تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: الليل في التراث

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,487

    افتراضي الليل في التراث

    الليل في التراث
    د. أحمد إسماعيل عبدالكريم





    الليل آية من آيات الله عز وجل في الكون، وظاهرة من الظواهر الكونية في دورة الفلك، وهو صورة من صور الحياة في المنظومة الكونية، والليل مصدر من مصادر الراحة وتجديد الطاقات، وهو عالم فسيح بما يكتنفه من غموض أو يُظلله من سكون، تَنشط فيه حياة عالم الأرواح، فتسبح في عالم فسيح من الروحانية، وتتجول في عالم واسع لا تصل إليه بصائرُ الأحياء وعيونهم في حال يَقظتهم، والليل آية من محددات الزمن، فهو كائن محسوس من خلاله يستطيع الكائن الحي ضبط حياته، وتنظيمها بين الكد والراحة والسعي والسكينة، بين اللباس والمعاش في مسيرة الحياة.

    الليل في اللغة:
    تعددت المعاجم اللغوية التي أظهرت معاني لفظة "ليل"، ومن أبرز معانيها: الفترة الزمنية، فترة غياب الشمس، فالليل خلاف النهار، يقال: ليلة وليلات[1]، ويقول ابن منظور: الليل عقيب النهار، ومبدؤه من غروب الشمس، وفي التهذيب: الليل ضد النهار، والليل ظلام الليل، والنهار الضياء، وليلة ليلاء وليلى: طويلة شديدة صعبة، وقيل: هي أشد ليالي الشهر ظلمة، وبه سُمِّيت المرأة ليلى، وقيل الليلاء ليلة ثلاثين، وليل ألْيلُ ولائل، وقليل كذلك، قال: وأظنهم أرادوا بمليل الكثرة، كأنهم توهموا لُيِّلَ؛ أي: ضعف ليالي، قال عمرو بن شأس[2]:
    وكان مجودٌ كالجلاميد بعدما ♦♦♦ مضى نصفُ ليلٍ بعد ليلٍ مُليَّلِ

    وذهب إلى ذلك أيضًا صاحب التهذيب وذكر قول الفرزدق
    [3]:

    قالوا وخاثرُه يردُّ عليهم ♦♦♦ والليل مُختلطُ العياطلِ أَلْيلُ


    وليل أليلُ: مثل يوم أيوم، وألال القوم وأليلوا: دخلوا في الليل، وابن السكيت: يقال لليلة ثمان وعشرين: الدعجاء، ولليلة تسع وعشرين: الدهماء، ولليلة الثلاثين: الليلاء، وذلك أظلمها، وليلة ليلاء، أنشد ابن بري[4]:
    كم ليلةٍ ليلاءَ مُلبسة الدُّجى ♦♦♦ أُفقَ السماء سَريت غير مُهيَّبِ


    والليل واحدته: ليلة، والجمع ليالٍ على غير قياس، وتوهموا واحدته لَيلاة، ونظيره ملاح ونحوها مما حكاه سيبويه، وتصغيرها لييلية، شذ التحقير، كما شذ التكسير، هذا مذهب سيبويه في كل ذلك، وحكى ابن الأعرابي لَيلاة وأنشد:
    في كل يومٍ ما وكل ليلاه

    حتى يقول كلُّ راءٍ إذ راه

    يا وَيْحَه من جمل ما أشْقاه



    وحكى الكسائي: ليايل جمع ليلة، وهو شاذ، وأنشد ابن بري للكميت:
    جمعتُك والبدرَ بنَ عائشةَ الذي ♦♦♦ أضاءتْ به مُسْحَنككاتُ الليايلِ


    وقال الجوهري[5]:الليل: واحد بمعنى جمع، وواحده ليلة، مثل: تمرة وتمر، وقد جُمِع على ليال، وقال ابن فارس: جمع ليلة ليلات[6]، وعند الرازي ليلة: مفرد ليل[7]، ولليل معان ودلالات كثيرة لم نشأ ذكرها، وقد قصر البحث الحديث عن الليل المعني به الزمن.


