ضياع الهوية واللغة ...مخاطر تهدد أبناء اللاجئين


عامر خطاب

في ظل ما تمر به أغلب الدول العربية من حروب وتوتر في الأوضاع السياسية والاقتصادية تدفع المواطنين للهجرة إلى بلاد أجنبية وأعجمية لا تتحدث العربية، فلا بد من الإشارة إلى ما يهدد أبناء اللاجئين من مخاطر التغيير الثقافي، وضياع الهوية، واللغة، فلا يكفي أن يتحول الاهتمام باللغة والهوية إلى مناسبة موسمية ينتهي الحديث عنها خلال يوم واحد، كاليوم العالمي للغة العربية على سبيل المثال، خاصة في ظل الإحصاءات الرسمية التي تتحدث عن ملايين العرب من السوريين، واليمنيين، والعراقيين، والسودانيين، وغيرهم ممن غادروا أوطانهم، وراحوا ينشدون الاستقرار والسلام في بلاد الغرب والأعاجم في الشرق.

وإذا كان حرص هؤلاء اللاجئين على تحقيق الاندماج الكامل في الأوطان الجديدة مبرَّرًا لتحقيق الاستقرار والمواطنة والحصول على الجنسية وتأمين مستقبل الأبناء وزيادة فرص الحصول إلى عمل، فمن غير المبرر أن يصل الاندماج إلى حد الانصهار والتحول الكامل نحو لغة وثقافة جديدة، فمن حق الأبناء على الآباء أن يعتنوا بثقافتهم ودينهم ولغتهم، ولا يكفي أن تكون اللغة العربية لغة محكية في البيوت يتكلم بها الآباء مع الأبناء، بل لا بد أن تكون آلةً من آلات العلم بحيث يتقن الطفل قراءتها وكتابتها والتعلم بها، وإن الملايين من أبناء العرب الذين وصلوا إلى بلاد أعجمية تداهمهم العجمة وتغيب لغتهم وثقافتهم كل يوم، وإذا كان الجيل الناشئ الآن يتكلم العربية فإن الجيل القادم لن يفهم سوى كلمات قليلة منها، وأما الجيل الذي يليه فسوف يولد منصهرًا في حضارة وثقافة جديدة.

لقد كان الناس في بداية الدعوة الإسلامية يستجيبون للنبي – صلى الله عليه وسلم – بمجرد سماع آيات من القرآن الكريم؛ لأن وجه الإعجاز في القرآن الكريم هو بلاغته وبيانه وقد تحدى الله عز وجل العرب أن يأتوا بسورة أو آية من مثله، ومع ما يتميزوا به من بلاغة وفصاحة فقد وقفوا عاجزين أمام بلاغة وبيان القرآن الكريم. يقول الله عز وجل «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» [البقرة: 23].

وتذكر لنا كتب السيرة أن الطفيل بن عمرو قد أسلم بمجرد سماع آيات من القرآن الكريم ويروي قصة إسلامه فيقول: إنه قدم مكة ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – بها، فمشى إليه رجال من قريش، فقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنّه ولا تسمعنّ منه شيئًا.

قال: والله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئًا ولا أكلمه، حتى حشوت في أذنيّ حين غدوت إلى المسجد كرسفًا، فَرَقًا من أن يبلغني من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه، قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائم يصلي عند الكعبة، قال: فقمت منه قريبًا فأبى الله، إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلامًا حسنًا، فقلت في نفسي:

واثكل أمي، والله إني لرجل لبيبٌ شاعرٌ ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول! فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته، قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله، إلا أن يسمعني قولك، فسمعته قولًا حسنًا، فاعرض عليّ أمرك، قال: فعرض عليَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الإسلام، وتلا علي القرآن، فلا والله ما سمعت قولًا قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق. (سيرة ابن هشام: ج1، ص382).

ثم عاد إلى اليمن ولحق بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في المدينة ومعه عشرات العائلات ممن دخلوا في الإسلام، وكذلك أسلم عمر بن الخطاب بعد أن سمع آيات من أوائل سورة طه، وأما الوليد بن المغيرة فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يجادله فيما أنزل عليه، وعندما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن الكريم رجع إلى قومه فقال: «والله إنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً وإن عَلَيْهِ لَطَلاوَةً وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدقٌ وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ مَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ».

إن هذه المواقف تؤكد عظمة هذه اللغة وما لفهمها من أهمية في فهم كتاب الله عز وجل وتفسيره وبيانه، فهي أمانة ونعمة أنعم الله – عز وجل – بها علينا نحن العرب وواجبنا أن نحافظ على هذه الأمانة؛ لأنها الحاضن للدين، بها نفهم القرآن، وبها نفهم السنة، وبها نفهم الإسلام، ونفهم الرسالة التي خلقنا الله – عز وجل – من أجلها.

بهذه اللغة نفهم تاريخنا ووجودنا وحضارتنا، وفي مرحلة من المراحل كانت لغة العلوم، وما زالت لغة من أرقى وأعظم اللغات في العالم اليوم.

وإن الاهتمام باللغة والثقافة العربية لا يلقى على عاتق الأسرة فحسب، وإنما من واجب المؤسسات العلمية ومنظمات المجتمع المدني أن تستشعر هذا الخطر وتعمل على تأطيره وتنشط في مجال المحافظة على خصوصية الشعوب المهاجرة لتكون لونًا من ألوان التعدد الثقافي ومصدرًا من مصادر تنوعه وثرائه.

ولا نستبعد أن تكون إثارة الفوضى في البلاد العربية، ثم استقبال المهاجرين في البلاد الغربية والأعجمية هو جزء من مخطط يستهدف العرب لتلتهم نار الحروب جزءًا من شبابهم، وتبتلع الهجرة جزءًا آخر منهم، وتبقى البلاد في حالة توتر تستهلك المورد البشري الذي يعد أهم مقوم من مقومات الحضارة والنهوض.

المصادر

الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ت (544)هـ، دار الفكر، ج1، ص 262.

السيرة النبوية لابن هشام، ت: (213)هــ، طبعة مصطفى بابي الحلبي، ج1، ص 382.