تسمية الهمزة وتاريخ الخط في التراث العربي
إلياس خاتري




1- تاريخ الخط العربي:
إن الحديث عن الخط العربيِّ هو حديث عن تشكيل كاليغرافي يُعطيه خصوصية تشكيلية كصورة خطيَّة للصوت، وقبل الحديث عن مستويات الخط ومكانة الهمزة فيه، لا بدَّ من طرح تعريف عامٍّ للخط كأرضية مشتركة للاشتغال؛ حتى يستقرَّ الفَهم الشامل للتصوُّر الذي سنشتغل وفقه، وقبل أن نتحدَّث عن موقع الهمزة في الخط دون باقي الحروف، نعرض ما عرَّف به القلقشنديُّ الخطَّ بقوله: "الخط هو ما نتعرَّف منه على صورة الحروف المفردة وأوضاعها وكيفية ترتيبها خطًّا"، ويُعرِّفه أقليديس فيقول: "الخط هندسة رُوحانية وإن أُظهِرت بآلة جسمانية"، ويقول أمين الدين ياقوت الملكي: "الخط هندسة رُوحانية بآلة جسمانية، إن جوَّدت قلمَكَ جوَّدت خطَّكَ، وإن أهملت قلمَكَ أهملت خطَّكَ"، وجاء أيضًا: "إنه علم يُعرف به أحوال الحروف ووضعها وكيفية تركيبها في الكتابة، يكون بآلة جسمانية تضعف بالترْكِ وتقوى بالإدمان"[1].

ويمكن جوازًا أن نقول: إن هذه التعاريف تقليدية، تُصوِّرُ التعاطيَ مع الخط من منظور كلاسيكي محض، انطلاقًا من المعطى القائل بأن الخط نتاج لآلة جسمانية، حيث تمَّ تجاوز هذه الإمكانية إلى إمكانيات أكثر تطورًا وأقل جهدًا في رسم الخط، كما أن هذه التعاريف لا تُصوِّر معنى الخط بصورة واضحة، ومن ثم كان لزامًا أن نجد تعريفًا يكون أقرب إلى حقيقة الخط الذهنيَّة، يجمع أهمَّ المكونات الحسية الحركية المساهمة في تشكُّل الخط كمخرج نهائيٍّ لفعل الكتابة، ومن ذلك نجد: "إن الخط مَلَكة تنضبط بها حركةُ الأنامل بالقلم على قواعدَ مخصوصة، هذه القواعد تشمل جميع أنواع الخطوط العربية والأجنبية وما سيُخترع فيما بعد"[2].

حتى نرفع كلَّ التباسٍ محتمل بين الخط وبين قرينة له في ذات السياق، وهي الكتابة؛ نقول: "الكتابة هي إعمال القلم باليد - في التصوُّر التقليدي، أما الآن فهناك وسائل أخرى - في تصوير الحروف ونقشها، والخط تصويرُ اللفظ ورسمُ حروف هجائه، وتعرف الكتابة بأنها نقوش (رسوم) مخصوصة دالة على كلام"[3].

ويمكن إذًا أن نُحدِّد الفرق بين الكتابة والخط: على أن الخط نرسم به الحروف العربية مفردة أو مركَّبة في قالب من الحسن والجمال، حسب أصول فنِّه وقواعده التي وضعها مُنظِّروه، كما أنه نابع من إحساس جماليٍّ رُوحي كما سبق تعريفه، أما الكتابة، فهي أشبه بعملية آلية يُمكن أن تكون فارغة الإحساس والشعور.

وفي إطار الحديث عن خَصوصية الخط العربيِّ التي يُعتبر حرف الهمزة جزءًا من مكوناتها، يجوز القول: إنها خصوصية على مستوى المدلولات والمقاصد، أما على مستوى الرسم والتشكيل الخطيِّ، فالعرب "لم يبتكروا خطَّهم الذي كتبوا به لغتهم؛ وإنما تأثَّروا في وضعه بالخط النبطيِّ[4] الذي كان منتشرًا في شمالي الجزيرة العربية قبل مجيء الإسلام، وقد شاع هذا الخطُّ أولًا بين الحجازيين، ولا سيما في قريش التي كان رجالها يسافرون بتجارة العرب إلى اليمن شتاءً، وإلى الشام صيفًا، وهما الرحلتان اللتان أشار إليهما القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴾[قريش: 1، 2]"[5].

