مكانة الشاعر في العصر الجاهلي


د. إبراهيم عوض


ومِن القضايا المتعلقة بالشعر الجاهلي كذلك ما قيل عن مكانة الشاعر في ذلك العصر، فقد ذكر ابن رشيق في "باب احتماء القبائل بشعرائها" من كتابه: "العمدة في محاسن الشعر وآدابه": "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصُنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج"، وقد أخذ مؤرخو الأدب العربي يستشهدون بهذه العبارة على أنها أمر مفروغ منه، وأن ما ورد فيها إنما كان يقع حرفيًّا، ومن هؤلاء جلال الدين السيوطي (المزهر في علوم اللغة والأدب/ القاهرة/ 1335هـ/ 2 /293)، وجرجي زيدان (تاريخ آداب اللغة العربية/ 83)، والشيخ أحمد الإسكندري والشيخ أحمد العناني (الوسيط في الأدب العربي وتاريخه/ 59)، ورينولد نيكلسون (A History of Arabic Literature، P، 71)، وأحمد حسن الزيات (تاريخ الأدب العربي/ 44)، والسباعي بيومي (تاريخ الأدب العربي - في العصر الجاهلي/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 142)، ود. علي الجندي (في تاريخ الشعر الجاهلي/ دار المعارف/ 274)، ود. خورشيد أحمد فارق (K، A، Fariq، History of Arabic Literature، Vikas Publications، Delhi - Bombay - Bangalore - Kanpur - London، P، 43) ... إلخ، على أني، رغم ذلك كله، لا أحسب أن هذا كان يقع حرفيًّا كما جاء في كلام ابن رشيق، بل المقصود أن العرب كانوا يتفاخرون بشعرائهم كما يتفاخر أي منا بما تمتاز به أسرته أو قريته أو مدينته أو جامعته أو وطنه أو أمته، لا أن الحفلات كانت تقام فعلًا ويلعب النساء بالآلات الموسيقية وما إلى ذلك؛ إذ لم يقابلنا خبر واحد عن قبيلة معينة احتفلت بأحد شعرائها على هذا النحو، إنما هو كلام عام مرسل، علاوة على أن أحدًا لم يقل هذا القول قبل ابن رشيق، وهو متأخر؛ إذ هو من أهل القرن الرابع الهجري، فأين كان ذلك الكلام قبله؟ لقد كانت مكانة الشاعر الجاهلي بين قبيلته مكانة كبيرة بلا شك، وهذا كل ما أفهمه من نص ابن رشيق لا أكثر؛ إذ كان هو المحامي عن أعراضها والمذيع لمفاخرها والمالئ وقت فراغها بما ينشدها من شعر معجب يسليها ويمتعها، والمحرك لمشاعرها والعازف على أوتار قلبها والمعزي لها في أوقات الملمات والمثير لحماستها عند الحروب والمشعل نار الانتقام في نفوسها... وهكذا، وإن لم يعنِ هذا أن الشعراء جميعًا كانوا يفعلون كل ذلك، وفي كل الظروف والأوقات، بل كان هناك شعراء لا يتغنَّوْن إلا بما يجدونه في قلوبهم بوصفهم أفرادًا في دنيا البشر لا أعضاء في قبيلة معينة، كما كان هناك أيضًا شعراء متمردون يشذون عن قبيلتهم فتخلعهم، كما هو الشأن مثلًا في شعراء الصعاليك، هذا ما أفهمه من كلام ابن رشيق، أما الاحتفال بنبوغ الشعراء في العصر الجاهلي فلا أدري كيف يمكن تحديد الوقت الذي ينبغ فيه شاعر ما؛ أبأول شعر يقوله؟ لكن هذا ليس ما يُفهم من كلمة "نبوغ"! أم يكون بانتشار شهرته؟ لكن أمن الممكن تحديد وقت معين لذلك؟ أم يرجع الأمر إلى لجنة تعلن أنه بلغ النبوغ الشعري؟ لكن متى كان الجاهليون يعرفون نظامًا كهذا؟ الواقع أننا كيفما قلبنا تلك العبارة فلن نصل منها إلى شيء محدد يريح البال؛ ولهذا كله أرى أن المقصود بها هو معناه الرمزي الذي أشرت إليه آنفًا، وهو أن الشاعر الجاهلي كان بوجه عام ذا مكانة عالية بين قومه؛ للأسباب التي ذكرناها.

أما قول نيلدكه: إن الشاعر الجاهلي كان "نبي قبيلته وزعيمها في السلم وبطلها في الحرب، تطلب الرأي عنده في البحث عن مراعٍ جديدة، وبكلمته وحدها تضرب الخيام وتحل، كما كان يحدو الرحالة العطاش في التنقيب عن الماء"؛ (انظر حنا الفاخوري/ تاريخ الأدب العربي/ 59) فكلام غير صحيح؛ إذ ها هم أولاء شعراء الجاهلية بين أيدينا، وقد قرأنا أشعارهم وتراجمهم فلم نجد شيئًا مما يزعمه نيلدكه، إنما كانت قيادة القبيلة لشيخها، فإن تصادف أن كان شاعرًا فبها ونعمت، كما هو الوضع في حال كليب بن ربيعة والفند الزماني وعمرو بن كلثوم وأحيحة بن الجلاح ودريد بن الصمة، وإلا فالشاعر فرد من أفراد القبيلة، يسمع ما انتهى إليه قرارها ويلتزم به كما يلتزم غيره، مع رعاية مكانته المتميزة كما قلنا، وإلا فقد كان عنترة شاعرًا، وشاعرًا كبيرًا، فهل كان قبيلته تتبع خطاه وترى ما يراه؟ كما كان طَرفة أيضًا شاعرًا، ولم تكن قبيلته تعيره أدنى اهتمام من جهة الرياسة والرأي؛ إذ كان شابًّا لاهيًا عابثًا يصطدم بها ولا ينسجم مع أوضاعها، حتى لِيمَ على تمرده لومًا شديدًا، سجله هو نفسه في معلقته، ولدينا الأعشى وزهير والنابغة وحسان، وغيرهم كثيرون من شعراء الجاهلية، ولم نقرأ أن أيًّا منهم كان سيد قبيلته يومًا، ثم لقد كان هناك شعراء رحالة ينتجعون الممدوحين، فهل كان على قبائلهم إذا ما ألمَّت بها ملمةٌ أن تنتظرهم حتى يؤوبوا من أسفارهم فيشيروا عليها بما ينبغي أن تصنعه؟ كما أن القبيلة الواحدة كثيرًا ما كان لها أكثر من شاعر، فمن منهم يا ترى كان هو السيد المطاع الذي تأخذ برأيه وتنصاع لمشورته؟ أم هل كان لكل قبيلة شيوخ عدة؟ وما القول في الشعراء المتمردين على قبائلهم؟ أكانت تلك القبائل تتخذ منهم شيوخًا لها رغم ذلك؟ وأخيرًا متى كانت الموهبة الشعرية والشخصية الحكيمة المهيبة التي تعنو لها رقاب الآخرين صنوينِ متلازمين حتى يكون كل شاعر جاهلي سيدًا لقبيلته بالضرورة؟ ألا ما أكثر ما يشيع في دنيا الأدب العربي من مقولات (وبخاصة ما كان منها صادرًا عن المستشرقين) إذا ما تحراها الدارس أو وقف إزاءها وقفة المتسائل، فسرعان ما ينكشف زيفها وما فيها من مجافاة للمنطق ووقائع الحياة!