خطبة الحرم المكي - دأب الصالحين محاسبة النفـس ومداومة العمـل


مجلة الفرقان
عناصر الخطبة

- ضرورة الاعتبار بمرور الأيام والتأهب لانتهاء الآجال.
- وجوب مصاحبة العمل للعلم.
- المعنى الصحيح لمحاسبة النفس.
- الفوائد والثمرات لإخلاص العمل والنيات.
- المداومة على العمل الصالح دأب الصالحين المتقين.
- الوصية بالمبادرة بالعمل الصالح.
جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 30 ذي الحجة 1443ه، الموافق 29 يوليو 2022، للشيخ صالح بن عبدالله بن حميد بعنوان (دأب الصالحين محاسبة النفس ومداومة العمل)، وتناولت الخطبة عددًا من العناصر منها: ضرورة الاعتبار بمرور الأيام والتأهب لانتهاء الآجال، ووجوب مصاحبة العمل للعلم، والمعنى الصحيح لمحاسبة النفس، والفوائد والثمرات لإخلاص العمل والنيات، والمداومة على العمل الصالح دأب الصالحين المتقين، والوصية بالمبادرة بالعمل الصالح.
في بداية الخطبة أكد الشيخ ابن حميد أن كل عام ينقضي يُبعِد عن الدنيا والدُّور، ويُقرِّب من الآخرة والقبور، ويُبعِد عن التمتُّع بالأهل والأولاد والأموال، ويُقرِّب من الانفراد بالأعمال؛ {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الْجُمُعَةِ: 8)، وحقٌّ على مَنْ أراد الخيرَ لنفسه الوقفةُ الصادقةُ مع النفس محاسبةً ومساءلةً، فوالله لتموتُنَّ كما تنامون، ولتُبعثُنَّ كما تستيقظون، ولتُجزَوُنَّ بما كنتم تعملون، فجنة للمطيعين، ونار للعاصين؛ {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (فُصِّلَتْ: 40)
الزمان وتقلُّباته أنصحُ المؤدِّبينَ
إنَّ الزمانَ وتقلُّباتِه أنصحُ المؤدِّبينَ، وإنَّ الدهرَ بقوارعِه أفصحُ المتكلِّمينَ، فانتبِهوا بإيقاظه، واعتبِروا بألفاظه، كما ورَد في الأثر: «أربعةٌ من الشقاء: جمودُ العينِ، وقسوةُ القلبِ، وطولُ الأملِ، والحرصُ على الدنيا» أخرجه البزار، ففي الشباب مَنْ غرَّه شبابُه؛ فنسي فقدَ الأقران، وغفَل عن سرعة المفاجآت، وتعلَّق بالأماني، وما الأماني إلَّا أوهامُ الكُسالى، وأفكار اللَّاهين، وما الاعتماد عليها إلا بضائع الحمقى، ورؤوس أموال المفاليس، والتمنِّي والتسويف إضاعةٌ للحاضر والمستقبل.
حال بعض أهل العلم
وفي أهل العلم مَنْ جَدَّ في التحصيل، ولم يجدَّ في العمل، أُعطُوا علومًا فصرفوها في المُكاثَرات والمجادَلات، والعلوّ على الأقران، يُخرِّق دِينَه مِنْ أجلِ ترقيعِ دُنياه، لا يتحاشى غِيبةً، ولا يَسلَم من حسدٍ، وفي أهل الدنيا مَنْ صرَف أموالَه في الشهوات والمحرَّمات، وأشدُّ هؤلاء مَنْ كسَب مالًا فأدخَلَه النارَ، وَوَرِثَه مِنْ بعدِه قومٌ صالحون، عَمِلُوا فيه بطاعة الله، فأدخَلَهم الجنةَ.
حال مَنْ يُوقِن بالموت ثم ينساهُ
عجيب حال مَنْ يُوقِن بالموت ثم ينساهُ، ويتحقَّق من الضرر ثم يَغشاه، يَخشى الناسَ واللهُ أحقُّ أن يخشاه، يغترّ بالصحة ويَنسى السَّقَم، ويَفرَح بالعافية ولا يتذكَّر الألمَ، يزهو بالشباب ويغفُل عن الهَرَم، يهتمّ بالعِلْم ويُهمِل العملَ، يَحرِص على العاجل ولا يُفكِّر في الآجِل، يطولُ عُمرُهُ وتكثُر ذنوبُه، يبيَّض شعرُه ويُظلِم قلبُه، القلوبُ المريضةُ يَعِزّ شفاؤها، والعيون التي تكتحِل بالحرام يقلّ بكاؤها، وإذا غرقت الجوارحُ في الشهوات فحَقٌّ عَزاؤُها.
صاحب البصر النافذ
وإذا كان الأمر كذلك فعلى صاحب البصر النافذ أن يتزوَّد من نفسه لنفسه، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، ومن صحته لمرضه، فما بعدَ الموتِ مِنْ مُستعتَب، ولا بعدَ الدنيا سوى الجنة أو النار، ومَنْ أصلَح ما بينَه وبينَ ربِّه كَفَاهُ ربُّه ما بينَه وبينَ الناس، ومَنْ صدَق في سَرِيرَتِه حَسُنَتْ علانيتُه، ومَنْ عَمِلَ لآخرته كفاهُ اللهُ أمرَ الدنيا.
المحاسَبُة الصادقةُ
والمحاسَبُة الصادقةُ ما أَوْرَثَتْ عملًا، فعليكَ -يا عبداللهِ- أن تستدركَ ما فات بما بقي، فتعيش ساعتَكَ ويومَكَ، ولا تشتغِلْ بندمٍ وتحسُّرٍ يَصرِفُكَ عن العمل، واعلم أن مَنْ أَصلَح ما بَقِيَ غُفِرَ له ما مضى، ومَنْ أساء فيما بَقِيَ أُخِذَ بما مضى وبما بقي، والموتُ يأتي بغتةً، فأعطِ كلَّ لحظةٍ حقَّها، وكلَّ نَفَس قيمتَه، فالأيَّامُ مَطَايَا، والأنفاسُ خُطُواتٌ، والصالحاتُ هي رؤوسُ الأموال، والربحُ جناتُ عدنٍ، والخسارةُ نارٌ تلظَّى، لا يصلاها إلا الأشقى، وأنت -يا عبداللهِ- حسيبُ نفسك.
المطلوب في الأعمال الصالحة
إن المطلوب في الأعمال الصالحة رعاية القلوب في إخلاصها، فالإخلاص -عباد الله وبإذن الله- يُورِثَ القوةَ في الحق، ويُورث الصبر والمثابرة والمداومة، بالإخلاص يتضاعف فضلُ الله، ويَعظُم أجرُه وثوابُه، بل الإخلاص يجعل المباحاتِ طاعاتٍ وعباداتٍ وقرباتٍ؛ ومِنْ ثَمَّ تكون حياةُ العبد كلها لله؛ {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ}(الْأَنْعَا مِ: 162-163).
المداوَمة على الصالحات
ولا تنسَ -وأنت تتحرَّى الصالحات- المداوَمةَ عليها، ففي الخبر الصحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل» (أخرجه البخاري في كتاب القصد والمداومة على العمل)، وقد كان عمله - صلى الله عليه وسلم - ديمة، يقول الإمام النوويّ -رحمه الله-: «بدوام القليل تستمر الطاعة، ويستمر الذِّكْر والمراقبة والإخلاص، والإقبال على الله، فينمو القليل الدائم، حتى يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة»، ويقول ابن الجوزي -رحمه الله-: «مُداوِم الخيرِ مُلازِم لخدمة مولاه، وليس مَنْ لازَم البابَ في وقت كمن لازَم يومًا كاملًا ثم انقطع».
في قوارع الدهر لَعِبر
إنَّ في قوارع الدهر لَعِبرًا، وإنَّ في حوادث الأيام لَمُزدجرًا، أوقاتٌ تُطوى فتُخرِب عامرًا، وتُعمِر قَفْرًا، تُعير مرةً، وتَسلُب أخرى، فاحذروا زخارفَها المضلةَ، مَنْ تكثَّر منها لم يزدَدْ من الله إلا بُعدًا، واعلموا -رحمكم الله- أنَّ مَنْ لم يشغل نفسَه بالحق تشاغلَتْ بالباطل، والإناء إن لم تَشغَلْه بالماء شغَلَه الهواءُ، فمَنْ عزَم على حفظ ما بقي له من سُويعات عُمرِه فلا يُصاحِب إلا الجادِّينَ العاملينَ، الأخيارَ النابهينَ، البررةَ الصالحينَ، الذين يَحرِصون على أوقاتهم أشدَّ مِنْ حِرْصِ الشحيحِ على دراهمه ودنانيره، جِدُّوا في العمل، واعتبِروا بما سلَف، فالفرصُ تَفُوتُ، والأجلُ موقوتٌ، والإقامةُ محدودةٌ، والأيامُ معدودةٌ، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} الْمُنَافِقُونَ :11)، فالغفلةُ رأسُ الخطايا، يقول الحسن البصريّ -رحمه الله-: «الحسنةُ نورٌ في القلب، وقوةٌ في البدن، والسيئةُ ظلمةٌ في القلب، ووهنٌ في البدن، وظلمُ المعصيةِ يُطفئ نورَ الطاعة».