ويتضح ممَّا سبق أن الخط العربيَّ المحصل لدينا تم بفعل احتكاك العرب بالثقافات الأخرى التي كانت لها ثقافة الرسم والتشكيل قبل مجيء الإسلام، لكن بعد هذا الأخير سيتغيَّر التصوُّر العام للخطِّ في ظل صدر الإسلام؛ نظرًا للخصوصية التي سيحظى بها الخط العربيُّ، هي خصوصية سيتأثر بها حرف الهمزة في كل مستوياته، وخاصة في علم القراءات القرآنية، بِناء على معطيات الكتاب المقدَّس، وهو القرآن الكريم.

2-1 - الخط العربي: النشأة والتأصيل والتطوُّر:
إن الحديث عن مصادر الخط العربيِّ وأصوله يجرُّنا - حسب الدكتور يحيى وهيب الجبوري - للحديث عن أصلينِ أساسيين للخط العربي: أول هذه الأصول "الأصل النظري، ويتمثل في الكتابات الإسلامية عن الخط وتاريخه وتطوُّره وأشكاله، وقد جاءت في ذلك نصوصٌ كثيرة، هذه النصوص كثيرًا ما تعتمد على الافتراضات والاجتهادات والآراء المتوارثة، وإذا كان أكثرها صحيحًا، فإن فيها كثيرًا ممَّا لا يقبله العقل"[6].

إذًا؛ يتضح بأن هذا الأصل النظريَّ المعتمد على جمع الموروث المدوَّن حول النشأة والتطوُّر ليس أصلًا ثابتًا؛ وإنما أصل تتداخل فيه مجموعة من الاجتهادات التي تتضمن بعض الافتراضات غير المقبولة علميًّا؛ مما يجعلنا نسلِّم بأن هذا الأصل لا يمكن اعتماده كإطار تنظيري نُؤسِّس عليه لفهم شموليٍّ لسيرورة الخط العربيِّ، ما دام يستند في إطاره المرجعيِّ على معطيات غير ثابتة وملموسة.

وإذا كان الأصل الأول في مصادر دراسة الخط العربيِّ غيرَ كافٍ لبناء رؤية علمية واضحة، ولا يتأسَّس على مسلَّمات موثَّقة ثابتة؛ "فالأصل الثاني هو الأهمُّ والأوثق، وهي الأصول المادية الأثرية مما كُتب على الحجر والنُّحاس والنسيج والرق والبردي[7] من نقوش، ورسائل ووصايا، وتواريخ ومعاهدات، وصكوك وغيرها.

وإذا كان تاريخ الخط العربيِّ لا يعترف إلا بنماذجه المادية، فإن صور الخط وأنواعه ورسومه لا تعترف إلا بالنموذج، فمهما وُصف الخط الكوفيُّ نظريًّا، فلا يجدي إن لم يكن معه نموذج من صورة على الحجر أو الرق أو النسيج، ولا شك أن النماذج الخطية تُعين على معرفة تاريخ الخط وأصله وتطوُّره أكثرَ من النصوص النظرية التي لا تستند إلا على الرأي والنقل، وكل رأي له رأيٌ آخَرُ يُخالفه ويضادُّه، والنقل عرضة للوهم والخطأ، والزيادة والنقص؛ ولذلك لا بدَّ في الدراسة العلمية من الرجوع إلى المصدرين باعتبار الأصول المادية هي الأصل الأول والأوثق، وعلى الدارس الحريص ألا يهمل عنصرًا من عناصر البحث، فبالإضافة إلى المصادر النظرية كالرسائل التي أُلِّفت في الخط العربي خلال العصور السالفة، والكتب التي أُلِّفت عن الخط عند العرب، وأوردت فصولًا خاصة له، نرى أنه وجب أن ينصبَّ الاهتمام على كل ما تركه الإسلام من نماذج مكتوبة"؛ حتى نُحدِّد فيها مكانة حرف الهمزة، وما يتعلَّق بها من حروف في المماثلة والوضع، كالألف في الكتابة، والهاء والعين في المخرج[8].

3-1- شكل حرف الهمزة وتسميتها:
إن الحديث عن تسمية الهمزة "هو حديث عن جزء مُهِمٍّ من تاريخ اللغة العربية ولهجاتها، وجزء من تاريخ الكتابة وتطويرها؛ فقد مرَّت العربية على مرِّ العصور بطور التعدُّد اللهجي قبل أن تُصبِح لغةً مشتركة، ومرَّت الكتابة العربية من القرن الثاني الهجريِّ بعدة مراحلَ قبل أن تصل إلى الصورة التي نعرفها عنها اليوم؛ فقد كان الرسم الكتابيُّ في الجاهلية حديثَ المَنشأ، وكان اعتماد العرب على موروثهم من الخط العربي قبل أن يُشكل أو يُنقط"[9].

في هذا المحور سنقف على جانبٍ أساسي من جوانب الهمزة، ونقصد هنا الشكل والتسمية؛ أي: ما هي الممكنات التي يمكن أن ندافع بها عن مصدر رسم الهمزة واسمها؟ وما هي الاعتبارات التي راعاها الخليل وغيره في وضع هذا الرمز المتفق عليه للهمزة؟

أول ما يمكن أن نبدأ به هو التعريف اللغويُّ للهمزة الذي يمكن اعتباره أرضيةً أولية يُبنى عليها فهمُ ما سيُطرح للعرض في هذا البحث، وفي سياق الحديث عن التعريف اللغويِّ فإننا سنُخصِّص له محورًا خاصًّا في هذا البحث، لكننا سنقتصر من المنظور اللغوي هنا على ما يخدم ما نحن بصدده؛ إذ نجد أن "الهمزة لغةً: مصدر المرَّة من همزه إذا غمزه وضغطه"[10].

أما على مستوى موقع الهمزة بين الحروف، فتُعتبر من "حروف الهجاء، وهي حرف مستقل يخرج من أقصى الحَلْق، فاستثقل النطق به، ويعتبر الخليل أول من وضع للهمزة رمز (ء) - رأس عين (ع) - وذلك بعد مرور قرنين على وضع حروف الهجاء، فبعد أن كان يرمز للهمزة بنقطة فوق كرسيِّها أو في وسطه أو تحته، حُوفظ على هذا الكرسيِّ بعد أن وُضع لها رمز (ء)، الذي نستخدمه اليوم على مذهب أهل الحجاز، وكرسيُّ الهمزة هو الألف والأصل هو (ء)؛ لهذا تُكتب الهمزة على الأصل - أي: على الألف –في الموقع الذي لا يمكِن أن تُخفَّف فيه، وذلك إذا وقعت أولًا نحو: (أثر - إبرة)، ويُحذف كرسيُّها في الموقع الذي تُخفَّف فيه بالحذف، وذلك إذا وقعت طرفًا بعد ساكن؛ نحو: (دفء - جزء)[11]، وغيرها من أنواع الهمزة ومواقعها التي سنفصل فيها فيما سيأتي من فصول هذا البحث.

لا بد سلفًا من التذكير أن المنهج الأنسب للإجابة عن هذه الأسئلة هو المنهج الوصفيُّ التحليلي؛ حيث تَوصَّل بآلياته في التحليل إلى أن الكتابة العربية احتفظت برسم الحجازيين في الكتابة، "وقد اعتمد الخليل في اختيار صورتها على ظاهرتين صوتيَّتين، وهما:
مجاورة الهمزة لصوت العين في المَخرَج من الحَلْق، ونطقها في بعض لهجات العرب عينًا"[12]، وهي الظاهرة التي تُسمَّى (بالعنعنة) في اللهجات العربية، وخاصة في لغة تميم؛ حيث يجعلون بدل الهمزة عينًا، وذكر الجوهريُّ في الصحاح أنَّ العنعنة في لغة تميم أنْ تقول (عن) في موضع (أنْ)، ولقد جرى على رسم الحروف تطويرات متتالية، "فالعربية لم تكن مشكولة ثم شكلت بوضع أبي الأسود الدؤلي لنقط الإعراب"[13]، ولم تكن معجمة ثم أُعجمت بنقط نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر كما ذكر ابن خلِّكان، والشاهد في هذا أنها "لم تكن مهموزةً ثم هُمِزت بوضع الخليل لصورة الهمزة على هيئةِ عينٍ صغيرة"[14]، وهذا ما يُفسِّر رسم الهمزة المستقر في اللغة العربية حاليًّا.

كما قد "خالط صوتَ الهمزة مما له في الرسم حروفُ المد وحرف العين، فالهمزة تبدل في لغات العرب من الألف والياء والواو والعين"[15]، وهذا ما يُعلِّل اختيار الخليل صورة العين المصغَّرة وجمعها على حروف المد؛ لاشتراك هذه الحروف مع الهمزة في الكرسي، ومع العين في المَخرَج والرسم، ومن ثم فإن رسم الهمزة جاء غالبًا من العلاقة الصوتية بين صوت العين وصوت الهمزة؛ لما بينهما من إبدال في لغات العرب؛ "حيث كانوا يختبرون صوت الهمزة بصوت العين عند الإشكال في معرفة حقيقة الهمزة، فإن جاز إبدالها إلى العين فهي همزة، وإن لم تقبل الإبدال فهي حرف مدٍّ أصيل، وقال أبو عمرو الداني: إن الهمزة تُمتحن في موضعها العام بالعين، فحيث وقَعت العين وقَعت الهمزة مكانها، سواء كانت متحركة أو ساكنة أو لحقها التنوين"[16].

وختامًا يمكن القول في معرض الحديث عن شكل الهمزة ورسمها في الخط العربي: إن الاعتبار الأساس في ذلك يتمثَّل في تأثير صوت الهمزة المنطوق على شكلها المكتوب الذي رُسمت به؛ نظرًا لما بينهما من تداخلات صوتية مع حرف العين بالأساس؛ مما جعل شكل الهمزة جزءًا من العين في الرسم.

------------------


[1] ابن الطاهر، عبدالقادر الملكي الخطاط، 1939، ص 7-8.

[2] المرجع نفسه، ص8.

[3] المرجع نفسه، ص7.

[4] النبط: هم قوم من الساميِّين، كانوا يتكلَّمون اللهجة الآرامية التي كانت شائعة في سوريا والعراق، وقد اشتقُّوا أبجديتهم من الخط الفينيقي؛ حيث وضع الفينيقيون - وهم أقوام سامية - نظامًا من الرموز لأبجديتهم، ورثها عنهم بعض شعوب العالم القديم، بعد أن أحدَثوا فيها شيئًا من التغيُّرات على مرِّ الزمن.

[5] رمضان، عبدالتواب، 1992، ص11-12.

[6] الجبوري، يحيى وهيب، 1994، ص13.

[7] الرق والبردي: بعض جلود الخرفان والماعز والغزلان، تُهيَّأ وتُجفَّف ليُكتب أو يُخطَّ عليها، وقد كانت هذه الوسائل قبل اختراع الورق.

[8] المرجع نفسه، ص13.

[9] رمضان، حمادة فؤاد، مجلة الجامعة الإسلامية للبحوث الإسلامية، أثر صوت الهمزة على صورتها الكتابية، ع13، 2015، ص 196.

[10] الفراهيدي، الخليل بن أحمد؛ معجم العين، ص 469.

[11] طربيه، أدما، معجم الهمزة، ص1.

[12] المرجع نفسه، 196.

[13] السيرافي، الحسن بن عبدالله؛ أخبار النحويين البصريين، ص13.

[14] ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين؛ وفَيَات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج1 ص172.

[15] ابن جني؛ سر صناعة الإعراب، ج1 ص 86.

[16] حمادة، فؤاد رمضان، مجلة الجامعة الإسلامية للبحوث الإسلامية؛ أثر صوت الهمزة على صورتها الكتابية، ع 13 /2015، ص 203.