    الليل في القرآن الكريم:
    وقد وردت لفظة "الليل" في القرآن الكريم بلفظ الجمع والمفرد في آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل، وهذه اللفظة لها من الدلالات الكثير، ففي كل موقع جاءت حاملة دلالة ومعنى، فمنها ما جاء على معنى الزمن، ومنها ما جاء في سياق دال على معجزة الليل، باعتبارها من الظواهر الفلكية المستمرة التي لا تخفى عن أعين الخلق جميعًا، وقد ضرب الله بها المثل على طلاقة قدرته، وسَعة إحكامه، وهكذا.

    نذكر منها: قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [البقرة: 51]، وكذلك قوله تعالى: ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ﴾ [الأعراف: 54]، وقوله تعالى: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَ ا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ [الأعراف: 142]، وقوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ [الإسراء: 1]، وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾ [الإسراء: 12]، وفي قوله تعالى: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 78، 79]، وفي قوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ﴾ [مريم: 10]، وقوله تعالى: ﴿ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾ [الزمر: 5]، وفي قوله تعالى: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [الذاريات: 17]، وكذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]، وفي قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 1، 2]، وفي قوله تعالى: ﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ﴾ [الحاقة: 7]، وفي قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾ [النبأ: 10]، وقوله تعالى أيضًا: ﴿ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾ [النازعات: 29]، وفي قوله تعالى: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ [الفجر: 1 - 3]، وقوله تعالى: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴾ [الشمس: 4]، وفي قوله تعالى: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾ [الليل: 1]، وقوله تعالى: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ [الضحى: 1، 2]، وفي سورة القدر: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 1 - 3].
    وقد ورد "الليل" في القرآن الكريم حاملًا كثيرًا من المعاني المليئة بالدلالات التي لا تَنفد ولا تنتهي.

    الليل في الحديث الشريف:
    كثُرت الأحاديث النبوية الشريفة التي ورد فيها لفظ "الليل"، وسنذكر منها:
    عن أبي موسى عبدالله بن قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل، حتى تطلُع الشمس من مغربها))[8].

    عن أبي شريح بن عمرو الخزاعي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُكرم ضيفه جائزته))، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: ((يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك، فهو صدقة))[9].

    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ليلة أُسري بي، وضعت قدمى حيث توضع أقدام الأنبياء من بيت المقدس، عُرض علي عيسى ابن مريم، فإذا أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود، وعُرِض عليّ موسى، فإذا رجل جعد ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، وعرض علي إبراهيم، فإذا أقرب الناس به شبهًا صاحبُكم))[10].

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة، لملك فيها رجلٌ من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم))[11].

    عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلًا، فقال: ((ألا تُصليان؟))[12].

    عن سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نِعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل))، قال سالم: فكان عبدالله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلًا[13].


    عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبدالله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل))[14].


    وعن عبدالله بن سلام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام))[15].


    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))[16].


    وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثُلثه، وينام سُدسه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا))[17].


    عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله تعالى خيرًا من أمر الدنيا والآخرة - إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة))[18].


    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قام أحدكم من الليل، فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين))[19].


    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحِم الله رجلًا قام من الليل فصلى، وأيقَظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحِم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء))[20].


    وعن أبي هريرة وكذا عن أبي سعيد رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلَّيَا - أو صلَّى ركعتين جميعًا - كُتِبا في الذاكرين والذاكرات))[21].
    وقد أفاضت الأحاديث النبوية في ذكر الليل وفضل العمل فيه، وحثَّت على اغتنامه بالقيام والتقرب إلى الله عز وجل.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,487

    افتراضي رد: الليل في التراث

    الليل في التراث
    د. أحمد إسماعيل عبدالكريم





    الليل في الشعر:
    حظِي الليل في التراث الشعري بنصيب وافر، وقد أخذ في خيال الشعراء صورًا متنوعة، واستُخدِم رمزًا للدلالة على ما رسمتْه مُخيلة الشعراء؛ حيث يُطوعون بملكتهم الشعرية اللغة، فيصورون الليل بما يحلو لخيالاتهم وعقولهم، فمنهم من صور الليل بؤرة الهموم ومفتاحًا للمعاناة، ومنهم من جعل الليل عنوان الشباب ورمزًا للفتوة والحيوية والنشاط، ومنهم من رآه خزينة الأسرار وملتقى الأحباب والعشاق.


