافة العربية/ 1424هـ - 2003م/ 286 - 287)، ونضيف نحن أنه، رغم نفيه هنا أن يكون للجاهليين أي نشاط ديني عملي، كان قد أقام إنكاره للشعر الجاهلي على عدة أسس، من بينها: أن هذا الشعر لا يعكس حياتهم الدينية، فأي حياة دينية يعكسها إذا لم تكن لهم حياة دينية عملية أصلًا كما يقول هو بعظمة لسانه؟ أي إنه يقول بالشيء ونقيضه لتقرير ما يريد تقريره دون مبالاة باعتبارات المنطق أو حقائق التاريخ، مع الاستعانة بالسفسطة السخيفة التي لا تُحق حقًّا ولا تُبطِل باطلًا! ولقد فات د. طه أن هناك نصوصًا شِعرية جاهلية تذكر الخطابة والخطباء في ذلك العصر، وهو دليل آخر على وجود الخطابة والخطباء أوانئذ، ومن هذه الأشعار قول ربيعة بين مقروم الضبي:
    ومتى تقُمْ عند اجتماعِ عشيرةٍ ♦♦♦ خطباؤُنا بين العشيرة يُفصَلِ

    وقول أبي زبيد الطائي:
    وخطيبٍ إذا تمعرت الأو ♦♦♦ جه يومًا في مأقط مشهود

    وقول النجاشي الحارثي:
    وخطيب إذا تمعرت الأو ♦♦♦ جه يشجى به الألدُّ الخصيم

    وقول بلعاء بن قيس الكناني:
    ألا أبلِغْ سراقةَ يا بن مال ♦♦♦ فبئس مقالةُ الرجلِ الخطيب

    وقول ملاطم الفزاري:
    ذكَرْت برؤيتي حَمَل بن بدر ♦♦♦ وصاحبَه الألدَّ على الخطيب

    وقول أوس بن حجر:
    أمْ مَنْ يكون خطيبَ القومِ إذ حفلوا ♦♦♦ لدى الملوكِ ذوي أَيْدٍ وأفضالِ؟

    وقول عامر بن فضالة:
    وهم يَدْعمون القولَ في كلِّ محفَلٍ ♦♦♦ بكلِّ خطيبٍ يترُكُ القومَ كُظَّمَا

    وقول عامر المحاربي:
    يقومُ فلا يَعْيَا الكلامَ خطيبُنا ♦♦♦ إذا الكربُ أنسى الجِبْسَ أن يتكلَّفا

    وقول عمرو بن الإطنابة:
    والقائلين فلا يُعابُ خطيبُهم ♦♦♦ يومَ المقالةِ بالكلامِ الفاصل

    وقول عمرو بن كلثوم:
    وأبي الذي حمَل المِئين وناطقُ الـ ♦♦♦ معروف إذ عيَّ الخطيبُ المِفصَلا

    وقول أميمة بنت أمية:
    وكم مِن ناطقٍ فيهم ♦♦♦ خطيبٍ مِصْقَعٍ مُعرِبِ

    وقول زبان بن سيار الفزاري:
    كلُّ خطيبٍ منهمُ مَؤُوفُ

    ومعروف أن كل وفد من الوفود القَبلية التي قدمت على النبي عليه السلام في المدينة في العام التاسع للهجرة كان يضم بين أفراده خطباء يتكلمون باسم الوفد ويتبادلون الخطابة مع الرسول عليه السلام ومَن حوله من الصحابة، وهذا أيضًا من الأدلة التي لا يمكن نقضها مهما سفسط الدكتور طه، وقد تعرض لذلك د. جواد علي في المجلد الرابع من كتابه: "المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام"؛ (في الفصل الخاص بـ"النثر"، تحت عنوان "الخطابة")؛ إذ قال: "والخطابة عند الجاهليِّين حقيقة لا يستطيع أحد أن يجادل في وجودها، ودليل ذلك خطب الوفود التي وفدت على الرسول، وهي لا تختلف في أسلوب صياغتها وطريقة إلقائها عن أسلوب الجاهليين في الصياغة وفي طرق الإلقاء، ثم إن خطب الرسول عليه السلام في الوفود وفي الناس وأجوبته للخطباء هي دليل أيضًا على وجود الخطابة بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة عند الجاهليين"، وإن كان من رأيه أن هناك خطبًا جاهلية منحولة، وأن نصوص الخطب الصحيحة لم تصل إلينا كما قيلت، بل دخلها التغيير بفعل الزمن وضعف الذاكرة البشرية، وبخاصة أن الخُطب ليست كالشعر؛ أي: ليس فيها وزن وقافية يساعدان على حِفظها.
    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: دراسة للخطب في الجاهلية

    دراسة للخطب في الجاهلية (1)


    د. إبراهيم عوض




    وعلى عكس ما يهرف به طه حسين هنا على النحو الذي كان معروفًا عنه عند عودته من أوربا متصورًا أنه قد حاز العلم كله وأن القول ما قال المستشرقون، الذين كان يردد كلام من يشككون منهم في تاريخ العرب وأمجادهم بعُجره وبُجره دون أن يتريث لحظة واحدة للتثبت مما يقوله هذا الصنف الموتور منهم، على عكس ذلك يؤكد أحمد حسن الزيات أن العرب، بنفوسهم الحساسة ونزوعهم إلى الحرية والاستقلال وميلهم إلى الفَخَار وما كانوا يتسمون به من غَيرة ومسارعة للنجدة وبلاغة في القول وذلاقة في اللسان وما عرفوه من الوفود والسفارات، كانوا مهيئين للتفوق في ميدان الخطابة، مبينًا أن خطبهم كانت تتسم بالقِصر والسجع حتى تعلق بالذهن عُلوقًا سهلًا؛ (أحمد حسن الزيات/ تاريخ الأدب العربي/ 19)، وبالمثل يقرر د. علي الجندي بحق أنه قد "ثبت أن (العرب) كانوا يخطبون في مناسبات شتى: فبالخطابة كانوا يحرضون على القتال استثارة للهمم وشحذًا للعزائم، وبها كانوا يحثون على شن الغارات حبًّا للغنيمة أو بثًّا للحمية رغبة في الأخذ بالثأر، وبالخطابة كانوا يدعون للسلم حقنًا للدماء ومحافظة على أواصر القربى أو المودة والصلة، ويحببون في الخير والتصافي والتآخي، ويُبغِّضون في الشر والتباغض والتنابذ، وبالخطابة كانوا يقومون بواجب الصلح بين المتنافرين أو المتنازعين، ويؤدون مهام السفارات جلبًا لمنفعة أو درءًا لبلاء أو تهنئة بنعمة أو تعزية أو مواساة في مصيبة، فوق ما كانت الخطابة تؤديه في المصاهرات، فتلقى الخطب ربطًا لأواصر الصلة بين العشائر وتحبيب المتصاهرين بعضهم في بعض"؛ (د. علي الجندي/ في تاريخ الأدب الجاهلي/ 264 - 265)، وعلى هذا الرأي أيضًا نجد د. أحمد الحوفي، الذي يسارع مع هذا إلى الاستدراك بأن العرب، بخلاف ما كان الحال عليه لدى الرومان واليونان، لم يكونوا يعُدُّون خطبهم قبل إلقائها، بل كانوا يعتمدون على الارتجال والبديهة، ومن هنا جاءت خطبهم لمعًا بارقة دون تفصيل أو تخطيط؛ (أحمد محمد الحوفي/ فن الخطابة/ مكتبة نهضة مصر/ 150 - 151)، أما السباعي بيومي فيرى أن خطباء العرب كانوا يحفلون بخطبهم أيما حُفُول، "فيتخيرون لها من المعاني أشرفها، ومن الألفاظ أفصحها، لتكون أشد وقعًا على النفوس، وأبعد تأثيرًا في القلوب، وأيقظ للهمم، وأحث على العمل"؛ (تاريخ الأدب العربي - ج 1 في العصر الجاهلي/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 97)، ومن قبل سرد ابن وهب الموضوعات التي كانت تدور عليها الخطب آنذاك قائلًا: إن "الخطب تستعمل في إصلاح ذات البين وإطفاء نائرة الحرب (أي نارها وشرها)، وحمالة الدماء والتسديد للملك، والتأكيد للعهد، وفي عقد الإملاك (أي الزواج)، وفي الدعاء إلى الله عز وجل، وفي الإشادة بالمناقب (الأعمال الجليلة)، ولكل ما أُريد ذكره ونشره وشهرته بين الناس"؛ (ابن وهب/ البركان في وجوه البيان/ تحقيق حفني شرف/ مطبعة الرسالة/ 1969م/ 150)، ومن العجيب أن طه حسين قد عاد بعد ذلك فأقر بوجود خطب في الجاهلية، إلا أنها لم يبقَ منها شيء؛ (انظر كتابه: "خصام ونقد"/ ط9/ دار العلم للملايين/ 1979م/ 212).

    أما د. شوقي ضيف فيسلك سبيلًا مخالفة للفريقين جميعًا؛ إذ بينما نراه يؤكد وجود الخطابة والخطباء في الجاهلية وتوفر العوامل السياسية والدينية والاجتماعية التي تكفل لها الازدهار؛ إذ به يشك في كل ما وصلنا تقريبًا عن ذلك العصر من خُطب، والسبب في هذا الشك لديه هو بُعد الشُّقَّة الزمنية بين العصر الجاهلي وعصر التدوين أيام العباسيين، ومع ذلك نجده يقول: إن مَن زيفوا نصوص الخطب الجاهلية كانوا بلا شك يعتمدون على نصوص جاهلية صحيحة وضعوها أمامهم واحتذوها، وعلى هذا فإذا وجدنا أن كثيرًا من الخطب والمفاخرات والمنافرات التي تنسب إليهم مجودة مسجوعة مثلًا، فمعنى هذا أنهم في الجاهلية كانوا يجودون ويسجعون في خطبهم ومفاخراتهم ومنافراتهم فعلًا؛ (د. شوقي ضيف/ العصر الجاهلي/ 410 - 419، والفن ومذاهبه في النثر العربي/ ط7/ دار المعارف/ 1974م/ 33 - 38).

    إلا أننا مع احترامنا للأستاذ الدكتور وتقديرنا للفصلين اللذين كسرهما لهذا الموضوع في كتابيه المشار إليهما وما فيهما من علم وتحليل، لا نستطيع أن نسلم بما يقول على علَّاته؛ إذ لا معنى لكلامه هذا إلا أنه قد وصلت فعلًا إلى مخترعي الخطب الجاهلية نصوص صحيحة منها قاسوا عليها ما صنعوه ونسبوه إلى الجاهليين، فلماذا رموها خلف ظهورهم واكتفوا بما اخترعوه رغم تَيْح الأصل لهم؟ وإذا كانوا لأمر ما غير مفهوم قد أقدموا على هذا الصنيع الأخرق فكيف لم يُتَحْ لهذه النصوص الصحيحة مَن يعرف لها قدرها ويحفظها من الضياع؟ وقبل ذلك من قال: إن بُعد الزمن ما بين الجاهلية وعهد التدوين كفيل بإنساء العربي تراث آبائه وأجداده؟ لقد عُرف العربي بذاكرته القوية وحرصه على تاريخه وأدبه واعتزازه بالكلمة الفنية التي ينتجها نثرًا كانت أو شعرًا، وقيام حياته الثقافية على الحفظ والرواية والتمثل المستمر بنتاج قرائح الشعراء والمتكلمين بحيث كان من الصعب أشد الصعوبة انتساخ تراثه القولي، فإذا أضفنا أن كثيرًا من خطبهم في الجاهلية كان مسجعًا مجنسًا مراعى فيه الموازنة وقِصر الجُمل، فضلًا عن قِصر الخُطب نفسها تبين لنا أن حفظ مثل هذا النتاج الأدبي لم يكن بالمهمة الشديدة الصعوبة، بله المستحيلة، كما يتخيل البعض منا قياسًا على ما يخبرونه من الذاكرة العربية الحالية، وهي ذاكرة لا تتمتع بما كانت تتمتع به سليفتها الجاهلية من حدة ودقة، مثلما لا يتمتع أصحابها بما كان يتمتع به نظراؤهم أوانذاك من اهتمام فائق بالكلمة المشعورة والمنثورة رغم تصورنا العكس اعتمادًا على ظواهر الحال المضللة، ولا ننسَ أيضًا أن العقل الجاهلي لم يكن ينوء بما ننوء به الآن من مشاغل ومتاعب تصرفنا صرفًا عن الحفظ والاهتمام برواية الأشعار والخطب على النحو الذي كان عليه الوضع في العصر الجاهلي، وفوق هذا فإن الأمية التي كانت تسم مجتمعهم بوجه عام قد دفعتهم دفعًا إلى الاستعمال المكثف والمستمر للذاكرة بما يجعلها ناشطة نشاطًا لا نعرفه الآن، وعلى كل حال فقد قال الأستاذ الدكتور أيضًا - كما رأينا -: إن الذين اخترعوا الخطب ونسبوها للجاهليين قد قاسُوها على ما وصلهم من خطب جاهلية حقيقية؛ أي إن بُعد الزمن لم يكن له ذلك التأثير الذي عزاه إليه وعلل به شكه في صحة خطب الجاهلية التي بلغتنا، "الواقع أن آخر كلامه ينقض أوله بكل أسف! بيد أن قولنا بقدرة الذاكرة العربية على تأدية المحفوظ من نصوص الخطابة الجاهلية شيء، والزعم بأنها قد أدته على وجهه لم تخرم منه شيئًا، فلم تضف إليه ما ليس منه ولم تنقص منه ما كان فيه، ولم تبدل بعض ألفاظه وعباراته أو معانيه ومضامينه، هو شيء آخر مختلف؛ فالذاكرة البشرية، ككل شيء في عالم البشر، عُرضة للسهو والكلال والالتباس، ودعنا من النصوص التي زيفت تزييفًا واخترعت اختراعًا مما سنتناوله بشيء من التفصيل فيما يلي حينما نقف عند طائفة من النصوص الخطابية التي ليست قمينة في نظرنا بالقبول والاطمئنان.

    ومن هذه الخُطب المنسوبة للجاهلية التي يصعب علينا القول بجاهليتها: تلك الخطب التي يُفترض أن أصحابها يتنبؤون فيها بمجيء "محمد" عليه الصلاة والسلام؛ إذ السؤال هو: من أين لأصحابها هذا العلم بالغيب؟ إن الغيب هو من شأن الله سبحانه وتعالى وحده، لا يعلمه أحد سواه، يقول بهذا القرآن والحديث وينطق به العقل والمنطق، ولو أن الذين قالوا هذا كانوا يهودًا أو نصارى لقلنا: ربما قرؤوه في كتبهم، لكنهم لم يكونوا هودًا ولا نصارى، فأنى لهم ذلك؟ وحتى لو كانوا من أهل الكتاب فإن الذي في القرآن أن عيسى قد بشَّر برسول يأتي من بعده اسمه "أحمد"؛ (الصف/6)، على حين أن اسم النبي في هذه الخُطب هو "محمد"! ليس ذلك فحسب، بل هناك أسئلة أخرى لا نستطيع الإجابة عليها لو قبلنا صحة هذه الخطب، وهي: لو أن ما جاء في تلك الأحاديث صحيح تاريخيًّا، فكيف لم يحاجِجِ النبي به قومه فيقول لهم مثلًا: لقد سبق أن سمعتم بأن هناك نبيًّا من قريش سوف يظهر، اسمه محمد، فكيف تكفرون بي بعد أن قال كهَّانكم أنفسهم ذلك قبل ولادتي؟ لكننا ننظر في كلامه صلى الله عليه وسلم وفي القرآن الكريم فلا نجد أثرًا لمثل هذه الحجة التي كان من شأنها أن تعضد موقفه عليه السلام أيما تعضيد! كذلك فبعض هذه الخطب قد نسب لكعب بن لؤي جد النبي البعيد، ولو كان هذا صحيحًا فكيف لم يُذكِّر عليه السلام أهل بيته الذين كفروا به؛ كعمه أبي لهب مثلًا أو عمه أبي طالب بما قاله جدهم، ونحن نعرف أن الجاهليين كانوا يتمسكون أشد التمسك بما كان عليه الآباء والأجداد، كما تبدى في رد الأخير فيما يروون عنه عند موته؛ إذ اعتذر عن الدخول في دعوة محمد على أساس أنه لا يحب المخالفة عن دين آبائه؟ وعلى هذا فإننا نقف مرتابين أشد الريبة إزاء الخطبة التالية التي ينسبونها لجد النبي ذاك، والتي يقول فيها: "اسمعوا وعوا، وتعلَّموا تعلَموا، وتفهَّموا تفهموا، ليل ساج، ونهار صاج، والأرض مهاد، والجبال أوتاد، والأولون كالآخرين، كل ذلك إلى بلاء، فصِلُوا أرحامكم، وأصلحوا أحوالكم، فهل رأيتم من هلك رجع، أو ميتًا نُشر؟ الدار أمامكم، والظن خلاف ما تقولون، زيِّنوا حرَمكم وعظموه، وتمسكوا به ولا تفارقوه، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم.
    نهارٌ وليلٌ واختلافُ حوادثٍ
    سواء علينا حلوُها ومريرُها

    يؤوبان بالأحداث حتى تأوَّبا
    وبالنعَم الضافي علينا ستورُها

    يؤوبان بالأحداث حتى تأوَّبا
    لها عُقَدٌ ما يستحيل مريرُها

    على غفلةٍ يأتي النبي محمد
    فيُخبرُ أخبارًا صَدُوقًا خبيرُها



    يا ليتَني شاهدٌ فحواءَ دعوتِه
    حين العشيرةُ تَبْغي الحقَّ خِذلانَا"



    وهذه الخُطبة، فوق ذلك، تحتوي على أشياء أخرى تدفعنا إلى مزيد من التشكك فيها، منها أن العبارة التي يتمنى فيها كعب أن يكون حيًّا عند ظهور محمد تذكرنا بما قاله في نفس المعنى ورقة بن نوفل، الذي كان هناك سببٌ وجيه لكلامه هذا، ألا وهو أنه كان يخاطب النبي عليه السلام، فمن الطبيعي أن يتمنى مثل هذه الأمنية؛ إذ ها هو ذا النبي الموعود واقفًا أمامه يجاذبه أطراف الحديث حول ما رآه في الغار عند ظهور جبريل له، فيجد من واجبه الإنساني على الأقل أن يبصره بما ينتظره من متاعب عند بدء الدعوة الفعلية، ويُظهر له تعضيده ويرفع من روحه المعنوية، أما كعب فكانت بينه وبين النبي الذي يتحدث عنه من الزمن ما لا معنى معه لما قال، وفضلًا عن ذلك فمِيسَم القرآن الكريم واضح وضوحًا كبيرًا في خطبته أسلوبًا ومعنى؛ كما في قوله: "والأرض مهاد، والجبال أوتاد، والأولون كالآخرين... فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم"، وهو ما يذكرنا بقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ [النبأ: 7]، ﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الواقعة: 49، 50]، ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴾ [ص: 67]، ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ﴾ [الدخان: 17]، ولو كان كعب قال ذلك فعلًا لكان حجة للمشركين يشهرونها بكل بساطة وشماتة في وجهه صلى الله عليه وسلم قائلين له: ما بالك تأخذ كلام جدك وتدعي أنه من وحي السماء؟ ثم ما معنى نصحه إياهم أن يتمسكوا بالبيت الحرام ولا يفارقوه؟ هل سمع أحد أن قريشًا فكرت يومًا في شيء من هذا القبيل، وهي التي لم يكن لها شرف في العرب إلا شرف القيام على أمر البيت الحرام؟ وبالمناسبة لماذا لم يعرج كعبٌ على الأوثان التي كانت في بيت الله فيزجر قومه من عبادتها وتقديسها ما دام يتحدث بهذا السرور والإيمان عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟ والطريف أن أحدًا من سامعيه لم يخطر له أن يستفسر منه عمن يكون محمد هذا، أو يستغرب ظهور نبي من العرب أصلًا، بل إنه لمن الواضح أن كعبًا، حسب الخطبة التي طالعناها لتونا، لم يكن يدور في باله أن محمدًا هذا لن يكون أحدًا آخر غير حفيد من أحفاده سيولد بعد عدة أجيال!

    وعلى نفس الشاكلة تجري الأحاديث التالية المنسوبة إلى خنافر بن التوءَم الحِميري وشافع بن كليب الصدفي وسطيح الذئبي وشق أنمار وعفيراء الكاهنة على التوالي:
    1- حديث خُنافر بن التوءَم الحِميري مع رئيه شصار: "كان خنافر بن التوءم الحميري كاهنًا، وكان قد أوتي بسطة في الجسم وسعة في المال، وكان عاتيًا، فلما وفدت وفود اليمن على النبي وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها، وخرج بأهله وماله ولحق بالشحر، فخالف جودان بن يحيى الفرضمي، وكان سيدًا منيعًا، ونزل بواد من أودية الشحر مخصب كثير الشجر من الأيك والعرين، قال خنافر: وكان رئيي في الجاهلية لا يكاد يتغيب عني، فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة، وساءني ذلك، فبينا أنا ليلة بذلك الوادي نائمًا إذ هوى (انحدر في الجو) هوي العقاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسمع أقل، قلت: قُل أسمع، فقال: عِهْ تغنَمْ، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية، قلت: أجل، فقال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، انتُسخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك سجير (أي صديق) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنست بأرض الشأم نفرًا من آل العُذام (يقصد قبيلة من الجن)، حكامًا على الحكام، يذبرون (يقرؤون) ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزُجرت، فعاودت فظُلفت (أي منعت)، فقلت: بمَ تُهَيْنِمون؟ وإلام تعتزون؟ قالوا: خطاب كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنجُ من أوار النار، فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مُضر، من أهل المدر، ابتعث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجًا قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومَعاذ لمن ازدجر، ألف بالآي الكبر، قلت: ومن هذا المبعوث من مُضر؟ قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشَّبر (أي الخير)، وإن خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل كافر، وشايع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفِراق، لا عن تلاق، قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإحرين، والنفر اليمانين، أهل الماء والطين، قلت: أوضح، قال: الحق بيثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل، فهناك أهل الطول والفضل، والمواساة والبذل، ثم امَّلَس عني، فبت مذعورًا أراعي الصباح، فلما برق لي النور امتطيت راحلتي وآذنت أعبُدي واحتملت بأهلي حتى وردت الجوف، فرددت الإبل على أربابها، بحولها وسقابها (أي بجمالها ونوقها، جمع: "حائل" و"سقب")، وأقبلت أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل أميرًا لرسول الله، فبايعته على الإسلام، وعلمني سورًا من القرآن، فمنَّ الله علي بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة".

    2- شافع بن كليب الصدفي يتكهن بظهور النبي: "قدم على تُبَّع الآخر ملك اليمن قبل خروجه لقتال المدينة شافع بن كليب الصدفي، وكان كاهنًا، فقال له تُبَّع: هل تجد لقومٍ ملكًا يوازي ملكي؟ قال: لا، إلا ملك غسان، قال: فهل تجد ملكًا يزيد عليه؟ قال: أجده لبارٍّ مبرور، ورائد بالقهور، ووصف في الزبور، فضلت أمته في السفور، يفرج الظلم بالنور، أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجي، أحد بني لؤي، ثم أحد بني قُصي، فنظر تبع في الزبور، فإذا هو يجد صفة النبي".

    3- سطيح الذئبي يعبر رؤيا ربيعة بن نصر اللخمي: "رأى ربيعة بن نصر اللخمي ملك اليمن، وقد ملك بعد تبع الآخر، رؤيا هالته، فلم يدَعْ كاهنًا ولا ساحرًا ولا عائفًا ولا منجمًا من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبروني بها وبتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها؛ فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها، فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق؛ فإنه ليس أحد أعلم منهما فيها، يخبرانه بما سأل عنه، فبعث إليهما فقدم عليه سطيح قبل شق، فقال له: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبرني بها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها، قال: أفعل، رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة، فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئًا يا سطيح، فما عندك في تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش، فقال له الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني هذا أم بعده؟ قال: لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: لا، بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ثم يقتلون بها أجمعين، ويخرجون منها هاربين، قال: ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحدًا منهم باليمن، قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع، قال: ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من قبل العلي، قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون"، قال: أحق ما تخبرنا يا سطيح؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا انشق، إن ما أنبأتك به لحق".

    4- شِق أنمار يعبر رؤيا ربيعة بن نصر أيضًا: "ثم قدم عليه شقٌّ فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان، قال: نعم، رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة، فلما سمع الملك ذلك قال: ما أخطأت يا شق منها شيئًا، فما عندك في تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران، فقال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده؟ قال: لا، بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان، قال: ومن هذا العظيم الشان؟ قال: غلام ليس بدني ولا مُدن، يخرج عليهم من بيت ذي يزن، قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل، قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم تجزى فيه الولاة، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويُجمع فيه بين الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات، قال: أحق ما تقول؟ قال: إي ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض، فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له: سابور، فأسكنهم بالحيرة، فمن بقية ولده النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر".

    5- وفود عبدالمسيح بن بُقيلة على سطيح: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما كان ليلة وُلد النبي ارتج إيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة، فعظم ذلك على أهل مملكته، فما كان أوشك أن كتب إليه صاحب اليمن يخبره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة، وكتب إليه صاحب السماوة يخبره أن وادي السماوة انقطع تلك الليلة، وكتب إليه صاحب طبرية أن الماء لم يجرِ تلك الليلة في بحيرة طبرية، وكتب إليه صاحب فارس يخبره أن بيوت النيران خمدت تلك الليلة، ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة، فلما تواترت الكتب أبرز سريره (أي عرشه) وظهر لأهل مملكته فأخبرهم الخبر، فقال الموبذان: أيها الملك، إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني، قال له: وما رأيت؟ قال: رأيت إبلًا صعابًا، تقود خيلًا عرابًا، قد اقتحمت دجلة وانتشرت في بلادنا، قال: رأيت عظيمًا، فما عندك في تأويلها؟ قال: ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء، ولكن أرسل إلى عاملك بالحيرة يوجه إليك رجلًا من علمائهم؛ فإنهم أصحاب علم بالحدثان، فبعث إليه عبدالمسيح بن بُقيلة الغساني، فلما قدم عليه أخبره كسرى الخبر، فقال له: أيها الملك، والله ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء، ولكن جهزني إلى خال لي بالشام يقال له: سطيح، قال: جهزوه، فلما قدم إلى سطيح وجده قد احتُضر، فناداه فلم يجبه، وكلمه فلم يرد عليه، فقال عبدالمسيح:
    أصمُّ ألم يسمع غِطْريف اليمن؟
    يا فاضل الخطة أعيَتْ مَن ومن؟

    أتاك شيخ الحي من آل سَنَنْ
    أبيض فضفاض الرداء والبدَنْ

    رسول قَيْل العجْم يهوي للوثن
    لا يرهب الرعدَ ولا ريبَ الزمَنْ
    يتبع



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: دراسة للخطب في الجاهلية

    دراسة للخطب في الجاهلية (1)


    د. إبراهيم عوض





    فرفع إليه رأسه وقال: عبدالمسيح، على جمل مُشيح (أي سريع)، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلًا صعابًا، تقود خيلًا عرابًا، قد اقتحمت في الواد، وانتشرت في البلاد، يا عبدالمسيح، إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقامًا، ولا الشام لسطيح شامًا، يملك منهم ملوك وملكات، عدد سقوط الشرفات، وكل ما هو آتٍ آت، ثم قال:
    إن كان ملكُ بني ساسان أفرَطهم
    فإن ذا الدهرَ أطوارًا دهاريرُ

    منهم بنو الصرح بهرامٌ وإخوتُه
    والهرمزان وسابورٌ وسابور

    فربما أصبحوا يومًا بمنزلةٍ
    تهاب صولَهم الأُسْدُ المهاصير

    حَثُّوا المطيَّ وجدُّوا في رحالهمو
    فما يقوم لهم سَرْج ولا كُور

    والناس أولادُ علَّات، فمن علِموا
    أن قد أقلَّ فمحقورٌ ومهجور

    والخير والشرُّ مقرونانِ في قرَن
    فالخير متَّبَعٌ، والشر محذور


    ثم أتى كسرى فأخبره بما قاله سطيح، فغمه ذلك، ثم تعزى فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكًا يدور الزمان، فهلكوا كلهم في أربعين سنة، وكان آخر من هلك منهم في أول خلافة عثمان رضي الله عنه".

    6- عُفيراء الكاهنة تعبر رؤيا مرثد بن عبدكلال: "روي أن مرثد بن عبدكلال قفل من غزاةٍ غزاها بغنائم عظيمة، فوفد عليه زعماء العرب وشعراؤها وخطباؤها يهنئونه، فرفع الحجاب عن الوافدين وأوسَعَهم عطاءً واشتد سروره بهم، فبينما هو كذلك إذ نام يومًا فرأى رؤيا في المنام أخافته وأذعرته وهالته في حال منامه، فلما انتبه أنسيها حتى لم يذكر منها شيئًا وثبت ارتياعه في نفسه بها، فانقلب سروره حزنًا، واحتجب عن الوفود حتى أساؤوا به الظن، ثم إنه حشر الكهان فجعل يخلو بكاهن كاهن، ثم يقول له: أخبرني عما أريد أن أسألك عنه، فيجيبه الكاهن بأنْ لا علم عندي، حتى لم يدع كاهنًا علمه إلا كان إليه منه ذلك، فتضاعف قلقه، وطال أرقه، وكانت أمه قد تكهنت، فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك! إن الكواهن أهدى إلى ما تسأل عنه؛ لأن أتباع الكواهن من الجان، ألطفُ وأظرف من أتباع الكهان، فأمر بحشر الكواهن إليه وسألهن كما سأل الكهان، فلم يجد عند واحدة منهن علمًا مما أراد علمه، ولما يئس من طلبته سلا عنها، ثم إنه بعد ذلك ذهب يتصيد فأوغل في طلب الصيد وانفرد عن أصحابه فرفعت له أبيات من ذرا جبل (أي في ظل جبل)، وكان قد لفحه الهجير فعدل إلى الأبيات وقصد بيتًا منها كان منفردًا عنها، فبرزت إليه منه عجوز فقالت له: انزل بالرحب والسعة، والأمن والدعة، والجفنة المدعدعة (الممتلئة عن آخرها)، والعُلبة المترعة، فنزل عن جواده ودخل البيت، فلما احتجب عن الشمس وخفقت عليه الأرواح (أي النسائم) نام فلم يستيقظ حتى تصرَّم الهجير، فجلس يمسح عينيه، فإذا هو بين يديه فتاة لم يرَ مثلها قوامًا ولا جمالًا، فقالت: أبيت اللعن أيها الملك الهمام، هل لك في الطعام؟ فاشتد إشفاقه وخاف على نفسه لما رأى أنها عرَفته، وتصامَّ عن كلمتها، فقالت له: لا حذر، فداك البشر، فجدُّك (حظك) الأكبر، وحظنا بك الأوفر، ثم قربت إليه ثريدًا وقديدًا وحيسًا، وقامت تذب عنه حتى انتهى أكله، ثم سقته لبنًا صريفًا وضريبًا، فشرب ما شاء، وجعل يتأملها مقبلة ومدبرة، فملأت عينيه حُسنًا، وقلبه هوًى، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي عُفيراء، فقال لها: يا عفيراء، من الذي دعوته بالملك الهمام؟ قالت: مرثد العظيم الشان، حاشر الكواهن والكهان، لمعضلة بعد عنها الجان، فقال: يا عفيراء، أتعلمين تلك المعضلة؟ قالت: أجل أيها الملك، إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث أحلام، قال الملك: أصبت يا عفيراء، فما تلك الرؤيا؟ قالت: رأيت أعاصير زوابع، بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع، وسمعت فيما أنت سامع، دعاء ذي جرس صادع: هلموا إلى المشارع، فرَوِيَ جارع، وغرق كارع، فقال الملك: أجل، هذه رؤياي، فما تأويلها يا عفيراء؟ قالت: الأعاصير الزوابع ملوك تبابع، والنهر علمٌ واسع، والداعي نبيٌّ شافع، والجارع ولي تابع، والكارع عدو منازع، فقال الملك: يا عفيراء، أسلمٌ هذا النبي أم حرب؟ فقالت: أقسم برافع السماء، ومنزل الماء، من العماء، إنه لمُطل الدماء، ومُنَطِّق العقائل نُطُق الإماء، فقال الملك: إلامَ يدعو يا عفيراء؟ قالت: إلى صلاة وصيام، وصلة أرحام، وكسر أصنام، وتعطيل أزلام، واجتناب آثام، فقال الملك: يا عفيراء، إذا ذبح قومه فمن أعضاده؟ قالت: أعضاده غطاريف يمانون، طائرهم به ميمون، يغزيهم فيغزون، ويدمث بهم الحزون، وإلى نصره يعتزون، فأطرق الملك يؤامر نفسه في خِطْبتها، فقالت: أبيت اللعن أيها الملك! إن تابعي غيور، ولأمري صبور، وناكحي مثبور، والكلف بي ثبور، فنهض الملك وجال في صهوة جواده، وانطلق فبعث إليها بمائة ناقة كوماء".

    ونبدأ بحديث خُنافر، وفي هذا الحديث نلاحظ ما يلي: أن رئي خنافر قد تركه في عَمايته فلم يعلمه بأن نبيًّا جديدًا ظهر بدعوته في بلاد العرب، إلى أن أصبح الناس في تلك البلاد كلهم يعلمون ذلك، اللهم إلا خنافرًا، فعندئذ، وعندئذ فقط، تذكر شصار صاحبه الكاهن المسكين النائم على أذنه لا يدري خبر الإسلام رغم أن نوره كان قد دخل اليمن وأضحى لدولته فيها رسول من لدن النبي الكريم هو معاذ بن جبل رضي الله عنه، ترى ما دور شصار إذًا إذا لم يكن ما أنبأ به خنافرًا إلا خبرًا يعرفه القاصي والداني؟ إن معنى هذا أن شيطان خنافر قد هجره هجرًا غير جميل طوال ما يقرب من عشرين سنة؛ أي: منذ بدء النبوة إلى وقت دخول الإسلام اليمن في أواخر حياته صلى الله عليه وسلم، فكيف كان خنافر يمارس كهانته إذًا دون رئي من الجن؟ أم تراه توقف عن ممارستها كل تلك الفترة؟ لكن هل يمكن أن يكون ذلك؟ وهل يمكن أن يستعيض كاهن عن كهانته بالسرقة والإغارة على إبل الآخرين، وبخاصة أن خنافرًا لم يكن، كما هو بيِّن من القصة، ذا عزوة تمنعه من طلب القبائل المعتدى عليها وعملها على الثأر منه؟ كذلك ليس هناك سبب مفهوم لهجر شصار لصاحبه كل تلك المدة، وهذه ثغرة في القصة تحتاج إلى ما يملؤها، كما أن تهديده له بأنه إذا لم يعتنق الإسلام مثله فلن يراه مرة أخرى هو تهديد لا معنى له؛ لأن معنى هذا التهديد أن شصار لن يساعد خنافرًا في كهانته، مع أننا نعرف جيدًا أن الإسلام يكفِّر الكهان ويحاربهم دون هوادة، وهو ما يعني بكل وضوح أن اللقاء بينهما من الآن فصاعدًا سيكون لقاءً مجرَّمًا ومحرَّمًا أشد التجريم والتحريم، وهذا إن قبل الجني أن يقوم بدوره القديم المناقض لعقيدته الجديدة التي يدعو إليها خنافرًا! فكما ترى هذه ثغرة أخرى في القصة يصعب بل يستحيل سدها، ثم أليست القصة تريد أن تقول: إن شصار قد أتاه بخبر الغيب، فأي غيب هذا الذي كان يعرفه الجميع في أرجاء الجزيرة الأربعة؟ بل لماذا لم يعرف شصار بدوره بنبأ الإسلام إلا من إخوان له من الجن كانوا قد آمنوا قبله؟ ولماذا يا ترى كانوا يزجرونه عن سماع القرآن الذي كانوا يتلونه؟ ألم يأتِ القرآن لهداية الجن والإنس؟ فهل ما يتناسب مع هذه الغاية أن يزجر عنه من يريد سماعه؟ فكيف يعرف إذًا ما جاء فيه من هدى ونور؟ إن سورة "الجن" والآيات 29 - 32 من سورة "الأحقاف" تحدثاننا عن سماع نفر من الجن للقرآن من الرسول عليه السلام دون أن يزجرهم زاجر، فلماذا جرى الأمر في قصتنا هذه على خلاف ذلك؟ ولماذا كان هؤلاء النفر من الجن من أهل الشام لا من أهل اليمن؟ أترى القصة تريد أن تقول: إن "الشيخ البعيد سره باتع"؟ أم تريد أن تجري على سُنة المثل القائل: "من أين أذنك يا جحا؟" كذلك ألم ينصح شصار لخنافر بأن يأتي النبي في المدينة؟ فلماذا اكتفى خنافرنا بلقاء معاذ بن جبل بعد كل هذا الكلام المشوق لرؤية النبي الكريم؟ يا له من كاهن كسول! بل لماذا أراد صنعاء من الأصل، ولم يأتِ لها ذكر في الحوار بينه وبين رئيه؟!

    ثم إذا كان الأمر على ما ترويه القصة، فهل كان خبر خنافر ليغيب عن كُتُب الحديث؟ كذلك لو كان ما قرأناه هنا صحيحًا لقد كان خبر ذلك الكاهن اليمني سلاحًا بتارًا في الدعاية لهذا الدين، فلماذا لم يستغله المسلمون؟ صحيح أنه إنما أسلم، كما رأينا، بأخرة، لكن لا شك أن خبره كان يمكن أن يكون ذا نفع جزيل في معركة الدعاية، بحيث يسهل إنجاز المهمة الباقية، وهي القضاء على فلول الوثنية في بلاد العرب، تلك الوثنية التي لم تكن قد خمدت تمامًا حتى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وانفجرت متخذة شكل ردة مستطيرة، ثم مصطلح "السجع المتكلف"، هذا المصطلح البلاغي الذي لم يعرفه العرب قبل عصر الازدهار الثقافي في العصر العباسي، من أين يا ترى للعرب الجاهليين بمعرفته؟ بل إن في الخطبة سجعًا متكلفًا لا قِبل للجاهليين به، كما هو واضح في المثال التالي: "خطاب كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنجُ من أُوار النار"، علاوة على هذه البهلوانية البلاغية الفنية الجميلة المتمثلة في هاتين الجملتين اللتين تبادلهما الكاهن والجني: "قال: اسمع أقل، قلت: قل أسمع"، والتي يصعب عليَّ أن أتصورها من شيم الأدب الجاهلي، ليس ذلك فحسب، فهذا الكلام المنسوب للجن، هل يمكن أن نصدقه؟ إن الجن عالم خفي لا نعرف نحن البشر عنه شيئًا سوى ما جاء في الوحي، كما هو الحال فيما أنبأ به رب العزة من كلامهم عندما استمعت طائفة منهم إلى القرآن الكريم لأول مرة، أما ما عدا هذا فأنا لا أستطيع أن أهضم شيئًا منه، كما هو الحال هنا، وبخاصة أنه كلام عربي، فهل الجن يتحدثون العربية، ويصطنعون السجع والجناس وسائر المحسِّنات البديعية أيضًا؟ وبطبيعة الحال لا يمكن القول بأنهم في سورتي "الأحقاف" و"الجن" قد استخدموا كذلك لسان بني يعرب؛ إذ الواقع أن ما نقرؤه هناك من كلامهم إنما هو ترجمة لما قالوه بلغتهم التي لا ندري نحن البشر عنها شيئًا.

    على أن القضية لما تنتهِ عند هذا الحد؛ إذ نقرأ قوله: "كان رئيي في الجاهلية لا يكاد يتغيب عني، فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة، وساءني ذلك، فبينا أنا ليلة بذلك الوادي نائمًا إذ هوى هويَّ العُقاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسمع أقل، قلت: قل أسمع، فقال: عِهْ تغنم، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية، قلت: أجل، فقال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، انتُسخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك سجير (أي صديق) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنست بأرض الشأم نفرًا من آل العُذام (يقصد أنه قابل قبيلة من الجن)، حُكامًا على الحكام، يذبرون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزُجرت، فعاودت فظُلفت (أي منعت)، فقلت: بمَ تُهَيْنِمون؟ وإلام تعتزون؟ قالوا: خطاب كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنجُ من أوار النار، فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مُضر، من أهل المدر، ابتُعث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجًا قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومَعاذ لمن ازدجر، ألف بالآي الكبر، قلت: ومن هذا المبعوث من مُضر؟ قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشبر (أي الخير)، وإن خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل كافر، وشايع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق، قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإحرين (أي الحجارة السود)، والنفر اليمانين، أهل الماء والطين"، ومعنى هذا الكلام أن خنافرًا، كما هو واضح من مفتتح حديثه، كان يعرف بمجيء الإسلام منذ البداية، لكننا نفاجأ، من خلال أسئلته عن الدين الجديد والرسول الذي جاء به والكتاب الذي نزل عليه، بأنه لم يكن يعرف شيئًا من ذلك بالمرة، فكيف يسوغ في العقل هذا؟
    ولقد تصادف بعد كتابة هذه الملاحظات بأيام، أن كنت أقرأ ما كتبه الدكتور جواد علي عن سجع الكهان في كتابه: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، فوجدته يقول عن هذه القصة: إنها "خبر يرجع سنده إلى ابن الكلبي، وقد ذكر في "الأخبار المنثورة" لابن دريد أنه (أي خنافرًا) أسلم على يد معاذ بن جبل باليمن، لا أدري كيف حفظه ابن الكلبي ورواه عن والده، الذي صنعه ووضعه، إلا أن يكون والده قد حضر المحاورة فكان يسجلها، وهو ما يُعد من المستحيلات"؛ أي إن في العلماء العرب من لا يطمئنون مثلي إلى هذه القصة، وإن كان من السهل الجواب على هذا السؤال في حد ذاته بالقول بأن والد ابن الكلبي، وإن لم يحضر واقعة إسلام خنافر والحوار الذي دار بينه وبين شصار قبلها، قد سمعها مع هذا ممن سمعها بدوره من فم ذلك الكاهن، وعلى هذا فالأفضل هنا اللصوق بالأدلة التي اعتمدت أنا عليها بدلًا من الالتجاء إلى التشكيك في ذمة الرواة.

    أما فيما يخص حديث شافع الصدفي فغريب أن يقول ذلك الكاهن: إن مُلك بني غسان أعظم من ملك التبابعة، على الرغم من أن الغساسنة لم يكونوا سوى مملكة صغيرة على حدود الروم لا قيمة لها حقيقية، على حين أن التبابعة كانوا يحكمون دولة كبيرة كاليمن ذات اتساع وتاريخ وحضارة معروفة لم يكن لدويلة غسان منها شيء! ثم غريب أيضًا أن تترك القصة التوراة والإنجيل وتذهب إلى الزبور لتقول: إنه قد وردت فيه البشارة بنبينا الكريم، مع أنه لم يأتِ في القرآن ولا في الحديث أن بشارة مثل هذه موجودة في الزبور! وبالنسبة لسطيح ونبوءته لربيعة اللخمي هل يجوز في العقول أن يجرؤ كاهن كسطيح على أن يجبه الملك ويُدخل الغم عليه بقول الحقيقة له كاملة ودون توشية، مع أنه كان في مندوحة عن هذا؛ إذ لم تكن النبوءة المزعجة لتقع قبل بضعة وسبعين عامًا يكون هو نفسه خلالها أو الملك قد مات، وكان الله يحب المحسنين؟ وهذا إن جاز لنا أن نصدق أن سطيحًا يمكن أن يعرف شيئًا من أمور الغيب المحجوب عن البشر والجن والملائكة جميعًا؟ ثم أليس غريبًا ألا يجد كسرى من بين كهانه في مملكته الطويلة العريضة من يستطيع أن يعبر له رؤياه حتى يرسل فيها لكاهن من كهان العرب؟ كذلك من غير المعقول أن يجرؤ كاهن على أن يجبه رسول كسرى بهذا التفسير المزعج للرؤيا، ثم يجبه هذا به عاهله دون محاولة من جانبه لتلطيف وقع الأمر، ودعنا الآن من التحوير في تعبير الرؤيا، كما قلنا من قبل عن رؤيا عاهل اليمن، تلك الرؤيا التي قام سطيح هو أيضًا بتفسيرها! ومن الغريب في الأمر أن أيًّا من كبار رجال فارس، حين بدأ الفتح الإسلامي لبلادهم، لم يتذكر رؤيا عاهلهم هذه، مع أنها ليست من الأشياء التي يمكن أن تنسى بسهولة؛ نظرًا لخطورة موضوعها والظروف التي رُئيت وفسرت فيها كما لاحظنا، وإلا فكيف وصلتنا هذه الرؤيا وتفسيرها إذا كانت قد امَّحَت من الذاكرة الفارسية؟ ثم لا ينبغي أن يفوت انتباهنا ما جاء في تعبير شق أنمار للرؤيا من عبارات وعقائد قرآنية كقوله: ﴿ يَوْمُ الْفَصْلِ ﴾ (الذي ورد في سورة "المرسلات"، وقوله أيضًا: "ورب السماء والأرض... إن ما أنبأتك به لحق؟"؛ (المأخوذ من سورة "الذاريات"، وقوله: "يوم الميقات"، (وهو مقلوب العبارة القرآنية: "ميقات يوم معلوم الموجودة في سورة "الواقعة)، بالإضافة إلى دعاء الأموات للقيام من رقدهم للحشر والحساب!

    كذلك هل يُعقل أن ترفض عفيراء خِطبة الملك لها؟ إن ما قالته في تعليل هذا الرفض لا يدخل العقل طبعًا بحال! ثم متى ذبح النبي قومه؟ وهل الأنصار وحدهم هم الذين نصروه؟ فأين ذهب الصِّدِّيق إذًا والفاروق وذو النورين وأبو الحسنين والحمزة وجعفر وزيد بن حارثة وأسامة بن زيد وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وعبدالله بن سلام وخالد وعمرو وأبو سفيان والمغيرة وأبو دجانة والنابغة الجعدي وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة وخنافر وعمرو بن معد يكرب وآلاف بعد آلاف مثلهم من غير الأنصار، من قريش ومن خارج قريش، من العرب ومن وراء العرب رضي الله عنهم جميعًا؟ أما ارتجاج الديوان الكِسْروي وانطفاء النيران في معابد زرادشت وجفاف بحيرة ساوة وما إلى ذلك فنعدي عنها؛ لأنها لا حقيقة لها في واقع التاريخ؛ ولذلك لم تتعرض لها كتب المسلمين الأوائل بشيء، وهو ما يذكرنا بأسطورة انشقاق الهيكل عند وقوع الصَّلب طبقًا لرواية مؤلِّفي (أو بالأحرى: ملفِّقي) الأناجيل! ثم لا ينبغي أن نتجاهل الوتيرة الواحدة التي تجري عليها كل هذه الأحاديث؛ إذ يقوم كل منها على السؤال من جانب تُبَّع، والجواب من جانب الكاهن أو الكاهنة بلا أي تغيير، حذوك النعل بالنعل!
    (... يتبع)
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: دراسة للخطب في الجاهلية

    دراسة للخطب في الجاهلية (2)


    د. إبراهيم عوض






    ومما لا يطمئن له قلب الباحث في خُطب الجاهليين ورود عبارات لا يمكن أن تكون من كلامهم ولا صدرت عنهم، كما في الشاهد التالي، وهو من خطبة عامر بن الظرب العدواني حين خطبت ابنته عمرة؛ إذ جاء فيها قوله لقومه: "فهل لكم في العلم العليم؟ قيل: ما هو؟ قد قلتَ فأصبتَ، وأخبرت فصدقتَ، فقال: أمورًا شتى وشيئًا شيًّا، حتى يرجع الميت حيًّا، ويعود لا شيء شيًّا"؛ إذ من المستبعد تمامًا أن يعرف الجاهليون مصطلح الـ"لا شيء" هذا، فهو لفظ منحوت لا أظنه أبدًا قد سُك ونزل إلى ساحة الكلام قبل العصر العباسي! بيد أن هذا لا يعني بالضرورة أن يكون النص كله مشكوكًا فيه، فإني لا أجد في نفسي شيئًا ذا بال من أن تكون هذه الخطبة، فيما عدا الكلمة المذكورة، قد قالها ذلك الرجل الجاهلي، إما كما هي أمامنا الآن أو بعد أن تكون الذاكرة أو الأقلام قد مستها بعض المس خلال رحلتها من عصر ما قبل الإسلام إلى عصر التدوين، وبخاصة أن قد رواها لنا أمثال الميداني والجاحظ وابن عبدربه حسبما ذكر أحمد زكي صفوت في ذيلها، فضلًا عن أن السجع فيها ليس متكلَّفًا ولا مطردًا، كما في بعض الخطب الأخرى.


    كما أن في بعض تلك الخطب ترفًا ثقافيًّا وأدبيًّا لا يقدر عليه الجاهليون، ومن ثم كنا لا نطمئن إليها، لنأخذ مثلًا النص التالي: "كان قيس بن رفاعة يفِدُ سنة إلى النعمان اللخمي بالعراق، وسنة إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بالشام، فقال له يومًا وهو عنده: يا بن رفاعة، بلغني أنك تفضل النعمان عليَّ، قال: وكيف أفضله عليك أبيت اللعن؟ فوالله لقفاك أحسن من وجهه، ولأمك أشرف من أبيه، ولأبوك أشرف من جميع قومه، ولشمالك أجود من يمينه، ولحرمانك أنفع من نداه، ولقليلك أكثر من كثيره، ولثمادك (أي قليل مائك) أغزر من غديره، ولكرسيك أرفع من سريره، ولجدولك أغمر من بحوره، وليومك أفضل من شهوره، ولشهرك أمد من حوله، ولحولك خير من حقبه (الحقب: القرن)، ولزندك أورى (أسرع إلى الاشتعال) من زنده، ولجندك أعز من جنده، وإنك لمن غسان أرباب الملوك، وإنه لمن لخم الكثير النوك (الكثير الحمقى)، فكيف أفضله عليك؟"، فمما لا يطمئن له القلب في قول قيس بن رفاعة للحارث بن أبي شمر العبارة التالية: "وليومك أفضل من شهوره، ولشهرك أمد من حوله، ولحولك خير من حُقبه"؛ إذ إن صياغة مثل تلك العبارة تحتاج إلى ما لا يحسنه الجاهليون من تنوُّق وترفُّه فكري وأسلوب يتمثل في التصاعد بالمعنى من اليوم إلى الشهر إلى الحول إلى الحقب في تسلسل جذاب تأخذ كل حلقة فيه بيد جارتها في شكل فني لا نظير له لدى الجاهليين، أما سائر الخطبة فلا أجد فيه شيئًا يبعث على الريبة.

    وإذا كان هناك من الخطب والأحاديث ما يرهقه السجع والجناس والموازنة وغير ذلك من زخارف البديع مما لا نعرفه في كلام الجاهليين ولا الإسلاميين، فإن هناك على العكس من ذلك خطبًا وأحاديث تخلو تمامًا من مثل ذلك التكلف، أو تكتفي من تزاويق البديع بالقليل الذي يسبغ على الكلام شيئًا من الرونق دون إسراف، كما في المثال التالي من الحوار الذي دار بين قيس بن خُفاف البرجمي وحاتم الطائي: "أتى أبو جبيل قيس بن خفاف البرجمي حاتم طيِّئ في دماء حملها عن قومه فأسلموه فيها وعجز عنها، فقال: والله لآتين من يحملها عني، وكان شريفًا شاعرًا، فلما قدم عليه قال: إنه وقعت بين قومي دماء فتواكلوها، وإني حملتها في مالي وأملي، فقدمت مالي، وكنت أملي، فإن تحملها فرب حق قد قضيته، وهم قد كفيته، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك، ولم أيْئَس من غدك، ثم أنشأ يقول:
    حملتُ دماءً للبراجمِ جمَّةً
    فجئتُك لمَّا أسلمتني البراجمُ


    وقالوا سفاهًا: لِمْ حملتَ دماءنا؟
    فقلت لهم: يكفي الحَمالةَ حاتمُ


    متى آتِه فيها يقل ليَ: مرحبًا
    وأهلًا وسهلًا، أخطأَتْك الأشائمُ


    فيحملها عني، وإن شئتُ زادني
    زيادة مَن حنَّتْ إليه المكارمُ


    يعيش الندى ما عاش حاتمُ طيِّئٍ
    فإن مات قامت للسخاء مآتمُ


    ينادين: مات الجودُ مَعْك فلا نرى
    مجيبًا له ما حامَ في الجوِّ حائمُ


    وقال رجالٌ: أنهب العام ماله
    فقلتُ لهم: إني بذلك عالمُ


    ولكنه يُعطي مِنَ امْوال طيِّئٍ
    إذا جلف المالَ الحقوقُ اللوازمُ


    فيُعطي التي فيها الغِنى وكأنَّه
    لتَصْغيره تلك العطيَّةَ جارمُ


    بذلك أوصاه عديٌّ وحَشْرجٌ
    وسعدٌ وعبدالله، تلك القماقمُ




    يتبع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: دراسة للخطب في الجاهلية

    فقال له حاتم: إن كنتُ لأحب أن يأتيني مثلك من قومك، هذا مرباعي من الغارة على بني تميم، فخذه وافرًا، فإن وفى بالحَمالة، وإلا أكملتها لك، وهو مائتا بعير سوى بنيها وفصالها، مع أني لا أحب أن تُويِس قومك بأموالهم، فضحك أبو جبيل وقال: لكم ما أخذتم منا، ولنا ما أخذنا منكم، وأي بعير دفعته إليَّ ليس ذنبه في يد صاحبه فأنت منه بريء، فدفعها إليه وزاده مائة بعير، فأخذها وانصرف راجعًا إلى قومه، فقال حاتم في ذلك:

    أتاني البُرْجُميُّ أبو جُبَيْل
    لهمٍّ في حَمالتِه طويلِ


    فقلتُ له: خذ المرباع رهوًا
    فإني لستُ أرضى بالقليل


    على حالٍ ولا عوَّدتُ نفسي
    على علَّاتها عِلَلَ البخيلِ


    فخُذْها إنها مائتا بعيرٍ
    سوى النابِ الرذيَّةِ والفَصِيلِ


    فلا مَنٌّ عليك بها فإني
    رأيتُ المنَّ يُزري بالجَزيلِ


    فآبَ البُرْجميُّ، وما عليه
    مِنَ اعْباءِ الحَمالةِ مِن فَتيلِ


    يجُرُّ الذيلَ ينفُضُ مِذْرَوْيه
    خفيف الظَّهرِ مِن حملٍ ثقيلِ



    وهذا فضلًا عن النكهة الواقعية التي تفعم النص كله مما يعضد اقتناعي بأن تلك الحكاية بما فيها من حوار وشعر صحيحة غير مفتعلة، ومن ثم أقبلها وأنا مطمئن إلى حد كبير.

    ومثلهما في ذلك النص التالي، وهو من حوار دار بين قبيصة بن نعيم وامرئ القيس الشاعر والملك المشهور في مقتل والد الأخير: "قدم على امرئ القيس بن حجر الكندي بعد مقتل أبيه رجال من قبائل بني أسد، وفيهم قبيصة بن نعيم، يسألونه العفو عن دم أبيه، فخرج عليهم في قَباءٍ وخف وعمامة سوداء، وكانت العرب لا تعتم إلا في الترات (أي عند الثأر)"، فلما نظروا إليه قاموا له وبدر إليه قبيصة فقال: إنك في المحل والقدر والمعرفة بتصرف الدهر وما تحدثه أيامه وتنتقل به أحواله بحيث لا تحتاج إلى تذكير من واعظ ولا تبصير من مجرب، ولك من سؤدد منصبك وشرف أعراقك وكرم أصلك في العرب محتِدٌ يحتمل ما حُمل عليه من إقالة العثرة ورجوع عن الهفوة، ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح ما يطول رغباتها ويستغرق طلباتها، وقد كان الذي كان من الخطب الجليل الذي عمَّت رزيتُه نزارًا واليمن، ولم تخصص بذلك كندة دوننا، للشرف البارع كان لحجر: التاج والعمة فوق الجبين الكريم، وإخاء الحمد وطيب الشيم، ولو كان يُفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا بها على مثله، ولكنه مضى به سبيل لا يرجع أخراه على أولاه، ولا يلحق أقصاه أدناه، فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث: إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتًا وأعلاها في بناء المكرمات صوتًا، فقدناه إليك بنِسْعة تذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته، فنقول: رجل امتحن بهالك عزيز فلم يستل سخيمته إلا تمكينه من الانتقام، أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها، فهي ألوف تجاوز الحسبة، فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها لم يرددها تسليط الإحن على البُرَآء، وإما أن وادعتنا إلى أن تضع الحوامل فتسدل الأزر، وتعقد الخمر فوق الرايات، فبكى امرؤ القيس ساعة ثم رفع رأسه فقال: لقد علمت العرب أنه لا كفء لحجر في دم، وأني لن أعتاض به جملًا ولا ناقة فأكتسب به سُبة الأبد، وفت العضد، وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببًا، وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل في القلوب حنقًا، وفوق الأسنة علقًا:
    إذا جالت الحربُ في مأزقٍ ♦♦♦ تصافحُ فيه المنايا النفوسَا

    أتقيمون أم تنصرفون؟ قالوا: بل ننصرف بأسوأ الاختيار، وأبلى الاجترار، بمكروه وأذية، وحرب وبلية، ثم نهضوا عنه، وقبيصة يتمثل:
    لعلَّك أن تستوخِمَ الوِرْدَ إن غدَتْ ♦♦♦ كتائبُنا في مأزقِ الحرب تُمطِرُ

    فقال امرؤ القيس: لا والله، ولكن أستعذبه، فرويدًا ينفرج لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير، ولقد كان ذِكرُ غير هذا بي أولى إذ كنت نازلًا بربعي، ولكنك قلت فأوجبت، فقال قبيصة: ما يُتوقَّع فوق قدر المعاتبة والإعتاب، فقال امرؤ القيس: هو ذاك".

    وكذلك هذه الخطبة التي قالها عبدالمطلب بن هاشم جد النبي عليه السلام في حضرة سيف بن ذي يزن حين ذهب إليه وفد العرب يهنئونه بانتصاره على الأحباش وإخراجه إياهم من بلاده: "لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه، ومنهم وفد قريش، وفيهم عبدالمطلب بن هاشم، فاستأذنه في الكلام، فأذن له، فقال: إن الله تعالى أيها الملك أحلك محلًّا رفيعًا، صعبًا منيعًا، باذخًا شامخًا، وأنبتك منبتًا طابت أَرُومته، وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن، فأنت، أبيت اللعن، رأس العرب وربيعها الذي به تخصب، وملكها الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خلف، ولن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل من أنت سلفه، نحن، أيها الملك، أهل حرم الله وذمته، وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجك بكشف الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة".

    ومثلها في ذلك خطبة أبي طالب عم النبي عندما ذهب معه لخِطبة خديجة بنت خويلد له، وهذا نصها: "خطب أبو طالب حين زواج النبي بالسيدة خديجة فقال: الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل، وجعل لنا بلدًا حرامًا وبيتًا محجوجًا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن محمد بن عبدالله ابن أخي من لا يُوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برًّا وفضلًا وكرمًا وعقلًا ومجدًا ونبلًا، وإن كان في المالِ قُلٌّ فإنما المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعليَّ".
    يتبع




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: دراسة للخطب في الجاهلية

    دراسة للخطب في الجاهلية (2)



    د. إبراهيم عوض




    وهناك ضربٌ آخر من الخطب المنسوبة للعصر الجاهلي تثير نوعًا آخر من التساؤلات، وهي الخطب التي يقال: إن بعضًا من وجوه العرب ورؤسائهم قد ألقوها في قصر العاهل الكسروي بالمدائن وبمحضر منه، ودار الجدال بينه وبينهم حول المقارنة بين فضائل العرب وغيرهم من الأمم بما فيها فارس نفسها؛ إذ يتساءل الإنسان: هل من المعقول أن يجرؤ أولئك العرب، الذين لم تكن لهم في ذلك الحين دولة تحميهم من بطش كسرى إذا فكر في البطش بهم، على أن يتفاخروا في وجهه ذلك الفخر المجلجل الذي يرفع العرب فوق كل الأمم؟ ثم إن الرواية تذكر أن وفودًا من الصين والهند والروم كانت موجودة في ذلك الاجتماع تتبادل التفاخر والتباهي بأصولها وأعراقها، فهل كان هناك في تلك الأزمان ما يمكن ببساطة، ودون افتئات على حقائق الحوادث لو صح ما تقوله لنا الروايات، أن نسميه: "حوار القوميات" أو "حوار الحضارات"؟ ولكن فلنقرأ أولًا شيئًا من هذه الخطب وقصتها؛ حتى يكون الكلام عن بينة، تقول الرواية:
    "قدم النعمان بن المنذر على كسرى، وعنده وفود الروم والهند والصين، فذكروا من ملوكهم وبلادهم، فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم لا يستثني فارس ولا غيرها، فقال كسرى - وأخذته عزة الملك -: يا نعمان، لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم، ونظرت في حالة من يقدم عليَّ من وفود الأمم فوجدت للروم حظًّا في اجتماع ألفتها وعظم سلطانها وكثرة مدائنها ووثيق بنيانها وأن لها دينًا يبين حلالها وحرامها، ويرد سفيهها ويقيم جاهلها، ورأيت الهند نحوًا من ذلك في حكمتها وطبها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعتها وطيب أشجارها ودقيق حسابها وكثرة عددها، وكذلك الصين في اجتماعها وكثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصناعة الحديد وأن لها ملكًا يجمعها، والترك والخزر، على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، لهم ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم، ولم أرَ للعرب شيئًا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا ولا حزم ولا قوة، ومع أن مما يدل على مهانتها وذلها وصغر همتها محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة والطير الحائرة، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة، قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشاربها ولهوها ولذاتها، فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع؛ لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها، وإن قرى أحدهم ضيفًا (أي أطعمه) عدها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدها غنيمة، تنطق بذلك أشعارهم وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التَّنُوخية التي أسس جدي اجتماعها وشد مملكتها ومنعها من عدوها، فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا، وإن لها مع ذلك آثارًا ولبوسًا وقرى وحصونًا وأمورًا تشبه بعض أمور الناس، يعني اليمن، ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس! قال النعمان: أصلح الله الملك، حق لأمةٍ الملكُ منها أن يسمو فضلها ويعظم خطبها وتعلو درجتها، إلا أن عندي جوابًا في كل ما نطق به الملك في غير رد عليه ولا تكذيب له، فإن أمنني من غضبه نطقت به، قال كسرى: قل، فأنت آمن.

    قال النعمان: أما أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل لموضعها الذي هي به من عقولها وأحلامها وبسطة محلها وبحبوحة عزها وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك، وأما الأمم التي ذكرت فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها؟ قال كسرى: بماذا؟ قال النعمان: بعزها ومنعتها وحسن وجوهها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها: فأما عزها ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد ووطدوا الملك وقادوا الجند، لم يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيلهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء، وجُنَّتهم السيوف، وعدتهم الصبر؛ إذ غيرها من الأمم إنما عزها من الحجارة والطين وجزائر البحور، وأما حسن وجوهها وألوانها فقد يُعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المنحرفة والصين المنحفة والروم والترك المشوهة المقشرة، وأما أنسابها وأحسابها فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيرًا من أولها، حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دنيًا (أي بعده مباشرة) فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أبًا فأبًا، حاطوا بذلك أحسابهم وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يُدعى إلى غير أبيه، وأما سخاؤها فإن أدناهم رجلًا الذي تكون عنده البكرة والناب عليها بلاغه في حموله وشبعه وريه فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويجتزئ بالشربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر، وأما حكمة ألسنتهم فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم الأشياء وضربهم للأمثال وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس، ثم خيلُهم أفضل الخيل، ونساؤهم أعف النساء، ولباسهم أفضل اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وحجارة جبالهم الجزع، ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر، ولا يقطع بمثلها بلد قفر، وأما دينها وشريعتها فإنهم متمسكون به حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهرًا حرمًا وبلدًا محرمًا وبيتًا محجوجًا ينسكون فيه مناسكهم ويذبحون فيه ذبائحهم فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغمه منه فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى، وأما وفاؤها فإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماءة، فهي ولثٌ (أي عهد) وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عودًا من الأرض فيكون رهنًا بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلًا استجار به، وعسى أن يكون نائيًا عن داره، فيصاب، فلا يرضى حتى يُفني تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدِث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله، وأما قولك أيها الملك: "يئدون أولادهم" فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث؛ أنفةً من العار وغيرة من الأزواج، وأما قولك: إن أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارًا لها، فعمدوا إلى أجلها وأفضلها، فكانت مراكبهم وطعامهم مع أنها أكثر البهائم شحومًا وأطيبها لحومًا وأرقها ألبانًا وأقلها غائلة وأحلاها مضغة، وإنه لا شيء من اللحمان يعالج ما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه، وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضًا وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنِسَتْ من نفسها ضعفًا وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يُعرف فضلهم على سائر غيرهم فيُلقون إليهم أمورهم وينقادون لهم بأزمَّتِهم، وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين مع أنفتهم من أداء الخراج والوطث (أي الوطء) بالعسف، وأما اليمن التي وصفها الملك فإنما أتى جد الملك إليها الذي أتاه عند غلبة الجيش له على ملك متسق وأمر مجتمع فأتاه مسلوبًا طريدًا مستصرخًا، ولولا ما وتر به من يليه من العرب لمال إلى مجال، ولوجد من يجيد الطعان ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار، فعجب كسرى لما أجابه النعمان به، وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة في أهل إقليمك، ثم كساه من كسوته، وسرحه إلى موضعه من الحِيرة.

    فلما قدم النعمان الحِيرة، وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين وإلى الحارث بن عباد وقيس بن مسعود البكريين وإلى خالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين وإلى عمرو بن الشريد السلمي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي والحارث بن ظالم المري، فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: قد عرفتم هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منها، وقد سمعت من كسرى مقالات تخوفت أن يكون لها غور، أو يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خولًا (أي خدَّامًا) كبعض طماطمته (الطماطمة: الذين لا يحسنون الكلام) في تأديتهم الخراج إليه كما يفعل بملوك الأمم الذين حوله، فاقتص عليهم مقالات كسرى وما رد عليه، فقالوا: أيها الملك، وفقك الله! ما أحسن ما رددت، وأبلغ ما حججته به! فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت، قال: إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكت وعززت بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم، وليس شيء أحب إليَّ مما سدد الله به أمركم وأصلح به شأنكم وأدام به عزكم، والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطلقوا إلى كسرى، فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه، ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه؛ فإنه ملك عظيم السلطان كثير الأعوان مترف معجب بنفسه، ولا تنخزلوا له انخزال الخاضع الذليل، وليكن أمر بين ذلك تظهر به وثاقة حلومكم وفضل منزلتكم وعظيم أخطاركم، وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي، ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم التي وضعتكم بها، فإنما دعاني إلى التقدمة إليكم علمي بميل كل رجل منكم إلى التقدم قبل صاحبه، فلا يكوننَّ ذلك منكم فيجد في آدابكم مطعنًا؛ فإنه ملك مترف وقادر مسلط، ثم دعا لهم بما في خزائنه من طرائف حلل الملوك، كل رجل منهم حلة، وعممه عمامة، وختمه بياقوتة، وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مهرية وفرس نجية، وكتب معهم كتابًا: أما بعد، فإن الملك ألقى إليَّ من أمر العرب ما قد علم، وأجبته بما قد فهم مما أحببت أن يكون منه على علم، ولا يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتجزت دونه بمملكتها وحمت ما يليها بفضل قوتها تبلغها في شيء من الأمور التي يتعزز بها ذوو الحزم والقوة والتدبير والمكيدة، وقد أوفدت، أيها الملك، رهطًا من العرب لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم، فليسمع الملك وليغمض عن جفاء إن ظهر من منطقهم، وليكرمني بإكرامهم وتعجيل سراحهم، وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم، فخرج القوم في أهبتهم حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن، فدفعوا إليه كتاب النعمان فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلسًا يسمع منهم، فلما أن كان بعد ذلك بأيام أمر مرازبته ووجوه أهل مملكته فحضروا وجلسوا على كراسيَّ عن يمينه وشماله، ثم دعا بهم على الولاء والمراتب التي وصفهم النعمان بها في كتابه، وأقام الترجمان ليؤدي إليه كلامهم ثم أذن لهم في الكلام.

    فقام أكثم بن صيفي فقال: إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمها نفعًا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها، الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر لجاجة، والحزم مركبٌ صعب، والعجز مركب وطيء، آفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور الصبر، حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة، إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي، من فسدت بطانته كان كالغاص بالماء، شر البلاد بلاد لا أمير بها، شر الملوك من خافه البريء، المرء يعجز لا المحالة، أفضل الأولاد البررة، خير الأعوان من لم يُراءِ بالنصيحة، أحق الجنود بالنصر من حسنت سريرته، يكفيك من الزاد ما بلغك المحل، حسبك من شر سماعه، الصمت حُكمٌ، وقليل فاعله، البلاغة الإيجاز، من شدد نفر، ومن تراخى تألف، فتعجب كسرى من أكثم، ثم قال: ويحك يا أكثم! ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك كلامك في غير موضعه، قال أكثم: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد، قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى، قال أكثم: رب قول أنفَذ من صول.

    ثم قام حاجب بن زرارة التميمي فقال: وَرِيَ زندك، وعلت يدك، وهِيب سلطانك، إن العرب أمة قد غلظت أكبادها واستحصدت مِرَّتها ومنعت درتها، وهي لك وامقة ما تألفتها، مسترسلة ما لاينتها، سامعة ما سامحتها، وهي العلقم مرارة، والصاب غضاضة، والعسل حلاوة، والماء الزلال سلاسة، نحن وفودها إليك، وألسنتها لديك، ذمتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائرنا فينا سامعة مطيعة، إن نؤب لك حامدين خيرًا فلك بذلك عموم محمدتنا، وإن نذم لم نخص بالذم دونها، قال كسرى: يا حاجب، ما أشبه حجر التلال بألوان صخرها! قال حاجب: بل زئير الأسد بصولتها، قال كسرى: وذلك.

    ثم قام الحارث بن عباد البكري فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها وعلو سنائها، من طال رشاؤه كثر متحه، ومن ذهب ماله قل منحه، تناقل الأقاويل يعرِّف اللب، وهذا مقام سيوجف بما ينطق به الركب وتعرف به كُنْهَ حالنا العجم والعرب، ونحن جيرانك الأدنون، وأعوانك المعينون، خيولنا جمة، وجيوشنا فخمة، إن استنجدتنا فغير ربض، وإن استطرقتنا فغير جهض، وإن طلبتنا فغير غمض، لا ننثني لذعر، ولا نتنكر لدهر، رماحنا طوال، وأعمارنا قصار، قال كسرى: أنفس عزيزة، وأمة ضعيفة، قال الحارث: أيها الملك، وأنى يكون لضعيف عزة، أو لصغير مرة؟ قال كسرى: لو قصر عمرك لم تستولِ على لسانك نفسك، قال الحارث: أيها الملك، إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغررًا بنفسه على الموت فهي منيَّة استقبلها، وجنان استدبرها، والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدمًا، وأحبسها وهي تَصَرَّفُ بها، حتى إذا جاشت نارها وسعرت لظاها وكشفت عن ساقها جعلت مقادها رمحي، وبرقها سيفي، ورعدها زئيري، ولم أقصر عن خوض خضخاضها حتى أنغمس في غمرات لججها، وأكون فلكًا لفرساني إلى بحبوحة كبشها فأستمطرها دمًا، وأترك حماتها جزر السباع وكل نسر قشعم (أي: أقتلهم وأتركهم للسباع والنسور تنهش جثثهم)، ثم قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو؟ قالوا: فعالُه أنطق من لسانه، قال كسرى: ما رأيت كاليوم وفدًا أحشد، ولا شهودًا أوفد.

    ثم قام عمرو بن الرشيد السلمي فقال: أيها الملك، نَعِمَ بالك، ودام في السرور حالك، إن عاقبة الكلام متدبرة، وأشكال الأمور معتبرة، وفي كثيرٍ ثِقْلة، وفي قليل بُلْغة، وفي الملوك سورة العز، وهذا منطق له ما بعده، شرف فيه مَن شرف، وخمل فيه من خمل، لم نأتِ لضيمك، ولم نَفِدْ لسخطك، ولم نتعرض لرِفدك (أي عطائك)، إن في أموالنا منتقدًا، وعلى عزنا معتمدًا، إن أورينا نارًا أثقبنا، وإن أَوِدَ دهر بنا اعتدلنا، إلا أنا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك كافحون، حتى يحمد الصدَر، ويستطاب الخبر، قال كسرى: ما يقوم قصد منطقك بإفراطك، ولا مدحك بذمك، قال عمرو: كفى بقليل قصدي هاديًا، وبأيسر إفراطي مخبرًا، ولم يلم مَن غرَبت نفسه عما يعلم، ورضي من القصد بما بلغ، قال كسرى: ما كل ما يعرف المرء ينطق به، اجلس.

    ثم قام خالد بن جعفر الكلابي فقال: أحضر الله الملك إسعادًا، وأرشده إرشادًا، إن لكل منطق فرصة، ولكل حاجة غصة، وعي المنطق أشد من عي السكوت، وعثار القول أنكأ من عثار الوعث، وما فرصة المنطق عندنا إلا بما نهوى، وغصة المنطق بما لا نهوى غير مستساغة، وتركي ما أعلم من نفسي ويعلم من سمعني أني له مطيق أحب إليَّ من تكلفي ما أتخوف ويتخوف مني، وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان، وهو لك من خير الأعوان، ونعم حامل المعروف والإحسان، أنفسنا بالطاعة لك باخعة، ورقابنا بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة، قال له كسرى: نطقتَ بعقل، وسموتَ بفضل، وعلوت بنُبْل.

    ثم قام علقمة بن علاثة العامري فقال: نهجت لك سبل الرشاد، وخضعت لك رقاب العباد، إن للأقاويل مناهج، وللآراء موالج، وللعويص مخارج، وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه، إنا، وإن كانت المحبة أحضرتنا والوفادة قربتنا، فليس مَن حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك، بل لو قِست كل رجل منهم وعلمت منهم ما علمنا لوجدت له في آبائه ذنيًا أندادًا وأكفاءً، كلهم إلى الفضل منسوب، وبالشرف والسؤدد موصوف، وبالرأي الفاضل والأدب النافذ معروف، يحمي حماه، ويُروي نداماه، ويذود أعداه، لا تخمد ناره، ولا يحترز منه جاره، أيها الملك، من يبلُ العرب يعرف فضلهم، فاصطنع العرب؛ فإنها الجبال الرواسي عزًّا، والبحور الزواخر طميًا، والنجوم الزواهر شرفًا، والحصى عددًا، فإن تعرف لهم فضلهم يعزوك، وإن تستصرخهم لا يخذلوك، قال كسرى - وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه -: حسبك! أبلغتَ وأحسنت!

    ثم قام قيس بن مسعود الشيباني فقال: أطاب الله بك المراشد، وجنبك المصائب، ووقاك مكروه الشصائب (الشدائد)، ما أحقنا، إذ أتيناك، بإسماعك ما لا يحنق صدرك، ولا يزرع لنا حقدًا في قلبك! لم نقدَمْ أيها الملك لمساماة، ولم ننتسب لمعاداة، ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم أنا في المنطق غير محجمين، وفي الناس غير مقصرين، إن جورينا فغير مسبوقين، وإن سومينا فغير مغلوبين، قال كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين (وهو يعرض به في تركه الوفاء بضمانه السواد)، قال قيس: أيها الملك، ما كنتُ في ذلك إلا كوافٍ غُدر به، أو كخافر أخفر بذمته، قال كسرى: ما يكون لضعيف ضمان، ولا لذليل خفارة، قال قيس: أيها الملك، ما أنا فيما أخفر من ذمتي أحق بإلزامي العار منك فيما قتل من رعيتك، وانتهك من حرمتك، قال كسرى: ذلك لأن من ائتمن الخانة (رأى الخونة)، واستنجد الأثمة، ناله من الخطأ ما نالني، وليس كل الناس سواء، كيف رأيت حاجب بن زرارة؟ لِمَ يُحكم قواه فيبرم، ويعهد فيوفي، ويعِد فينجز؟ قال: وما أحقه بذلك! وما رأيته إلا لي، قال كسرى: القوم بُزُلٌ (البازل: الناقة المسنة)، فأفضلها أشدها.

    ثم قام عامر بن الطفيل العامري فقال: كثر فنون المنطق، ولبس القول أعمى من حندس الظلماء، وإنما الفخر في الفعال، والعجز في النجدة، والسؤدد مطاوعة القدرة، وما أعلمك بقدرنا، وأبصرك بفضلنا، وبالحري إن أدالت الأيام، ثابت الأحلام، أن تحدث لنا أمورًا لها أعلام، قال كسرى: وما تلك الأعلام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر، على أمرٍ يُذكر، قال كسرى: وما الأمر الذي يُذكر؟ قال: ما لي علمٌ بأكثر مما أخبرني به مخبر، قال كسرى: متى تكاهنت يا بن الطفيل؟ قال: لست بكاهن، ولكني بالرمح طاعن، قال كسرى: فإن أتاك آتٍ من جهة عينك العوراء، ما أنت صانع؟ قال: ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب عيني عبث، ولكن مطاوعة العبث.
    يتبع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: دراسة للخطب في الجاهلية

    دراسة للخطب في الجاهلية (2)



    د. إبراهيم عوض




    ثم قام عمرو بن معد يكرب الزبيدي فقال: إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فبلاغ المنطق الصواب، وملاك النجعة الارتياد، وعفو الرأي خير من استكراه الفكرة، وتوقيف الخبرة خير من اعتساف الحيرة، فاجتبذ (اجتذب) طاعتنا بلفظك، واكتظم بادرتنا بحِلمك، وألن لنا كنفك يسلس لك قيادنا؛ فإنا أناس لم يوقس صفاتنا (أي لم يخدش صخرتنا)، قراع مناقير من أراد لنا قضمًا، ولكن منعنا حمانا من كل مَن رام لنا هضمًا.



    ثم قام الحارث بن ظالم المري فقال: إن من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق الملَق، ومِن خطل الرأي خفة الملك المسلط، فإن أعلمناك أن مواجهتنا لك عن الائتلاف، وانقيادنا لك عن تصاف، فما أنت لقبول لك منا بخليق، ولا للاعتماد عليه بحقيق، ولكن الوفاء بالعهود، وإحكام ولث العقود، والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأتِ من قبلك ميل أو زلل، قال كسرى: من أنت؟ قال: الحارث بن ظالم، قال: إن في أسماء آبائك لدليلًا على قلة وفائك وأن تكون أولى بالغدر، وأقرب من الوزر، قال الحارث: إن في الحق مغضبة، والسرو التغافل، ولن يستوجب أحد الحِلم إلا مع القدرة، فلتُشْبه أفعالك مجلسك، قال كسرى: هذا فتى القوم.

    ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم، وتفنن فيه متكلموكم، ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقف أودكم ولم يحكم أمركم وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة فنطقتم بما استولى على ألسنتكم وغلب على طباعكم لم أُجز لكم كثيرًا مما تكلمتم به، وإني لأكره أن أجبه وفودي أو أحنق صدورهم، والذي أحب هو إصلاح مدبركم وتألف شواذكم والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم، وقد قبلت ما كان في منطقكم من صواب، وصفحت عما كان فيه من خلل، فانصرفوا إلى ملككم، فأحسنوا مؤازرته، والتزموا طاعته، واردعوا سفهاءكم، وأقيموا أودهم، وأحسنوا أدبهم؛ فإن في ذلك صلاح العامة".

    وأول شيء يلفت النظر هو: كيف استطاع النعمان أن يجمع هؤلاء الرجال من كل أرجاء بلاد العرب، وهو الذي لم يكن له سلطان إلا على منطقة الحِيرة في شمال شرق الجزيرة العربية؟ وكيف ورد في كلامه مصطلحا "الوزن والقافية" الشعري، وهما لفظان لم تكن العرب تعرفهما في ذلك المعنى آنذاك؟ ثم إن خطبة أكثم بن صيفي ليست في الواقع خطبة، بل مجموعة من الأمثال التي تنسب إليه وصل بعضها ببعض وصلًا متعسفًا؛ إذ ليس لها محور واحد تدور عليه، بل كلمة من الشرق، وكلمة من الغرب، وإن كنا لا نقلل من قيمة كل كلمة في حد ذاتها، لكننا نستغرب أن تكون هذه هي الخطبة التي انتدب النعمان بن المنذر أكثم لإلقائها في حضرة كسرى تنبيهًا له على فضل أمة العرب، على حين لا علاقة بينها وبين هذا الموضوع بتاتًا، كما وردت في الخطبة عبارة لم يعرفها العرب، فيما نتصور، إلا عندما تقدمت العلوم عندهم ونشأ علم البلاغة وحاول النقاد تقنين الكلام البليغ، ألا وهي عبارة "البلاغة الإيجاز"، كذلك هناك كلمة "شريعة" التي استعملها النعمان للإشارة إلى أحكام الوثنية، والسؤال هو: أكان العرب يستعملون هذه الكلمة فيما أصبحت تستعمل له بعد الإسلام؟ وهل كان العرب أصلًا يسمون ما هم عليه من تقاليد جاهلية: "شريعة"؟ لقد بحثت في "الموسوعة الشعرية" الضوئية عن شواهد في الشعر الجاهلي لهذه الكلمة فلم أجد إلا بيتًا واحدًا لا علاقة له البتة بهذا المعنى، ثم هل تواتي نفس أي عربي في محضر كسرى أن يدعو الفرس بـ: "الأعاجم" مثلما فعل الحارث بن عباد البكري، وهي كلمة مسيئة في حقهم كما نعرف؛ إذ تسوي بينهم وبين العجماوات؟

    وبالمثل، هل من السهل قبول ما جاء في القصة من أن عمرو بن الشريد قد جبه ملك الفرس بهذا الكلام الجافي الذي يحمل من التحدي الساطع ما يحمل: "لم نأتِ لضيمك، ولم نفد لسخطك، ولم نتعرض لرفدك، إن في أموالنا منتقدًا، وعلى عزنا معتمدًا؟ أو أن يقرع الحارث بن ظالم المري كسرى بهذه الكلمات التي تنصحه بالارتفاع إلى مستوى السلوك اللائق بالملوك: "إن في الحق مغضبة، والسَّرْو التغافل، ولن يستوجب أحد الحِلم إلا مع القدرة، فلتُشبه أفعالك مجلسك"؟ أو أن يهدده عامر بن الطفيل بما لوح له به من إمكان انتقاض العرب عليه وحربهم إياه حتى ليغضب كسرى مما قال، بينما هو غير مبالٍ، وكأنه لم يقل شيئًا؟ وإن خفف من ذلك تنبيه النعمان للعاهل الفارسي منذ البداية إلى خشونة رسله وتعليق كسرى في النهاية بأنه إنما يصفح عما في كلامهم من جفاء وخشونة لِما يعلمه عنهم من قلة خبرتهم بمخاطبة الملوك، وبالمناسبة فخطب أشراف العرب في قصتنا هذه قد صُبت في لغة أقرب إلى الترسل منها إلى السجع، وهذا هو الأقرب أن يكون في مثل ذلك الموقف وتلك الظروف، وفي نهاية التحليل نقول: إنه ليغلِب على الظن أن يكون لهذه القصة أصل تاريخي وأنها قد وصلت المدونين في العصر العباسي في خطوطها العامة ثم توسع فيها الرواة فيما بعد، فأضافوا إليها كثيرًا من التفاصيل، وجهدوا أن يردوا، من خلال ما أضافوه، على ما كان الشعوبيون يتنقصون به العرب في العصر العباسي ويقللون من شأنهم؛ لفتحهم بلادهم وبسطهم سلطانهم عليهم، ولا شك أن إشارة القصة في بدايتها إلى وجود الترجمان في تلك المناسبة لتشكل لمسة واقعية تزيد مصداقيتها، كما أن ذكر القصة لمعايب العرب وبعض من اشتركوا في هذا الموقف من خطباء هو مما يعضد الاقتناع بأنها قد وقعت فعلًا على نحوٍ من الأنحاء.

    على أن ثمة نصوصًا أخرى من الخطب والأحاديث يغلِب عليها التكلف في هندسة العبارة والاستقصاء في المعنى والتشقيق في التفاصيل بحيث لا يكاد المتكلم يترك شاردة ولا واردة دون أن يذكرها، مما يجعلنا لا نثق في جاهليتها، كوصف عصام الكندية لأم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني في النص التالي: "لما بلغ الحارثَ بن عمرو ملك كندة جمالُ أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني وكمالها وقوة عقلها أراد أن يتزوجها، فدعا امرأة من كندة يقال لها: عصام، ذات عقل ولسان وأدب وبيان، وقال لها: اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف، فمضت حتى انتهت إلى أمها أمامة بنت الحارث فأعلمتها ما قدمت له، فأرسلت أمامة إلى ابنتها وقالت: أي بنية، هذه خالتك أتت إليك لتنظر إلى بعض شأنك، فلا تستري عنها شيئًا أرادت النظر إليه من وجه وخُلق، وناطقيها فيما استنطقتك فيه، فدخلت عصام عليها فنظرت إلى ما لم ترَ عينها مثله قط بهجة وحسنًا وجمالًا، فإذا هي أكمل الناس عقلًا، وأفصحهم لسانًا، فخرجت من عندها وهي تقول: ترك الخداع من كشف القناع، فذهبت مثلًا، ثم أقبلت إلى الحارث فقال له: ما وراءكِ يا عصام؟ فأرسلها مثلًا، قالت: صرَّح المَخْضُ عن الزبد، فذهبت مثلًا، قال: أخبريني، قالت: أخبرك صدقًا وحقًّا...." (إلخ...).

    إن هذا لبكتابة تقرير فني في مسابقات العَهْر (التي يسمونها زورًا بـ: "مسابقات ملكات الجمال") يضع نصب عينيه تقديم وصف تفصيلي لكل ملمح أو عضو من أعضاء الفتاة المشتركة في تلك المسابقات أشبه منه بحديث خاطبة إلى ملك من ملوك العرب في تلك العصور، وبخاصة أن الوصف لم ينتزه عن تناول أشد مناطق الجسد حساسية، مما من شأنه إثارة غيرة الرجل الكريم حتى لو كان المقصود هو البحث له عن زوجة تمتعه وتسره! وفضلًا عن ذلك فإني لا أظن أن امرأة عربية في تلك العصور كانت ترضى بأن تتجرد من ملابسها وتذهب فتستعرض مفاتنها الداخلية على هذا النحو ولا حتى أمام أمها! والطريف أنه، بعد كل ما قالته المرأة الكندية في وصف جمال الفتاة، تعود فتقول: "فأما ما سوى ذلك فتركت أن أصفه، غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو نثر"، فهل تراها تركت شيئًا لم تصفه مما يحتاج الرجل معرفته عن المرأة التي يبغي خطبتها؟ ثم إن مقدمة النص تقول: إن "الحارث بن عمرو ملك كمندة قد بلغه جمال أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني وكمالها وقوة عقلها"؛ أي إنه كان على علم بجمالها وكمالها، فما معنى كل هذا الوصف الدقيق المفصل الذي لا يدل إلا على شيء واحد: أنه لم يكن يعرف عن الفتاة شيئًا؟ وإلى جانب هذا لا ينبغي أن ننسى أن تعبيرات مثل "خلف ذلك ظهر كالجدول ينتهي إلى خصر، لولا رحمة الله لانبتر"، "فتبارك الله مع صغرهما، كيف تطيقان حمل ما فوقهما؟" لا تصدر غالبًا إلا عن مسلم في العصر العباسي فنازلًا، حين كان الأدباء يستخدمون مثل هذه العبارات الماجنة التي يُوهم ظاهرها بالتدين رغم ذلك، وهو مجون تشفُّ عنه العبارة التالية بدورها أحسن شف: "تحته كفل يقعدها إذا نهضت، وينهضها إذا قعدت"، فضلًا عما فيها من ترف في تذوق الجمال النسائي لم يكن يعرفه الجاهليون، إلى جانب التلاعب البديعي المعقد الذي لم يكن لهم به عهد؛ إذ فيها موازنة ومقابلة وسجع وتورية وردٌّ للأعجاز على الصدور في وقت معًا، وهناك أيضًا المقابلة بين "النظم والنثر" في الجملة التالية التي وردت قرب نهاية النص: "غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو نثر" بما يدل على الشمول مما لم يكن الجاهليون يعرفونه في تعبيراتهم، بل إنني لا أظنهم كانوا يستخدمون هاتين الكلمتين بالمعنى الاصطلاحي الذي عُرفتا به في دنيا الأدب والنقد فيما بعد!

    كذلك من حق الباحث أن يتساءل فيما يخص هذه القصة ذاتها في مرحلتها اللاحقة قائلًا: أمن المعقول أن أمًّا من الأمهات حين تريد أن تنصح بنتها في ليلة زفافها تلجأ إلى مثل هذه العبارات المسجوعة المجنَّسة المتوازنة (رغم ما في السجع والجناس والتوازن هنا من بساطة)، كما في النص التالي الذي تخاطب فيه أمامة بنت الحارث بنتها أم إياس التي مر بنا آنفًا وصف عصام الكندية العجيب لها؟: "أي بنية، إن الوصية لو تركت لفضل أدب تركت لذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خُلقن، ولهن خلق الرجال، أي بنية، إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلَّفت العش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيبًا ومليكًا، فكوني له أمة يكن لك عبدًا وشيكًا، يا بُنية، احملي عني عشر خصال تكن لك ذخرًا وذكرًا: الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، والتعهد لموقع عينه، والتفقد موضع أنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشَمُّ منك إلا أطيب ريح، والكحل أحسن الحسن، والماء أطيب الطيب المفقود، والتعهد لوقت طعامه، والهُدُو عنه عند منامه؛ فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة، والاحتفاظ ببيته وماله، والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله؛ فإن الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والإرعاء على العيال والحشم جميل حسن التدبير، ولا تفشي له سرًّا، ولا تعصي له أمرًا؛ فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، ثم اتقي مع ذلك الفرح إن كان ترحًا، والاكتئاب عنده إن كان فرحًا؛ فإن الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، وكوني أشد ما تكونين له إعظامًا، يكن أشد ما يكون لك إكرامًا، وأشد ما تكونين له موافقة، يكن أطول ما تكونين له مرافقة، واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحببت وكرهت، والله يخير لك"، لا أظن أن الأم، حتى لو كانت أديبة، يمكن أن تنهج في حديثها الشفوي المباشر مع ابنتها هذا النهج، بخلاف ما لو قصدت أن تخلف وراءها عملًا من الأعمال الأدبية التي تبقى على مدى الزمان، فإنها حينئذ تحتشد لذلك وتجتهد في كتابة نصيحة محبرة موشاة لبنتها ولكل بنات العالمين، وكذلك للقراء والأدباء أيضًا، على مدار الدهر، لكن هذا شيء آخر غير ما نحن بسبيله الآن، أم ترى هناك من يقول معترضًا: ومن أدراك بأن تلك الأم لم ترد ذلك ولم تفعله، وبخاصة أننا هنا إزاء ملك وزوجته وحماته لا ناس من عرض الطريق؟ على كل حال، فإني معجب إعجابًا شديدًا بكلام الأم، وأجده يرن في سمعي رنين الذهب، ويهش قلبي إليه هشاش الأرض العطشى لوابل الغيث المحيي!

    والواقع أن انشغالي بمسألة بروز السجع والجناس وما إليه في كثير من خطب الجاهليين سببه افتقادي لذلك في نظيراتها من خطب الرسول والخلفاء الراشدين، اللهم إلا ما جاء عفوًا بين الحين والحين، فلماذا كان كثير من الخُطب التي وردتنا عن عصر ما قبل الإسلام على هذا النحو من الاهتمام بالسجع والجناس والتوازن بخلاف ما عليه الخطب في صدر الإسلام بوجه عام، فضلًا عن أن السجع والمحسنات البديعية فيها كانت، كما يُفهم من الرواية، أمرًا ارتجاليًّا؟ فهل يستطيع الخطباء، وبالذات في ذلك العصر قبل أن يلتفت العرب إلى هذه التزاويق ويصبح الحرص عليها جزءًا من التركيبة الذهنية الإبداعية عندهم، أن يرتجلوا كلامًا محسنًا بالبديع على هذا النحو الذي نراه في عدد من الخطب الجاهلية؟ هذه هي النقطة التي تحيك في صدري بالنسبة لصحة نصوص الخطب الجاهلية، أما ما سوى ذلك من ملاحظات فما أسهل التعامل معها والخروج منها بالنتائج التي يؤدي إليها المنطق كما رأينا فيما مر، أيكون المسلمون الأوائل قد نفروا من الجري خلف السجع بسبب ارتباطه بالكهان؟ أتراهم كانوا يُلقون بكل ثقلهم وراء المضمون والوصول به إلى الإقناع وتحويله إلى واقع تطبيقي بدلًا من المتعة الفنية المتمثلة هنا في البديع في حد ذاتها؛ إذ كانوا بصدد تكوين دولة تضم العرب جميعًا لأول مرة في تاريخهم المعروف، ثم بصدد صراع ضارٍ مع القوى العالمية الكبرى حولهم، صراع حياة أو موت، فلم يكن لديهم الوقت ولا البال للاهتمام بالسجع والمحسنات البديعية؟ أترى الجاهليين، وهم الأميون، كانوا يعولون على موسيقا السجع والجناس والتوازن لتسهيل حفظ النصوص النثرية كالخطب والمنافرات؟ مرة أخرى أجدني أقول: هذه هي النقطة التي تحيك في صدري بالنسبة لصحة نصوص الخطب الجاهلية، أما ما سوى ذلك من ملاحظات فما أسهل التعامل معها والخروج منها بالنتائج التي يؤدي إليها المنطق كما رأينا فيما مر، ومع ذلك فها هو ذا الجاحظ يقرر أن العرب في جاهليتهم كانوا يعتمدون السجع في بعض ضروب الخطابة؛ كالمنافرة والمفاخرة، والترسل في بعضها الآخر؛ كما هو الحال في خطب الصلح والمعاهدات؛ (الجاحظ/ البيان والتبيين/ مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر/1/289 - 290، و3/6)، وهو ما يدل على أنه لا يجد فيها شيئًا مما يحيك في صدري تجاه هذه المسألة، وأحسب أن موقف الجاحظ أحرى بالقبول من موقفي؛ لأنه كان أعرف بالأدب العربي قبل الإسلام من واحد مثلي؛ لقربه من عصر الجاهلية ومعرفته الموسوعية بالثقافة العربية وآدابها، كما هو معلوم للجميع، فوق أنه كان أديبًا كبيرًا، وبلاغيًّا عجيبًا، وناقدًا ذواقة للكلام، ودارسًا ومحللًا للنصوص والأساليب من الطراز الأول، ومتكلمًا يصعب أن يوجد له نظيرٌ مسامت.

    هذا، وقد وردَتْنا عن الجاهليين ضروب من الخطب المختلفة الموضوعات، صحيحة كانت أو مصنوعة: فمنها الخطب الوعظية؛ كخُطَب قُس بن ساعدة الإيادي في سوق عكاظ، وخطب الصلح بين المتخاصمين؛ كخطبة مرثد الخير في الإصلاح بين سبيع بن الحارث وميثم بن مثوب، ومنها خطب التعزية؛ كتلك التي عزَّت بها وفود العرب سلامة ذا فائش في موت ابنه، وكان من بين المتكلمين يومها الملبب بن عوف وجعادة بن أفلح، وكذلك خطبة أكثم بن صيفي في تعزية عمرو بن هند في ابن أخيه، ثم خطب النكاح؛ كالخِطبة التي ألقاها أبو طالب في خِطبة خديجة لمحمد ابن أخيه، وتلك التي قالها عامر بن الظرب حين خطبت ابنته، ومنها خطب المنافرات؛ كتلك التي تُبودلت بين علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين، ومنها خطب السفارات؛ كما هو الحال في مجموعة الخطب التي خطبها بعض رؤساء العرب في حضرة كسرى في إيوانه، ومنها خطب الكهَّان والكواهن التي يتنبؤون فيها بالغيب حسبما كانوا يعتقدون، ومنها خطب الوصايا؛ كتلك الخطبة التي ألقاها ذو الإصبع العدواني على ابنه، ونظيرتها التي ألقاها قيس بن زهير على بني النمر بني قاسط، وكذلك الخطبة الرائعة التي يقال: إن أمامة بنت الحارث قد وصَّت بها ابنتها أم إياس عند زفافها على الحارث بن عمرو ملك كندة... إلخ، وكان العرب يخطبون في الأسواق والمجالس والقصور الملكية وعند الكعبة وعلى نشَز من الأرض وفي الحرب، كما كانوا يخطبون وقوفًا، وعلى الرواحل، أو مسندين ظهورهم إلى الكعبة... وهكذا، وكان من عادتهم في الخطابة، كما ألمعنا من قبل، لُبس العمامة والإمساك بالعصا، تلك العادة التي عمل الشعوبيون على التنقص منها والإزراء على العرب بسببها، فتصدى لهم الجاحظ مبينًا فضل العصا في صفحات طويلة انثال عليه الكلام فيه انثيالًا في كتابه: "البيان والتبيين"، وقد مر بنا أثناء دراستنا لهذا الفن عند الجاهليين طائفة من مشاهير خطبائهم، وهذه أسماء طائفة أخرى منهم: سهيل بن عمرو وعتبة بن ربيعة وقيس بن الشماس وسعد بن الربيع وهانئ بن قبيصة وزهير بن جناب وربيعة بن حُذار ولبيد بن ربيعة وهرم بن قطبة الفزاري وعمرو بن كلثوم التغلبي وحنظلة بن ضرار الضبِّي.

    والآن أترك القارئ مع هذه النصوص الخطابية التي وصلتنا عن ذلك العصر: فمنها خطبة مرثد الخير التي سلفت الإشارة إليها آنفًا، وهذا نصها: "إن التخبط وامتطاء الهجاج (أي العناد وركوب الرأس)، واستحقاب اللجاج، سيقفكما على شفا هوة في تورُّدها بوار الأصيلة، وانقطاع الوسيلة، فتلافيا أمركما قبل انتكاث العهد، وانحلال العقد، وتشتت الألفة، وتباين السهمة (أي القرابة)، وأنتما في فسحة رافهة، وقدم واطدة، والمودة مثرية، والبقيا معرضة، فقد عرفتم أنباء من كان قبلكم من العرب ممن عصى النصيح، وخالف الرشيد، وأصغى إلى التقاطع، ورأيتم ما آلت إليه عواقب سوء سعيهم، وكيف كان صُبُور أمورهم، فتلافوا القرحة قبل تفاقم الثأي (أي قبل انتشار الفساد) واستفحال الداء، وإعواز الدواء، فإنه إذا سفكت الدماء، استحكمت الشحناء، وإذا استحكمت الشحناء، تقضبت عرى الغبقاء، وشمل البلاء".

    ومنها خطبة قُسِّ بن ساعدة الإيادي في سوق عكاظ يلفت أنظار السامعين إلى صروف الدهر وما ينبغي أن يعتبر به العاقل: "أيها الناس، اسمعوا وَعُوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة، إن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعبرًا، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضُوا فأقاموا أم تركوا فناموا؟ يقسم قسٌّ بالله قسمًا لا إثم فيه، إن لله دينًا هو أرضى له وأفصل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكرًا"، ويروى أن قسًّا أنشأ بعد ذلك يقول:
    في الذَّاهبينَ الأوَّلي
    نَ مِن القرونِ لنا بصائِرْ


    لمَّا رأَيْتُ مواردًا
    للموتِ ليس لها مصادِرْ


    ورأَيْتُ قومي نحوَها
    تَمْضي الأكابرُ والأصاغِرْ


    لا يرجِعُ الماضي إليْ
    يَ ولا مِن الباقينَ غابِرْ


    أيقنتُ أني لا محا
    لةَ حيثُ صار القومُ صائِرْ



    ومنها كذلك خطبة هاشم بن عبدمناف يحث قريشًا على إكرام حجاج البيت الحرام: "كان هاشم بن عبدمناف يقوم أول نهار اليوم الأول من ذي الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها فيخطب قريشًا فيقول: يا معشر قريش، أنتم سادة العرب: أحسنها وجوهًا، وأعظمها أحلامًا، وأوسطها أنسابًا، وأقربها أرحامًا، يا معشر قريش، أنتم جيران بيت الله: أكرمكم بولايته، وخصكم بجواره دون بني إسماعيل، وحفظ منكم أحسن ما حفظ جار من جاره، فأكرموا ضيفه وزوارَ بيته؛ فإنهم يأتونكم شُعثًا غُبرًا من كل بلد، فورب هذه البنية لو كان لي مال يحمل ذلك لكفيتكموه، ألا وإني مخرجٌ من طيب مالي وحلاله بما لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام، فواضعه، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل، وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبًا: لم يؤخذ ظلمًا، ولم يُقطع في رحم، ولم يغتصب".

    ومنها هذه الكلمة التي نفَّر فيها نفيل بن عبدالعُزَّى (جدُّ عمر بن الخطاب) عبدالمطلب (جَدَّ الرسول) على حرب بن أمية: "تنافر عبدالمطلب بن هاشم وحرب بن أمية إلى النجاشي ملك الحبشة فأبى أن ينفر بينهما فجعلا بينهما نفيل بن عبدالعزى بن رباح، فقال لحرب: يا أبا عمرو، أتنافر رجلًا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك ملامة، وأكثر منك ولدًا، وأجزل صَفَدًا (أي أكثر عطاءً)، وأطول منك مذودًا (أقوى لسانًا)، وإني لأقول هذا، وإنك لبعيد الغضب، رفيع الصوت في العرب، جلد المريرة، جليل العشيرة، ولكنك نافرت منفَّرًا، فغضب حرب وقال: إن مِن انتكاس الزمن أن جُعلت حكَمًا".

    ومنها وصيَّة ذي الإصبع العدواني لابنه عند إشرافه على الموت، "يا بني، إن أباك قد فني وهو حي، وعاش حتى سئم العيش، وإني موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته، فاحفظ عني: ألِنْ جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر عليهم بشيء يسوِّدوك (أي يجعلوك سيدًا عليهم)، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم، يكرمك كبارهم، ويكبر على مودتك صغارهم، واسمح بمالك، واحمِ حريمك، وأعزز جارك، وأعن مَن استعان بك، وأكرم ضيفك، وأسرع النهضة في الصريخ؛ فإن لك أجلًا لا يعدوك، وصُن وجهك عن مسألة أحد شيئًا، فبذلك يتم سؤددك".
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •