هذا خلق الله: دموعنا بين الخلق والتسخير من غدة الدمع إلى الحلقوم
د. غنية عبدالرحمن النحلاوي

كلُّنا يعرِفُ أن في جسمنا: جهازَ الهضم، وجهاز التنفس، والجهاز العصبي، و...، ولكن هل تعلم أن فيه جهازًا للدمع؟
للدمع؟!
أعلم أن الدمع سائلٌ يفيض ليَشي بضعفِنا، فلماذا يكون له جهازٌ؟
حقًّا قلت، فالدمعُ هو أكثر سوائل الجسم فيضانًا من مكانه، وانحدارًا على المحيَّا، فعرَفه الإنسان وتحدَّث عنه منذ أزمان، ويكاد يكون المفرزَ الوحيد في الجسم الذي يفلِت من سيطرة المراكز العليا في الدماغ والمنظِّمة للوظائف، إنه المفرز الذي يُغالِبنا في كثير من لحظات حياتنا فيَغلِبنا.
فكلما كَفْكَفه المرء هَتَن!
ولكن للقصة بقية أخي القارئ، تُعلِّمك: ما هو الدمع منشؤه ومنتهاه؟ ولماذا نحتاجه؟ ولماذا للدمع جهاز وهو أضعف من "أضعف خلق الله إنسانًا"؟

جهاز الدمع:
خلق الله تعالى الدمع وسخَّره لنا لعدَّة منافع؛ منها: حماية العين، وحماية القلب، والتنفيس عن المشاعر.
والدمع يُحقِّق التوازن، فيمنع الجفاف على كامل سطح العين، سواء كنت واقفًا أو مستلقيًا، وبدقةٍ فائقة وباستمرار، فالدموع موجودةٌ لا يتوقف إفرازها لحظةً من عمرنا، حتى ونحن لا نُحِسُّ بوجودها، ولقد أبدع سبحانه جهازًا متكاملًا لصنع الدمع وتركيبه، ولإفرازه ثم بسطه على سطح المُقْلة، ثم لتصريف الزائد منه.

هل قلت: صنعه وتركيبه؟
نعم، فالدمع ليس مجرَّد سائل مالح يُطرح؛ بل هو وسط حيوي من طبقات! ولذلك غيَّروا اسمه في المصادر الطبِّية والعلمية عندما اكتشفوا هذا، فصار يسمى الرقاقة، أو الفيلم الدمعي، وهي تسمية مطابقة لمصطلح (فيلم) الذي ارتبط قديمًا بالشريط التسجيلي الذي كان يوضع في جهاز التصوير (الكاميرا)[1]، والذي توسَّع استعماله حديثًا ليشمل "الرقاقات الرَّقْمية أو الإلكترونية"، المعروفة باتساعها لكمٍّ كبير من المعلومات على مساحة وسماكة ضئيلتين، وبالمناسبة فسماكةُ الرقاقة الدمعية (وهي التسمية الأخرى التي سأعتمدها) لا تزيد عن تسع ميكرون، (وكل واحد ملليمتر = 1000 ميكرون)، تنخفض للنصف بين رمشة عين وأخرى!

والمدهش أن هذه الرقاقة التي كانت تُظَن ماءً مالحًا - (وقد تسمى اللفافة الدمعية) - تتصرف كغشاء شفاف ثلاثي الطبقات، يحتوي العين بحنان، ويتجدد كينبوعٍ ثَرٍّ هادئ، وينساب برشاقةٍ عبر دهليز خاص نحو الأنف والبلعوم، ولكنه قد يتحوَّل فجأة لشلالٍ هادرٍ لا يتَّسِع له ذلك الممر، فيفيض من العينين دمعًا! وهذا يحدث في 95% من الحالات لأسبابٍ عاطفية؛ كما بيَّنت دراسات عديدة؛ منها دراسة ألمانية وجدت إضافةً لذلك أنه يتساوى الأطفال من الذكور والإناث في نسبة وشدة البكاء العاطفي حتى عمر(13) سنة، ثم تتفوَّق الإناث في عدد مرات ذلك البكاء وشدته بعد ذلك العمر، وسبحان مَن علَّمنا وأعلمنا قبلهم بقرون أنه (ليس الذكر كالأنثى)!

يتألف جهاز الدمع من الأقسام التالية:
أولًا: الغدد المفرزة للدمع؛ وهي:
الغدة الدمعية الرئيسة: وتقع في محجر العين (الحجاج) عند الزاوية الخارجية العليا للعين وتحت الحافَة العظمية، ويتصل بهذه الغدَّة الرئيسية (12) قناة ناقلة، تنقل الدموع من الغدة المفرزة لتصب في العين مباشرة؛ (انظر الرسم).
الغدد الدمعية المساعدة، وعددها 48 غدة؛ 40 منها في الجزء العلوي من العين، و8 تسكن في الجزء السفلي، وتكون متوزِّعة في جذور الأهداب (الرموش) وفي حواف الأجفان، وهي تعمل بشكلٍ تلقائي ورتيبٍ، ومهمتها تغذيةُ العين بالدمع، وتأمين الرطوبة اللازمة على مدار الساعة وبشكل مستمر.

أما الغدة الرئيسة، فتنشط أساسًا في حال الانفعالات والتأثر العاطفي، وكذلك استجابةً للمؤثِّرات الخارجية البيئية؛ كالتراب والأجسام الغريبة، والمواد المخرشة؛ كالغازات والأبخرة الواخزة، وإضافة لعملها الفوري المنعكس هذا، فهي تتلقى بعض الأوامر المنظِّمة من الدماغ مباشرة، فيزيد إفرازها في بعض الأمراض كالالتهابات والتحسس.

ثانيًا: الرقاقة الدمعية:
هذه الرقاقة التي ترطِّب العين باستمرار، وتغسلها بين الحين والآخر بإفاضة، هي في الواقع تكوينٌ معقَّد يتألف من ثلاث طبقات:
الطبقة الداخلية المخاطية: وهي الملاصقة للعين، وتتكون من مادة تسمى المخاطين (الموسين)، تفرزها الخلايا البشروية للملتحمة العينية، بالاشتراك مع خلايا من الغدَّة الدمعية، وهي تعطي رُقاقة الدمع صفتَي الثبات واللصوقية (فتجعلها تلتصق بالملتحمة العينية وبالقرنية، وتثبت في تغطيتها كامل سطح العين).

الطبقة المتوسطة: وهي الطبقة المائية، وتُفرِزها الغُدَد الدمعية الرئيسة والمساعدة، وتُمثِّل 98% من الرقاقة الدمعية، ولدهشتنا، فإنها تشبه مَصْل الدم، فهي تضم الجزيئات الشاردية (الأيونات) الذائبة به كالصوديوم والبوتاسيوم، وكذلك البروتينات، والأضداد أو الأجسام المضادة للعوامل الممرضة - كالجراثيم والفيروسات وغيرها - والخلاف هو في تركيزِ بعض العناصر في الدمع مقارنة بالدم، فنسبة السكر (الغلوكوز) مثلًا في الدمِ أعلى منه في الدمع.

الطبقة الخارجية للرقاقة:
وهي طبقة دُهنية (زيتية) ملاصقة للجفنين، تفرزها بالدرجة الأولى غديدات صغيرة جدًّا تقع على حواف الأجفان، وهي تُسهِّل انزلاق الجفن على سطح العين أثناء الرفيف، كما تُفيد في إطالة فترة عملِ الدمع بتأخير تبخُّر الرقاقة الدمعية وتقليل نسبة التبخر (وهذا مهمٌّ جدًّا بالنسبة لـ "العين الجافَّة")، سبحان الله العظيم.

ثالثًا: القسم المفرغ للدمع:
لكلِّ عينٍ نقطتان دمعيتان واقعتان في زاوية العين الأنفية، تبدو الواحدة كفتحة دقيقة على حافَة الجفن، وقنيتان دمعيتان تصلانِهما بكيس الدمع؛ (انظر الرسم).


ويقع كيس الدمعِ في تجويفٍ عظميٍّ بين العين والأنف، وهو محاط بألياف عضلية رقيقة جدًّا، يؤدي انقباضُها وانبساطُها إلى تمدُّد وتقلص الكيس على التوالي، وبالتالي جذب الدمع من العين إليه، ثم دفعه منه عبر القناةالدمعية الأنفية الممتدة بينه وبين الأنف، وهي تنفتح في جوفه المتصل بدورِه بالبلعوم كما نعلم، (التي يسبب تضيقها الخلقي أو انسدادها للدماع عند الرضع).

مسير الدمع المفرز:
تغطي رقاقة الدمع المفرزة مِن الغدد الدمعية سطح كرة العين (المقلة)، وتتماوج فوقها برقَّة، وخاصة فوق القَرَنية التي تغطي الطبقة الملونة أو القزحية، ونظرًا لأنها منتجٌ متجدد باستمرار، فالرقاقة الحالية وهي تؤدي عملها تسيرُ بفضل حركة الأجفان المتكررة باتجاه النقطة الدمعية، وخلال ذلك يتبخَّر نصف كمية الدمع وسطيًّا، وينحدر النصف المتبقِّي عبر تلك النقطة التي تنفتح على القناة الدمعية لتصبَّ في كيس الدمع؛ (انظر الرسم)، ومنه ينساب الدمع عبر القناة العينية الأنفية لجوف الأنف ثم إلى البلعوم؛ ولهذا نُحِسُّ بطعم القطرة العينية في فمنا؛ (مما يُرجِّح أنها تفطر الصائم)، في نفس الوقت تكون رقاقة جديدة أفرزت وحلَّت محلَّ سابقتها، وتسير مسارها، جارفةً مثلها الغبارَ وكل ما قد يكوِّن ألمًا بالعين من الجو المحيط، وينهي الدمع مسيرَه بأن يتبخَّر بعضه في الأنف ويُبتلع جزء منه مع السائل الأنفي مع ما التصق به وما يحمله كلاهما من عوالقَ ضارةٍ، يتم التعامل معها في جهاز الهضم؛ حيث يُقتَل ما تبقى من الجراثيم والفيروسات بحموضة المعدة.

أهم وظائف الدمع:
وظيفة الحماية والترطيب:
إن الرقاقة الدمعية تجلو البصرَ، وتمنع تعكُّر الرؤية حين تحمي العين وترطبها وتنظفها، وهي تجعل سطح العين ناعمًا، وتساعد على أن تكون الرؤية صافية، ودائمًا بحمد الله هناك رقاقة جديدة شفافة تمامًا ونظيفة، وتعطي العين بريقها المحبَّب الذي يدل على العافية مقابل العيون الذابلة، وتُؤدِّي الطبقة الداخلية (المخاطية) للرقاقة مهمةَ توزيع السائل الدمعيِّ بالتساوي؛ إذ تلصق الدمع بكامل سطح العين، فلا تتعرَّض أجزاء منها للجفاف وتبقى أخرى رطبةً، فالإنسان الواقف مثلًا تكون عيناه مرطبتين في الجزء الأعلى تمامًا كما في الأدنى، على الرغم من أن قانون الجاذبية يقضي بنزول الدمع إلى الأسفل، وكذلك الحال لمن ينام على جنبه الأيمن أو الأيسر، فإن كامل عينه تبقى مرطبة بالدموع، كما أن الطبقة الخارجية الدهنية للرقاقة الدمعية تضمنُ الوقاية المديدة من الجفاف في البيئة الحارة الجافَّة (للتقريب: كالزيت، أو المراهم المرطبة التي تمنع جفاف الجلد)، وتعمل لتزليج الأجفان فتسهِّل الرمش اللاإرادي المستمر لجفوننا وأهدابنا، والذي يُسهِم في تجديد نشر الدمع على كامل كرة العين، ويبلغ عدد الرفَّات وسطيًّا 15 مرة بالدقيقة، وعند الشعور بحرقةٍ خفيفة في العين وضعف حركة الأجفان يفيد أن نرمش عمدًا بشكل متكرر لتنتشر الرقاقة الدمعية مجددًا فوق العين مع رفرفة أجفاننا.

وظيفة تبادل الغازات بين العين والهواء المحيط:
معلومٌ أن العين تأخذُ ما تحتاجه من الأوكسجين والغازات الأخرى من الأوعية الدموية الدقيقة المغذِّية لها، ولكن بعض أجزائها - كالقرنية - لا تصلُها الدورة الدموية مباشرة، بل تصلها جزئيًّا من المحيط؛ لذلك فإنها تأخذ المزيد من الغازات وخاصة أكسجين الجو عبر الدمع لتنقيتها وزيادة شفافيتها، وبالتالي لزيادة قوة الإبصار فيها.

وظيفة دفاعية وقائية:
وتؤدِّيها الطبقة الكبرى مِن الرقاقة الدمعية، وهي الوسطى، وتبدأ بغسل العين من الأجسام الغريبة؛ كونها سائلًا معقمًا نظيفًا، والمرحلة الأدق مقاومة الكائنات المجهرية الممرضة؛ كالفيروسات والجراثيم، بالأجسام المضادة التي تحويها، فالدمع هو خط الدفاع الأول ضد التلوث الموجود في الهواء والأصابع والأدوات كالمناديل، وهو يستطيع إضعاف بل وتخريب الكثير من الجراثيم، فتخفُّ قدرتها على التكاثر وإحداث التهابات الملتحمة، وتحفظ سلامة طبقات العين العميقة بدرجة كبيرة.
ومن وظائف الدمع المساهمة في حماية القلب؛ إذ يتولى عن القلب الجوابَ!

قال أحمد شوقي:
وكنتُ إذا سألتُ القلب يومًا ♦♦♦ تولى الدمعُ عن قلبي الجوابَا
وقال العلم الحديث: إن الأدرنالين والبرولاكتين و... كذا وكذا من الهرمونات التي يزيد إفرازها لا إراديًّا عند الانفعال المفاجئ و/ أو الشديد، ويرتفع مستواها في الدم بشدة - هذه الهرمونات منها ما يحرض إفراز الدمع، ومنها ما يفيدنا الدمع في التخلص من كمية منه أثناء الانفعال وبعده؛ إذ يطرحه الجسم مع ذاك الطوفان الدمعي؛ ليخفف آثاره الضارة على القلب والأوعية، ويهدئ تشنُّج المعدة والأمعاء الذي قد يرافقه؛ لذلك يعرف الناس أن انهمارَ الدمع مريحٌ، ومعروف ارتباط الانفعال النفسيِّ بتسرع النبض وارتفاع ضغط الدم ونوب القلب المفاجئة نتيجة فرط إفراز هرمون "الأدرينالين" في الفرح والحزن، والغضب والرعب، على حد سواء! وأن البكاء يخفف هذه الأعراض، فإضافة للأسباب العضوية المتعلقة بالوظائف الحيوية والأمراض، فإن الدمع يزيد إفرازه استجابة للانفعالات والأحاسيس مِن خوف وخشوع، وفرح وحزن، لا سيما المباغِتة منها، أما بكاء الطفل، فيلي عادةً التألم أو الغضب أو الخوف، والحزن أحيانًا، ويرتبط استمرار إطلاق الدمع أو توقفه بتغيرات الحالة العاطفية الشعورية.

قال الشاعر:
بكتْ عينيَ اليمنى فلما زجرتُها ♦♦♦ عن الجهل بعد العلمِ أَسْبَلَتَا معَا
وختامًا:
الحمد لله الذي سخَّر لنا الدمع وعلَّمنا ما لم نعلم؛ لنُدرِك ضعفنا، فنحن بحاجة للدمع؛ حتى لا تصاب أعيننا بالجفاف والتقرح والعمى، ونحن بحاجةٍ للدمع ليتولى عن القلب الجوابَ حين نخشع، نتألم، نحزن أو نفرح، فيخفف العبء عنه (حتى طبيًّا)، وأخيرًا - وهذه ليست وظيفة للدمع؛ بل فائدة -: نحن نستفيد من تتبُّع مسار الدمع بين العين والبلعوم لمعرفةِ حكمٍ شرعي، وهو أن القطرة العينية تبتلع مع الدمع، فهي تفطر، ولعلنا نتابع البحث بجزء ثانٍ عن العين الجافة والعين المبللة بمشيئة الله تعالى.

[1] وكان تركيبه - (أي الفيلم) - سللوز مغطى بقشرة من الجيلاتين ومن برومور الفضة، وهذا المصطلح "فِيلم" لُغويًّا تنقصه الدقة، ففي القواميس الإنجليزية العربية تجدُه يترجَم: "غشائي، رقيق، شفاف، مغشى أو غائم"، وجليٌّ الفرق بين الشفاف والمغشى، وسنعتمد ترجمته الأوسع "رقاقة".