    الليل مبعث الهموم:
    كُتب على الإنسان أن يعيش في كبد ومعاناة، وأن يشقى في النعيم بعقله، فتزداد همومُه، وحين يركَن إلى الراحة في الليل بعد رحلة معاناة الجسد في الكد والتعب، يترك لخياله الجموح في عالم لا حدود له في الكون، فيعيد شريطًا من الذكريات التي مرت به في يومه وماضيه، والتفكر فيما يَجلُبه له حاضره ومستقبله، وما يمكن أن يفعله في غده، ومِن ثم تزداد الآلام، وتَجثُم على صدره الهموم، وقد صور امرؤ القيس تلك الهموم التي سدلت على صدره[22]:
    وليلٍ كموج البحر أرخى سدولَه
    عليَّ بألوان الهمومِ ليَبتلي


    فقلت له لَمَّا تمطَّى بصُلبه
    وأردَف أعجازًا وناءَ بكَلكلِ


    ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِ
    بصُبحٍ وما الإصباحُ منك بأمثلِ




    وقد صوَّرت هذه الأبيات مدى المرارة التي يُحس بها الشاعر ومعاناته العميقة، أثناء ليل من الهموم لا ينتهي، وكأنه أرخى أستاره الملبدة بالغيوم المليئة بالهموم التي تَحجُب عن الشاعر فجرَ الخلاص.


    وجعل النابغة ما ينشأ من الهم بالليل كالنعم العازبة، تريحها الرعاة مع الليل إلى أماكنها، وفيه يمر الزمن ببطء وقد تطاوَلت ساعاته وامتدَّت، حتى خُيِّل للشاعر بأنه لن ينقضي، وقد طغت فيه الهموم على خيالات الشاعر، حتى حرَمت عيناه طعمَ النوم، فلم يَذُق الراحة من طول السهر والتأمل في النجوم[23]:
    كِليني لهمٍّ يا أُميمة ناصبِ
    وليلٍ أُقاسيه بطيءِ الكواكبِ


    تطاوَل حتى قلتُ ليس بمنقضٍ
    وليس الذي يَرعى النجوم بآيبِ


    وصدرٍ أراحَ الليلُ عازبَ همِّه
    تضاعَف فيه الحزنُ من كلِّ جانبِ




    وجعل ابن الدُّمينة الهمَّ مرادفًا لليل، فالهمُّ والليل صنوان، قال[24]:
    أظلُّ نهاري فيكم متعللًا ♦♦♦ ويَجمعني والهمُّ بالليل جامعُ


    وقال إسحاق الموصلي في معنى النابغة[25]:
    إنَّ في الصبحِ راحةً لِمُحبٍّ ♦♦♦ ومع الليلِ ناشئاتُ الهمومِ


    وكأني أرى الشاعر قد ضمن بيته معنى قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل: 6]، وقال طاهر بن علي بن سليمان[26]:
    إذا لاح لي صبحٌ فهَمِّي مُقسَّمٌ ♦♦♦ وفي الليل هَمِّي بالتفرُّد أطْولُ


    وقال ابن شرف القيرواني في طول ليل ذوي الهموم والأشجان، حتى كأنه لا يبزغ منه فجرٌ، ولا يطلُع له صبحٌ[27]:
    مطَل الليلُ بوعد الفلق
    وتشكَّى النجمُ طولَ الأرَق


