مكانة السنة وأهميتها

السنة هي المصدر الثاني للتشريع في الاسلام، وهذا باجماع الأمة الاسلامية سلفاً وخلفاً. فهي نصف الاسلام الثاني. لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
[1]ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه
ولقول الله سبحانه وتعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)[2]
وهي مكملة للقرآن، وتفصيل لما جاء مجملاً فيه، وتبيان لما احتاج الى تبيان فيه، وتوضيح لما احتاج الى ايضاح فيه.
وانكار السنة وجحدها يؤدي بالضرورة الى تعطيل العمل بالقرآن نفسه. لما ذكرنا من كونها تفصيل لمجمله، وموضحه ومبينه له.
قال الله سبحانه وتعالى:
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[3]
ففيها تفصيل العبادات، فكيفية الصلاة، والحج، والزكاة، كلها لم تُذكر في القرآن، بل جائت مفصلة في السنة.

فالأذان مثلاً ليس في القرآنِ ما يدل على كيفيته، وانما جائت السنة بتبيينه لنا، وكذلك الوضوء، فالقرآن ذكر لنا فروض الوضوء فقط، وجائت السنة فزادت سُنن الوضوء، وأجمع المسلمون على غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق في الوضوء، مما هو ليس مذكوراً في القرآن. فمنكر السنة مُطالب الآن بتبرير اجماع المسلمين على هذه الزيادات في الوضوء مما لم يُذكر في كتاب الله، وهو مطالب أيضاً بتبرير اجماعهم على صيغة الأذان. وهو مطالبٌ أيضاً بتبرير اجماعهم على نواقض الوضوء مما لم يُذكر في القرآن.

فإنك بدون السنة ستذهب مثلاً الى دورة المياة، وتتبول ــ أكرمكم الله ـــ ثم تخرج وتصلي فوراً من دون إعادة وضوء! فليس في القرآن ما يدل على الوضوء من البول.
وكذلك فإنك ستصلي من دون وضوء إذا أخرجت ريحاً، فليس في القرآن ما يأمر بالوضوء من اخراج الريح.

وهي ليست مبينة للعبادات فقط، بل مُبينة للحدود الشرعية التي جائت في القرآن أيضاً.
فكما فصّلت السُنة في أحكام الطهارة والحج والذبائح والصيد، وما يؤكل مما لا يؤكل، والأنكحة والصلاة والصوم وغيرها من العبادات والمعاملات، فصَّلت وبينت أيضاً الحدود التي جائت في القرآن.


قال أبو أيوب السختياني رحمه الله:
(إذا سمعتَ أحدَهم يقول: لا نريدُ إلاَّ القرآنَ! فذاك حين ترك القرآنَ)[4]

وقال ابن القيم رحمه الله:
(كان السَّلَفُ الطَّيِّبُ يَشْتَدُّ نَكِيرُهُمْ وَغَضَبُهُمْ على مَنْ عَارَضَ حَدِيثَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْيٍ أو قِيَاسٍ أو اسْتِحْسَانٍ أو قَوْلِ أَحَدٍ من الناس كَائِنًا مَنْ كان، وَيَهْجُرُونَ فَاعِلَ ذلك، وَيُنْكِرُونَ على مَنْ يَضْرِبُ له الأَمْثَالَ، وَلاَ يُسَوِّغُونَ غير الانْقِيَادِ له وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّلَقِّي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلاَ يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ التَّوَقُّفُ في قَبُولِهِ حتى يَشْهَدَ له عَمَلٌ أو قِيَاسٌ أو يُوَافِقَ قَوْلَ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ بَلْ كَانُوا عَامِلِينَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36][5]

وقال ابن كثير رحمه الله:
قال ابن كثير – رحمه الله: (عليك بالسُّنة؛ فإنها شارحة للقرآن، ومُوَضِّحة له)[6]

وقال الامام السيوطي رحمه الله:
(وقد يقع التَّبيين بالسُّنة؛ مثل: (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ [آل عمران: 97]،
وقد بيَّنت السُّنة أفعال الصلاة والحج، ومقادير نُصُب الزكوات في أنواعها.[7]

واليك بعض الأمثلة:

قال تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [8]
فظاهر هذه الآية أن القطع يكون مطلقاً من دون تفصيل، فلم يذكر القرآن القدر الذي إذا سرقه السارق طُبق عليه الحد. ولم تذكر الآية من أين يكون القطع.
فهذا حكم قرآني مجمل، لن تجد له في القرآن تفصيلاً.
ولكن جائت السنة مُبينة ومفصلة: فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، قالت: "ما طال عليّ ولا نسيتُ: القطعُ في ربع دينار فصاعدًا"[9]

وكذلك الآية تشمل كل مسروق فجاءت السنة مفصلة أن من سرق ثمرًا ونحوه لا تقطع يده؛ فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا قطع في ثمرٍ ولا كثرٍ)[10]

وكذلك جاءت السنة لتبين أن حد السرقة وغيره من الحدود لا يقام في المساجد، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقام الحدود في المساجد، ولا يستقاد فيها)[11]

وكذلك مما فصلته السنة فيما يخص الحدود أن الحدود تُدرأ بالشبهات
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم) [12]

مما وضحته السنة أيضاً الغيبة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾[13]
فبينت السنة معنى الغيبة: كما جاء عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (أَتَدْرُونَ ما الْغِيبَةُ؟) قالوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قال: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ). قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إنْ كانَ في أَخِي ما أَقُولُ؟
قال: (إنْ كانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فيه فَقَدْ بَهَتَّهُ)[14]

مثال آخر:
قوله تعالى: ﴿ يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾[15]
فجائت السنة تُبين وتوضح الأحكام التي حملتها هذه الآية وما المقصود من العدة.
عن عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما؛ (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً له وهي حَائِضٌ، تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَأَمَرَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا حتى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حتى تَطْهُرَ من حَيْضَتِهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَ ا حين تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ التي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لها النِّسَاءُ)[16]


[1] رواه الإمام أحمد في مسنده، 28/410-411، برقم 17174، ورواه أبو داود في سننه، 5/10-12، كتاب السنة، بَاب فِي لُزُومِ السُّنَّةِ، الحديث رقم 4604.

[2] (الحشر 7)
يُشاغب منكروا السنة على هذه الآية ويقولون: هذه الآية جائت في سياق الحديث عن الفيء والمقصود منها: ما آتاكم الرسول من الفيء فخذوه... وكلامهم هذا يدل على جهلهم بلغة العرب!
والجواب عليهم أن نقول: لو أراد الله سبحانه حصر الآية في الفيء لقال: فـما آتاكم الرسول فخذوه، ولكنه قال: وما آتاكم الرسول فخذوه...) فجائت بالواو، وهي ليست تعليله بل هي على العموم. مثال: قال الله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة، فلا تكفر...) فالفاء في قوله فلا تكفر، ربطت الكفر بتعلم السحر، ولو قال .... ولا تكفر) بالواو بدل الفاء، لفهمنا أن تعلم السحر ليس كفراً، ولكنه لما قال (فلا تكفر...) بالفاء علما ان تعلم السحر كفر!

[3] النحل 44

[4] رواه الهروي في (ذم الكلام)، (2/ 59)، (رقم212)

[5] إعلام الموقعين (4/ 244)

[6] تفسير ابن كثير (1/ 4)

[7] الإتقان في علوم القرآن (ج 3 / ص 51 ــ 52)

[8] (المائدة: 38)

[9]رواه البخاري (4494)، ومسلم (6789)

[10] حديث صحيح، أخرجه أبو داود (4388)

[11] حديث حسن، صحيح أبي داود: 4490

[12] أخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود، برقم 1344، والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات 8/238

[13] الحجرات 12

[14] رواه مسلم(2589)

[15] الطلاق 1

[16] رواه البخاري في أول كتاب الطلاق