    وألاحَ الفجر خدًّا خجلًا
    جال مِن رشحِ الندى في عرَق


    جاوَز الليل إلى أنْجُمِه
    فتساقطنَ سقوطَ الورَق


    واستفاضَ الصبحُ فيها فيضةً
    أيقنَ النجمُ لها بالغرَق




    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,487

    افتراضي رد: الليل في التراث

    وعلى النقيض من ذلك نرى بعض الشعراء ينقلب ليلهم نهارًا ونهارهم ليلًا؛ حيث يكشف النهار عن حقيقته، فيتحرك فيه الناس، كلٌّ يبحث عن بُغيته، فقد تمنَّى بعض المثقلين بالدَّين المبتلين بالفقر دوامَ الليل؛ لِما يلقى النهار من الغرماء، ولما يحتاج إليه من النفقة في كل يوم، فقال[28]:
    ألا ليتَ النهارَ يعود ليلًا
    فإن الصبحَ يأتي بالهمومِ


    حوائجُ لا نُطيق لها قضاءً
    ولا ردًّا ورَوعاتُ الغريمِ




    ويبلغ بنا العجب حدَّه لموقف هذا الشاعر من النهار، لضيق ذات اليد وغلبة الدين؛ حيث إن المبتلين بالفقر أو الدَّين لا ينامون من طول التفكير وجثوم الهم الثقيل على صدورهم، ولكن الشاعر أظنُّه غريب الطباع!


    الليل كالغراب:
    أخذت الغربان في ناموس الإنسان العربي شكلًا كئيبًا؛ حيث أوحت صورتها في خياله بمعاني الشر واليأس، والتعلق والألم والهموم، وقد واءَم بعض الشعراء بين الليل والغربان؛ لاتفاقهما في مبعث الهموم والآلام، فقال الشاعر "الحماني"[29]:
    وليلٍ مثلِ خافية الغرابِ
    عييِّ مذاهبٍ وخفيِّ بابِ


    دَلفتُ له بأسودَ مستمرٍّ
    كما نظر الغضابُ إلى الغضابِ


    أجَشُّ كأنما قابلتُ منْه
    تَبَعُّقَ لُجَّةٍ وحريقَ غابِ


    تراه كأن عينَك لا تراهُ
    إذا وصَل الوثابُ إلى الوثابِ


    كأن لدى مغابنه الْتماعًا
    نهادش عنْده بُقعُ الكلابِ



    والليل عند الشعراء يأخذ ألوانًا مختلفة من الصور، وقد وصفه بعض الشعراء بالكحل لسواده وشدة إظلامه، فمن جيد التشبيه قول أبي تمام[30]:
    إليك هتَكنا جُنحَ ليلٍ كأنه ♦♦♦ قدِ اكْتَحَلتْ منْه البلادُ بإثْمدِ


    وقول ابن المعتز[31]:
    وليلٍ ككُحلِ العين خُضتُ ظلامَه
    بأزرقَ لَمَّاعٍ وأخضرَ صارمِ


    وطيَّارةٍ بالرَّحْل صرْفٍ كأنَّما
    تصافَح رَضْراضُ الْحَصى بجماجمِ

    يتبع




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,487

    افتراضي رد: الليل في التراث

    وصوَّر الشاعر أبو هلال العسكري سواد الليل بالفحم؛ حيث تتعذَّر فيه الرؤية، ولم يعرف الناس بعضهم بعضًا إلا بالكلام، فقد تعذَّرت فيه الرؤية لقتامة لونه[32]:
    وليلةٍ كرجائي في بَني زمني
    مُسْوَدَّةِ الوجه منسوبًا إلى الفحمِ


    سدَّتْ على نظر الرائين منهجه
    حتى تعارَفتِ الأشخاص بالكلمِ


    لا أَسأمُ الجُهد فيها أن أُكابده
    ولا ترى صاحبَ الحاجات ذا سَأمِ


    أُحاول النجحَ في أمرٍ أُزاوله
    والنجحُ في دلجاتِ الأنْيَقِ الرُّسمِ




    وقالوا من أبلغ ما قيل في ظلمة الليل قول مضرس بن ربعي[33]:
    وليلٍ يقولُ الناسُ مِن ظلماته
    سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها


    كأنَّ لنا منه بيوتًا حصينةً
    مُسوحٌ أعاليها وساجٌ كسورُها




    ونظرًا لسواد الليل وتعذُّر الرؤية فيه، يراه بعض الشعراء مخبأً للأسرار وسترًا لهم، وليل العشاق يتسم بالطول والسهر وعد النجوم، فها هو أبو جعفر عبدالملك بن سعيد؛ حيث بات وحفصة الغرناطية في بستان وكان يهواها، فقال[34]:
    رعى الله ليلًا لَم يَرُحْ بِمُذَمَّمِ
    عشيَّةَ وارانا بجودٍ مُؤمَّلِ


    وقد خفَقتْ من نحو نجدٍ أَريجةٌ
    إذا نفَحَتْ هبَّتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ




    ومما كتبته ولادة بنت المستكفي بالله لابن زيدون في فترة الموافقة[35]:
    يتبع



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,487

    افتراضي رد: الليل في التراث

    الليل في التراث
    د. أحمد إسماعيل عبدالكريم








    ومما كتبته ولادة بنت المستكفي بالله لابن زيدون في فترة الموافقة[35]:
    ترقَّب إذا جنَّ الظلامُ زيارتي
    فإني رأيتُ الليلَ أكْتَمَ للسرّْ


    وبي منكَ ما لو كان بالشمسِ لم تَلُحْ
    وبالبدرِ لم يَطْلُعْ وبالنَّجْمِ لَم يَسِرْ




    الليل رمز الشباب:
    الشعراء حين يصفون شيئًا يكون ذا رونق وبهاء، فإنهم يصفونه بالشباب، وقد صور الشعراء أيام الشباب وسواد الشعر بالليل، وهي عندهم أيام عزة وصبا، وعلى النقيض من ذلك يكون النهار بما فيه من إشراق ووضوح رؤية وبياض شعر، ممثلًا لفترة الشيخوخة التي يَبْيَضُّ فيها الشعر وتسكن الحياة؛ يقول أبو العلاء المعري مزاوجًا بين الشباب والليل؛ إشارةً إلى سواد الشعر من قصيدة له يُهنئ بزفاف[36]:
    نالَ شبابًا منه مستقبلًا ♦♦♦ تَهْرَمُ دنْياهُ ولا يَهْرَمُ


    وهو هنا يعني أن الليل - وهو سواد - بما كان فيه من الزفاف، يبقى على مرِّ الدهور شبابًا، وهو سواد لا يمسه هرمٌ وإن هرم الدهر.


    ويقول أبو القاسم الزاهي[37]: وقد مثَّل السالف بالليل والوجه بالنهار:
    ما كنتُ أحسَب أن أُعاين أو أرى ♦♦♦ تخطيطَ ليلٍ في بياضِ نهارِ


    وقول أبي فراس[38]:
    مَددْنا عليه الليلَ والليلُ راضعٌ ♦♦♦ إلى أن تحلَّى رأْسُه بِمَشيبِ


    وقول أبي العلاء المعري[39]:
    أقولُ وقد طالَ ليلي عَلِيَّ ♦♦♦ أمَا لشبابِ الدُّجى مِنْ مَشيبِ


    وكما يصف الشعراء الشباب بالليل، فإنهم يصفون المشيب بالنهار، ونجد ابن المعتز يتحدث عن وجوب الارعواء عند المشيب، مستخدمًا هذه الأوصاف، فيقول[40]:
    ولقد قضتْ نفسي مآربَها
    وقضيتُ غيًّا مَرَّةً ورَشَدْ


    ونهارُ شيبِ الرأسِ يُوقِظُ مَنْ
    قد كان في ليْلِ الشبابِ رَقَدْ




    كذلك يستخدم الشعراء عددًا من المعاني الخاصة بالشيب المبكر استخدامًا بيانيًّا، فيقول أبو العلاء المعري من قصيدة يجيب فيها أبا القاسم علي بن الحسين بن جلبان عن قصيدة مدحه بها
    [41]:

    رجا الليلَ فيها أن يدومَ شبابُه ♦♦♦ فلمَّا رآها شابَ قبلَ احْتلامِه


    ويقول المتنبي مستغربًا تغيُّرَ أحواله بالرغم من فَيض شبابه[42]:
    تغيَّرَ حالي والليالي بحالِها ♦♦♦ وشِبْتُ وما شابَ الزمانُ الغُرانقُ

    يتبع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,487

    افتراضي رد: الليل في التراث

    ومن الشعراء مَن يشتد حزنُهم لحلول المشيب؛ يقول أبو الفتح البستي[43]:
    دَعْ دموعي تسيل سيلًا بدارَا
    وضلوعي يَصْلَيْنَ بالوجْدِ نارَا


    قد أعاد الأسى نهاريَ ليلًا
    مُذْ أعادَ المشيبُ ليْلي نهارَا




    وقالها صراحة ابن المعتز[44]:
    لا تَدْعُني لصَبُوحٍ
    إن الغَبُوقَ حبيبي


    فالليلُ لونُ شبابي
    والصُّبحُ لونُ مَشيبي




    ويقول حبيب بن أحمد الأندلسي - وقد قرن الشباب بالليل في سواد لِمَّة صاحبه، والمشيب بالفجر في بياضها -[45]:
    ثلاثون من عمري مَضينَ فما الذي
    أُؤمِّلُ من بعد الثلاثين من عُمري


    أَطايبُ أيامي مَضينَ حَميدةً
    سِراعًا ولَم أشعُر بهنَّ ولَم أَدْرِ


    كأنَّ شبابي والمشيبُ يَرُوعه
    دُجى ليلةٍ قد راعَها وَضَحُ الفجْرِ



    وللسراج الوراق ردٌّ مقنع على مَن يعيب عليه المشيب، فيجعل مجيئه أمرًا طبيعيًّا تمامًا كما يعقب الليل النهار، فيقول
    [46]:

    وقالتْ يا سراجُ علاكَ شَيبٌ
    فدعْ لجديده خلعَ العِذارِ


    فقلت لها: نهارٌ بعد ليلٍ
    فما يَدعوك أنتَ إلى النِّفارِ


    فقالت قد صدَقْتَ وما علِمْنا
    بأضْيَعَ مِنْ سراجٍ في نهارِ




    ذلك بعض ما جاء في الليل في تراثنا العربي مما سجله اللغويون، وما ورد في القرآن في شأن "الليل" على مختلف دلالاته، وكذا في الحديث النبوي الشريف، وما أفاضت به قرائح الشعراء... وهذا الموضوع يحتاج إلى دراسات معمَّقة، فهو واسع المحتوى والمضامين، ومع أنها لفظة، فإنها غنية بالدلالات التي تَعجِز مثلُ هذه الأسطر أن تلمَّ ببعض ما ورد فيها من معانٍ ودلالات... وختامًا أقدِّم العذر لما قد وقع من هفوات هنا أو هناك، فحسبي أنني إنسان، والإنسان محل الخطأ والنسيان، والكمال لله تعالى وحده.


    المصادر المراجع:
    1- جامع الترمذي؛ تحقيق أحمد شاكر وآخرين، القاهرة، د. ت.
    2- ديوان ابن شرف القيرواني، مكتبة الأزهر القاهرة.
    3- ديوان المعاني؛ لأبي هلال العسكري، دار الجيل، بيروت، د.ت.
    4- رياض الصالحين؛ لأبي زكريا النووي، القاهرة د. ت.
    5 - سنن أبي داود؛ تحقيق الدعاس، حمص، د. ت.
    6- شروح سقط الزند؛ لأبي العلاء المعري، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1383 هـ 1964م.
    7- الصحاح الجوهري، القاهرة، د.ت.
    8 - صحيح البخاري، مطبوع مع فتح الباري، القاهرة.
    9 - صحيح مسلم؛ محمد فؤاد عبدالباقي، القاهرة.
    10 - صحيح ابن حبان؛ تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت.
    11- لسان العرب؛ لابن منظور، دار المعارف مصر د. ت.
    12- اللطائف والظرائف واليواقيت في بعض المواقيت؛ لأبي منصور الثعالبي، جمعها الإمام أبو النصر أحمد المقدسي، مكتبة ومطبعة محمد صبيح وأولاده 1334 هـ.
    13- مسند أحمد، تصوير عن الطبعة الأولى في القاهرة، دار صادر، بيروت.
    14- مختار الصحاح للرازي؛ دراسة وتقديم، د. عبدالفتاح البركاوي، دار المنار، مصر.
    15- معادن الجواهر ونزهة الخواطر في علوم الأوائل والأواخر؛ للسيد محسن الأمين الحسيني العاملي، دمشق، مطبعة ابن زيدون 1351 هـ.
    16- معجم مقاييس اللغة؛ لابن فارس، دار الكتب العلمية بيروت ط1 1420 - 1999.
    17- المفصل في تاريخ الأدب العربي؛ لأحمد الأسكندري وآخرين، القاهرة، وزارة المعارف العمومية 1352 هـ - 1934.
    18- المنتخب من أدب العرب؛ لطه حسين وآخرين، القاهرة، وزار المعارف العمومية، 1934 م.
    19- يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر؛ لأبي منصور الثعالبي؛ تحقيق وشرح إيليا الحاوي، بيروت، الشركة الشرقية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، د.ت.
    ------------------

    [1] معجم مقاييس اللغة؛ لابن فارس 466/2.

    [2] لسان العرب 4115/5.

    [3] لسان العرب 4115/5.

    [4] لسان العرب 4115/5.

    [5] الصحاح للجوهري، (ليل).

    [6] معجم مقاييس اللغة؛ لابن فارس 466/2.

    [7] مختار الصحاح؛ للرازي ص 279.

    [8] رواه مسلم، وفي رياض الصالحين /19.

    [9] متفق عليه، وفي رياض الصالحين 312.

    [10] رواه مسلم، وأحمد بإسناده 2/528.

    [11] رواه ابن حبان 13/283، والترمذي 2231.

    [12] متفق عليه، وفي رياض الصالحين ص446.

    [13] متفق عليه، وفي رياض الصالحين ص446.

    [14] متفق عليه، وفي رياض الصالحين ص446.

    [15] رواه الترمذي، وفي رياض الصالحين ص447.

    [16] رواه مسلم، وفي رياض الصالحين 447.

    [17] متفق عليه، وفي رياض الصالحين ص449.

    [18] رواه مسلم، وفي رياض الصالحين ص 449.

    [19] رواه مسلم، وفي رياض الصالحين ص 449.

    [20] رواه أبو داود، وفي رياض الصالحين ص 450.

    [21] رواه أبو داود بإسناد صحيح، وفي رياض الصالحين 450.

    [22] ديوان المعاني؛ لأبي هلال العسكري 346/1.

    [23] ديوان المعاني 346/1.

    [24] السابق 347/1.

    [25] السابق 347/1.

    [26] السابق 348/1.

    [27] ديوان ابن شرف القيرواني ص 115.

    [28] ديوان المعاني 111/2.

    [29] ديوان المعاني 343/1.

    [30] السابق ن.ص.

    [31] السابق ن.ص.

    [32] السابق ن.ص.

    [33] قضية التعبير عن الحب عند الشاعرات؛ د. عبده بدوي، عالم الفكر مج 18، ع2 يوليو، أغسطس، سبتمبر 1987 ص 220.

    [34] السابق ص 221.

    [35] شروح سقط الزند؛ لأبي العلاء المعري 855/2.

    [36] يتيمة الدهر للثعالبي 378/4.

    [37] شروح سقط الزند؛ لأبي العلاء المعري 502/2.

    [38] السابق 651/2.


    [39] المنتخب من أدب العرب؛ لطه حسين وآخرين 123/1.

    [40] شروح سقط الزند 501/2.

    [41] يتيمة الدهر للثعالبي 355/4.

    [42] المفصل في تاريخ الأدب العربي؛ أحمد الإسكندري 23/2.

    [43] اللطائف والظرائف واليواقيت في بعض المواقيت للثعالبي ص 84.

    [44] يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي 468/5.

    [45] معادن الجواهر؛ السيد محسن الأمين الحسيني 382/3.

    [46] ديوان المعاني 343/1.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •