تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: خفي الأمر له يخفى

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي خفي الأمر له يخفى

    خفي الأمر له يخفى
    أ. عبدالله بن محمد بن بدير




    المعنى الاستعمالي:
    خَفِي الأمرُ لَهُ، ومضارعه يَخفَى له، فهو مِن باب فرح؛ وذلك إذا أتى امرؤٌ ما يُعاب عليه أو يُنقَم، آمنًا مِن مَعرَّته؛ لأنه لم يعلَمْ به أحدٌ ممن يخاف اطِّلاعه عليه، فلو قال قائلهم: فعلتُها وخفيت لي، لعنى: فعلتُها ولم تُدرِكني عقوبتها؛ لأن أهل العقوبة لم يطِّلعوا عليها مني.

    التمثيل:
    ليَخفيَنَّ لي اليومَ وصالُ مَن أُحِب، لا عيونَ اليومَ ولا رَصَد!
    بلى أيها المغرور، نسيتَ عينَ الشهيد! واللهِ لا يَخفَى لك ولا لأحدٍ عن عين الله شيءٌ!

    الاستشهاد:
    1 - قال كعبٌ رضي الله عنه: فما رجلٌ يريد أن يتغيَّب إلا ظنَّ أَنْ سيَخفَى له، ما لم يَنزِل فيه وحيُ الله[1].
    2 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والخائنُ الذي لا يَخفَى له طمعٌ وإن دق إلا خانه))[2].
    3 - وفي الحديث: ((وكان صاحبُ المِحجَن يسرِقُ متاعَ الحاجِّ بمِحْجَنِه، فإذا خَفِي له، ذهب به، وإذا ظهَر عليه، قال: إني لم أسرِقْ؛ إنما تعلَّق بمِحْجَني))[3].
    4 - وفي الحديث: ((صاحبُ النار الذي لا يمنَعُه مخافة الله من شيءٍ خَفِي له))[4].
    5 - وقال الإمام مالك رحمه الله فيمَن أشرف على الهَلَكة جوعًا حتى حلَّت له الميتة، أيجوزُ له أن يقتات مِن ملك غيرِه لمكان الضرورة؟ قال رحمه الله: إن خَفِيَ له ذلك، فليأخذ منه[5].
    6 - وقال عُبَيدالله بن زياد لهانئ بن عروة: ظننتَ أن ذلك يَخفَى عليَّ لك؟![6]
    7 - وقال حمزة بن المغيرة بن شعبة رضي الله عن أبيه، في سياق خوفِه من الحجَّاج أن يعلم بمساعدتِه لأخيه مُطرِّف في خروجه على عبدالملك، فقال لجليسه: أخبِرني، ترى ذلك يَخفَى لي؟[7]

    أهمية هذا المسلك التعبيري:
    الحمد لله الذي هدى للكشفِ عن هذا المسلك التعبيري، ويسَّر الغوص على معناه الفريد في واقع استعمالات السلف رحمهم الله لهذه اللغة الشريفة، فإنه:
    1 - واحدٌ مِن مسالك السلف رحمهم الله في التعبير، وهي المسالك التي تُميِّز طبقة لغتهم في طبقات تاريخ اللغة العربية بمميزاتها وخصائصها الفريدة، التي أنشأها عُرْف المستخدمين في عصر التنزيل، وهي ما يجب علينا تعلُّمها إن كانت لنا حاجةٌ بفهم القرآن والسُّنة.

    2 - واحد مِن تعبيرات الحوار، أعني أنه ينتمي للغة الحوار العاديِّ المتبادل في الأحاديث اليومية، وهو ما يُساعِدنا على اكتشاف لغةٍ سَلِسَة فصيحة للحوار العادي، في مقابلِ لغة الأدب ولغة العلوم، وذلك يُعِينُنا على إحياء اللغة في الواقع اليوميِّ المعيش يومًا من الدهر، بعد أن نُحْيِيَها اليوم في واقع الدرس اللُّغويِّ السلوكي المسمى بـ"التغطيس".

    3 - يعد واحدًا مِن أهم وأجلى أمثلةِ الاستدراك على المعاجم العربية، كما سأُبيِّن ذلك في الملحق الثالث.

    الملحق الأول: العلاقة بين المعنى الاستعمالي والمعاني الصناعية
    المعنى الصناعي لـ"خَفِي"؛ من قولهم: خَفِي لَه:
    خَفِي على وزن فَعِل، ومضارعُه يَخْفَى على وزن يَفْعَل، وهذا الفعلُ وما شابهه في وزن الماضي والمضارع من الأفعال، هو ما يُعبَّر عنه بباب فَرِح؛ لأن فَرِح مضارعهُ يفرَح، وبابُ فَرِحَ هذا من معانيه أن يأتي لمطاوعةِ "أفعل" مِن مادته؛ كما يقال: أفهمتُه ففهِمَ يَفهَم، وأعلمتُه فعَلِم يعلَم، وأغضبتُه فغضِب يغضَب، وأحزَنه الشيطانُ فحزِن يحزَن، وأرضيتُ صاحبي فرَضِي يرضَى، وهلمَّ جرًّا، إلى سخِط ونسِي وشقِي وملَّ (ملِل)، وخاف (خَوِف)، كل ذلك يقال فيه: أسخطه، وأشقاه، وأملَّه، وأخافه، وقد قال الله تعالى على لسان موسى عليه السلام: ﴿ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ [الكهف: 63]، وقال: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115].

    كلٌّ يدلُّ فيه "أفعل" على إجراء الفاعل للفعلِ على المفعول، فالمُعلِّم أجرى فعل الإفهام والإعلام بالتلميذ، وكذلك الشيطان أجرى الإحزانَ بالرجل، وهلُمَّ جرًّا.
    وأما "فعِلَ"، فيدل على انفعال الشخص الذي كان مفعولًا في المثال الأول، يدل على انفعاله بنفس الفعل، حتى صار فاعلًا لا مفعولًا، فهو الآن فاعل للفعل في نفسه لا في غيره، فهو الذي فهِم وعلِم وغضِب، وهلم جرًّا.

    والفعل المتعدي لواحدٍ صار لازمًا، والمتعدي لاثنين صار متعديًا لواحد، فأغضب كان متعديًا لواحد فصار غضِب لازمًا، وأعلم وأفهم كان متعديًا لاثنين، يقال: أفهمتُه المسألةَ، وأعلمتُه الخبرَ، فصار يقال الآن: علِم الخبرَ، وفهِم المسألةَ.
    فكذلك هذا الموضع، كأنه قيل: أخفيتُه فخَفِي يَخفَى؛ مثل: أرضيتُ صاحبي، فرَضِي يرضَى، وهكذا نرى الفعل في باب فرِح لازمًا، ونراه متعديًا لواحد في باب "أفعل".

    المعنى الصناعي لـ"لام الجر" من قولهم: خَفِي لَه:
    يصح أن نُسمِّي هذه اللام لامَ النصرة، فهي من باب: اكتسَبَ لولده، وتواضَعَ لجليسه، وبذَلَ القِرَى لضيفِه، وتبذَّلت لزوجها.
    1 - وقد سَمَّاها المرادي اسمًا عامًّا، فقال: "الخامس: شبه المِلك؛ نحو: أَدُومُ لك ما تدوم لي"[8].
    والمعنى على هذا أن الأمرَ خفِي على الناسِ لصالحِه هو، كما تقولُ: شهِد فلان لفلان على فلان، وأقام الحجةَ له عليه، ونحوها أيضًا لامُ المستغاث له.

    الملحق الثاني: سياقات الشواهد
    2 - مسند أحمد (15789): قال كعبٌ: وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غَزاةً يغزوها إلا ورَّى بغيرِها، حتى كانت تلك الغَزاةُ، فغزاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديد، واستقبَل سفرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَل عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمرَه ليتأهَّبوا أُهْبَةَ عدوِّهم، فأخبَرَهم بوجهِه الذي يريد، والمسلمون مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، لا يجمَعُهم كتابٌ حافظ - يريد الدِّيوانَ - فقال كعب: فقلَّ رجلٌ يريد يتغيَّب إلا ظنَّ أن ذلك سيَخفَى له ما لم ينزِل فيه وحيٌ مِن الله، وغزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابَتِ الثِّمارُ والظلُّ، وأنا إليها أَصْعَرُ"؛ صحيح على شرط مسلم.
    وعند البخاري (4418): "فما رجلٌ يريد أن يتغيب إلا ظنَّ أن سيَخفَى له، ما لم ينزِل فيه وحيُ الله".

    3 - صحيح مسلم (2865): ((وأهلُ النار خمسةٌ: الضعيفُ الذي لا زَبْرَ له، الذين هم فيكم تبعًا لا يبتغون أهلًا ولا مالًا، والخائنُ الذي لا يَخفَى له طمعٌ وإن دقَّ إلا خانه، ورجلٌ لا يُصبِح ولا يمسي إلا وهو يُخادِعُك عن أهلك ومالك - وذكَرَ البخلَ أو الكذب - والشِّنظِيرُ الفحَّاش)).

    4 - صحيح ابن حبان (5622): ((ورأيتُ صاحبَ المِحْجَن مُتكئًا على مِحجَنِه، وكان صاحبُ المحجن يسرِقُ متاع الحاجِّ بمحجنه، فإذا خَفِي له، ذهَب به، وإذا ظهر عليه، قال: إني لم أسرِقْ؛ إنما تعلَّق بمِحجَني))؛ شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.

    5 - الورع لابن أبي الدنيا (178): عن يزيد بن عبدالله بن الشخِّير، قال: "كنا نُحدث أن صاحب النار الذي لا يمنَعُه مخافة الله من شيء خَفِي له"؛ حسَّنه محمد بن حمد الحمود.

    6 - المسالك في شرح موطأ مالك (5/ 319):
    "المسألة الثالثة: قولُه: (في الرجل يضطر إلى الميتة، أيأكل منها وهو يجد ثمر القوم؟)، هو كما قال، إن مَن وجد الميتة مضطرًّا إليها ووجَدَ ما لا يمكنه الوصول إليه، فلا يخلو أن يكونَ مما لا قطع فيه؛ كالثمر المعلَّق والزرع القائم ونحوه، أو يكون مما فيه القطع إذا أُخذ على وجه السرقة؛ كالمال في الحِرْز. فإن كان مما لا قطعَ فيه، فقد قال مالك من رواية محمد عنه: إن خفِي له ذلك فليأخُذْ منه، وأما إن وجد ثمرًا أو زرعًا أو غنمًا لقوم، فظن أنهم يُصدِّقونه ولا يُعَد سارقًا، فليأكُلْ مِن ذلك أحبُّ إليَّ مِن الميتة.

    فشرَط في المسألةِ الأولى - وهو في الثمر المُعلَّق - أن يخفى له ذلك؛ لمعنيين: أحدهما: أن يعلم أنه لا إثم عليه في ذلك فيما بينه وبين الله، وإنما يجب أن يحترزَ في ذلك من المخلوقين لنفسه؛ فربما أُوذِي أو ضُرِب ولم يعذر بما يدَّعيه من الضرورة.
    وشرَط في القسم الثاني أن يُصدِّقوه، وهو في الثَّمر الذي قد آواه إلى حرزِه، والغنم التي في حرزِها، والزرعُ الذي حصد وأوى إلى حرزه؛ ولذلك قال: ربما تقطع، ولم يشترِط أنْ يخفى له ذلك؛ لأن أخذه على وجه السترِ هو الذي يقطع فيه، فإنما يجبُ أن يأخذه معلنًا إن علِم أنهم يصدِّقونه، وإن لم يعلم، فلا يتعرض لذلك؛ لأنه يؤدي إلى قطع يدِه، والذي يأخذ من الثمر المعلَّق، له أن يأخذه على وجه الاستتار؛ لأن ذلك لا يوجب قطع يده بحالٍ.

    7 - تاريخ الطبري (5/ 365):
    "فقال له هانئ: وما ذاك أيها الأمير؟ قال [عبيدالله بن زياد]: إيه يا هانئُ بنَ عُرْوة، ما هذه الأمور التي تربص في دُورِك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين؟! جئتَ بمسلم بن عَقيل فأدخلتَه دارك، وجمعتَ له السلاح والرجال في الدُّور حولك، وظننت أن ذلك يخفى عليَّ لك! قال: ما فعلتُ، وما مسلمٌ عندي، قال: بلى قد فعلتَ".

    8 - تاريخ الطبري (6/ 292): وسلِم مطرف وأصحابه فمضَوا حتى دنَوا من همذان، فترَكَها وأخذ ذات اليسار إلى ماه دينار، وكان أخوه حمزةُ بن المغيرة على همذان، فكرِه أن يدخلها فيُتَّهم أخوه عند الحجاج، فلما دخل مطرف أرضَ ماه دينار كتب إلى أخيه حمزة: أما بعد، فإن النفقةَ قد كثرت، والمؤنة قد اشتدَّت، فأمدد أخاك بما قدرت عليه من مال وسلاح، وبعَث إليه يزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة، فجاء حتى دخل على حمزة بكتاب مطرف ليلًا، فلما رآه قال له: ثكِلَتْك أمُّك، أنت قتلتَ مطرفًا؟! فقال له: ما أنا قتلتُه، جُعِلت فداك! ولكنَّ مطرفًا قتل نفسه وقتلني، وليتَه لا يقتلك، فقال له: ويحك! مَن سوَّل له هذا الأمر؟! فقال: نفسُه سوَّلت هذا له، ثم جلس إليه فقص عليه القصص، وأخبره بالخبر، ودفع كتاب مطرف إليه، فقرأه، ثم قال: نعم، وأنا باعثٌ إليه بمال وسلاح، ولكن أخبِرني ترى ذلك يخفى لي؟ قال: ما أظن أن يخفى، فقال له حمزة: فوالله، لئن أنا خذلتُه في أنفع النصرينِ له نصر العلانية، لا أخذله في أيسرِ النصرين نصر السريرة.

    الملحق الثالث: حديث المصنفات عن هذا الموضع
    لقد تتبَّعتُ هذا الموضع موضعَ "خَفِي لَهُ" في كتب اللغة، فإذا المصنفات فيه على ثلاثة أقسام:
    أولًا: المصنفات التي فاتها، فلم تورده أصلًا:
    أ- معاجم:
    9 - ليس في تاج العروس للزَّبيدي، وتاجُ العروس هو الكتابُ الذي شرح القاموس المحيط واستدرك عليه، والقاموس المحيط هو الكتاب الذي استدرك على صَحاح الجوهري وزاد عليه زيادات جَمَّة، جمعها من العُباب الزاخر للصاغاني، والمحكم لابن سِيدَه، ثم هو فوق ذلك "صريحُ ألفَيْ مصنَّف من الكتب الفاخرة"؛ كما يقول مُؤلِّفه رحمه الله.

    10 - ولا في لسانِ العرب لابن منظور، وهو الكتاب الذي جمع فيه مُؤلِّفه خمسةَ كتب؛ هي: تهذيب اللغة للأزهري، والمحكم لابن سِيدَه، والصَّحاح للجوهري، وحاشية الصحاح لابن بري، والنهاية لابن الأثير، رحمهم الله.

    وتتبَّعتُه في أهم المعاجم المعاصرة التي هي بمثابة النقد والمراجعة للمعاجم القديمة، كما أن منها ما قام على وضعه ومراجعته هيئةٌ لُغَوية كاملة، فكان مَظِنةً للوقوف على أكبر قدر من فوات المعاجم، لكنني بعد البحث:
    11 - لم أجده في معجم متن اللغة؛ لأحمد رضا.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: خفي الأمر له يخفى

    خفي الأمر له يخفى
    أ. عبدالله بن محمد بن بدير




    ب- غريب الحديث:
    وأما شراح الحديث، فأغفله أكثرهم:
    12 - فلا ذكر له في غريب الحديث؛ لإبراهيم الحربي.

    13 - ولا في غريب الحديث؛ لابن الجوزي.
    14 - ولا في غريب الحديث؛ لابن قتيبة.
    15 - ولا في غريب الحديث؛ للخطابي.
    16 - ولا في النهاية في غريب الحديث والأثر.
    17 - ولا في مشارق الأنوار على صحاح الآثار.
    18 - ولا في الفائق في غريب الحديث والأثر.
    19 - ولا في المجموع المغيث في غريبَي القرآن والحديث.
    20 - ولا في تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم.

    اختبارانِ للمصنَّفات المُدمَجة:
    لقد فحَصنا أوعبَ مُصنَّفات اللغة التي بين أيدينا، وهي المصنفات الموسوعية التي جمعت بين دفَّتَيْها مصنفاتٍ عديدةً سابقة، ودمجت بينها في موسوعة كبيرة مع التنقيح والتصحيح والاستدراك والتكميل، إن عدد الكتب المُدمَجة في المصنفات الموسوعية التي فحصناها للبحث عن هذا الموضع كثيرٌ، ذكرنا منها تفصيلًا: (العباب الزاخر للصاغاني، والمحكم لابن سِيدَه)، أُدمجا في القاموس المحيط الذي أدمج في تاج العروس، و(تهذيب اللغة للأزهري، والمحكم لابن سيده، والصحاح للجوهري، وحاشية الصحاح لابن بري، والنهاية لابن الأثير)، أدمجت هذه الخمسة في اللسان.

    وذكرنا منها إجمالًا ألفَيْ مُصنَّف أدمجت في القاموس المحيط الذي أدمج في تاج العروس.
    ولكن ماذا لو كان بعضُ هذه المصنفات المدمجة قد ذكر هذا الموضع موضع "خَفِي لَهُ"، وسقط على الزَّبيدي أو ابن منظور، فلم يُدرِجه في كتابه؟ فأردتُ إجراء اختبار أستيقِنُ به هذا الأمرَ.

    إن تاج العروس قد شرَح القاموس المحيط الذي استوعب الصحاح، وإن لسان العرب استوعب النهاية في غريب الحديث، فكان:
    21 - الصحاح للجوهري، وكذا النهاية لابن الأثير نموذجينِ للكتب المدمجة في المعجمين الكبيرين التاج واللسان، وقد بحثتُ الكتابين، فلم أجد فيهما ذكرًا لهذا الموضع؛ مما يسَّر لي الثقة بأن هذا الموضع موضع "خَفِي لَهُ" من فوات المعاجم القديمة.

    ثانيًا: المصنفات التي أوردته غامًضا غير مشروح:
    أ- معاجم:
    22 - ووجدتُه في المعجم الوسيط مبتسرًا غير لائح، فلم يزيدوا على أن قالوا: "خفِيَ له - خِفوةً: استتر، ويقال: يأكل كذا خفوة"؛ اهـ[9].

    ويكاد يتوهَّم القارئ أن معنى "خفي له" هاهنا: استتر منه، بمعنى استخفاء شخص لشخص ليختله أو يتجسس عليه؛ وذلك لاقتضاب تفسيرهم، فإنهم ما فسَّروه إلا بـ"استتر" كما ترى، ولم يستشهدوا له بشاهد، ولا مثَّلوا بمثال، ولو فعلوا لاتضح وجه التفسير.

    23 - وكذا هو تقريبًا في معجم اللغة العربية المعاصرة، لم يزيدوا على أن قالوا: "خفِي له الأمرُ: استتر، أكلها خِفْوةً - ليس بخافٍ عنك - خفيت عنه الحقيقة"؛ اهـ[10]، فتجدهم هاهنا أتبَعُوا تفسيرَهم بما يرشح الوهمَ الذي ذكرتُه.

    ب- غريب الحديث وشروحه:
    وتكلم فيه بعض شرَّاح الحديث، فمنهم مَن جعل عنايته بتصحيح اللفظ، ولم يلتفت إلى المعنى، كما في:
    24 - فتح الباري لابن حجر؛ حيث قال: "قولُه: (إلا ظنَّ أنه سيخفى)، في رواية الكُشْمِيهَنيِّ أَنْ سيخفى بتخفيف النون بلا هاء، وفي رواية مسلم أنَّ ذلك سيخفى له"؛ اهـ[11].
    25 - وشرح النووي على مسلم؛ حيث قال: "قولُه: (فقلَّ رجلٌ يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحيٌ مِن الله تعالى)، قال القاضي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم، وصوابه: إلَّا يظُن أن ذلك سيخفى له، بزيادة إلَّا، وكذا رواه البخاري"؛ اهـ[12].

    ومنهم مَن عُنِي بالمعنى، لكنه أضمر شرحه إضمارًا لا يشفي قارئه، كما فعل:
    26 - الأرنؤوط في مسند أحمد (15789)، فقال: "قولُه: سيخفى له: من كثرة الجيش"؛ اهـ[13]، ولم يشرح هذا الموضع في: (27175)، وشرحه مِن حديث عِياض بنِ حِمَارٍ رضي الله عنه، برقم (17484) بألفاظ النووي رحمه الله في شرحه لمسلم[14]، وسوف نوردها الآن إن شاء الله.

    ثالثًا: المصنَّفات التي شرحَتْه بما لا نُراه صوابًا:
    ومنهم مَن عُنِي بالمعنى، فشرحه بما لا نُراه صوابًا؛ لأنه لا يلتئمُ مع سائر السياقات التي ورد فيها، واقتصر هؤلاء على سياقٍ واحد، هو ما جاء في حديث عِياض بنِ حِمَارٍ رضي الله عنه، في قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أصناف أهل النار: ((والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دقَّ إلا خانه))؛ صحيح مسلم (2865)، ومسند أحمد (17484).

    يقول النووي رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه))، معنى (لا يخفى): لا يظهر، قال أهل اللغة: يقال: خفيت الشيء إذا أظهرته، وأخفيته إذا سترته وكتمته، هذا هو المشهور، وقيل: هما لغتان فيهما جميعًا"؛ اهـ[15].
    وهذا النقل عن النووي رحمه الله هو الذي تداوله أكثرُ الشارحين لحديث عِياض بن حِمَارٍ رضي الله عنه، إما بألفاظِه أو بمعانيه، فمِن ثَمَّ سوف نذكر إن شاء الله نقدَنا له في الملحق الرابع.

    27 - وكذا الفَتَّنِي رحمه الله في مجمع بحار الأنوار، قال: "وفيه: ((الخائن مَن لا يخفى له طمع))؛ أي: لا يظهر"؛ اهـ[16].
    وقال في موضع آخر: "((لا يخفى له طمع))؛ أي: شيء مما يمكن فيه، ((وإن دق))؛ أي: يسعى في التفحص عنه حتى يجدَه فيخونه، أو لا يخفى بمعنى لا يظهر له شيء يطمع فيه إلا خانه، وإن كان شيئًا يسيرًا؛ فإنَّ خَفِيَ من الأضداد"؛ اهـ[17].

    28 - وقريبٌ منهم شرح الكفوي في الكليات قال: و[خَفِي] لَهُ: ظهر، وإنما يُقَال ذَلِك فِيمَا يظهر عَن خَفَاء، أو عن جِهَة خُفْيَة"؛ اهـ[18].

    29 - وعلى هذا ثبَت الأمر عند البركتي في التعريفات الفقهية، فقال: الخَفَاءُ مِن الأضداد؛ يقال: "خفي عليه الأمر" إذا استتر، و"خفي له" إذا ظهر؛ اهـ[19].

    الملحق الرابع: نقد تفسير من فسَّر هذا الموضع من العلماء
    وهؤلاء الأربعة الكرام رحمهم الله - النووي، والفتَّني، والكفوي، والبركتي - ومَن نحا نحوَهم في هذا التفسير، إنما نظروا إلى أمرٍ عامٍّ في معنى المادة، ولم ينظروا إلى خصوص هذا التركيب، فكأنما شرَحوا موضعًا بموضعٍ غيرِه؛ والصحيح أن يُشرَح خصوص هذا التركيب في سياقاته من الكلام العربيِّ، كما قدَّمنا أول المقال.

    وقد يبدو لدى سائرِهم المضي على خطى النووي رحمه الله فيما ذكره بقوله: "قولُه صلى الله عليه وسلم: ((والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه))، معنى (لا يخفى): لا يظهر؛ قال أهل اللغة: يقال: خفيت الشيء إذا أظهرته، وأخفيتُه إذا سترته وكتمته، هذا هو المشهور، وقيل: هما لغتان فيهما جميعًا"؛ اهـ[20].

    وفيه أنه شرح الفعل اللازمَ بالفعل المتعدي، مع اختلاف البابينِ:
    1 - فإن الفعل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((يخفى له طمع)) فعلٌ لازم، ثم هو مِن باب فرِح، والفعل فيما ذكره النووي[21] رحمه الله بقولِه: "خفيت الشيء إذا أظهرته، وأخفيتُه..." فعلٌ متعدٍّ.

    2 - ثم إن الفعل فيما ذكره النووي رحمه الله مِن باب نصر، وفيه لغةٌ مِن باب ضرَب؛ نصَّ عليها في تهذيب اللغة، ومتن اللغة[22]، والفعل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((يخفى له طمع)) مِن باب فرِح.

    3 - ولم يراعوا السياقات؛ فما ذكروه لو صلَح في حديث عياض، فإنه لا يصلُح في حديث كعب رضي الله عنهما، ولا في حديث المِحجَن، ولا في سائر الشواهد التي عددنا منها سبعةً.

    وكما وجب مراعاةُ خصوص التعدي واللزوم وخصوص الباب، فكذلك يجب مراعاة خصوص حرف التعدية، وأنه حرف اللام، وليس (على) مثلًا، وهذه النقطة غير منتقَدة على تفسير مَن فسَّر هذا الموضع من العلماء؛ فإنهم لم يتطرقوا إليها، ولكن ذكرها الباحث تكميلًا لِما تجب رعايته عند شرح معاني الألفاظ.

    الملحق الخامس: سبب وهمِ مَن وَهِم في هذا الموضع من العلماء
    وسبب وهمِ مَن وهِم في هذا الموضع من العلماء أن:
    1 - مادة [خ ف (و/ي)] من الأضداد؛ قال ابن فارس: "الخاء والفاء والياء، أصلان متباينانِ متضادان؛ فالأول: الستر، والثاني: الإظهار؛ فالأول خفِي الشيءُ يخفَى؛ وأخفيتُه، وهو في خِفْيَة وخَفاء، إذا سترتَه...، والأصل الآخر: خفا البرقُ [يخفو] خَفْوًا، إذا لَمَع، ويكون ذلك في أدنى ضعف، ويقال: خفيتُ [الشيءَ] بغير ألفٍ [أَخفِيه]؛ إذا أظهرتَه، وخفا المطرُ الفأرَ مِن جِحَرَتِهنَّ: أخرَجَهن"؛ اهـ[23].

    ومِن هاهنا اضطرب في تفسير هذا الموضع قولُ العلماء؛ ولهذا السبب الذي ذكرنا جرى بين العلماء قديمًا نحوٌ من ذلك الاضطراب والوهم في موضع آخر مِن هذه المادة، هو موضع "استخفى":
    قال الأزهري: "وقال الأخفش في قول الله جل وعز: ﴿ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: 10]، قال: المستخفي: الظاهر، والساربُ: المتواري...، وروى سلمة عن الفراء:... ﴿ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ﴾ [الرعد: 10]؛ أي: مستتر، ﴿ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: 10]؛ أي: ظاهر، كأنه قال: الظاهر والخفيُّ عنده، جل وعز، واحدٌ...، قلت: وقول الأخفش: المستخفي: الظاهر؛ خطأٌ عند اللُّغويين، والقول ما قال الفراء، وجاء "خفيتُ" بمعنيين متضادين، وكذلك "أخفيتُ"، فيما زعم أبو عبيدة، وكلامُ العرب الجيد: أن يقال: خفيتُ الشيءَ أَخفِيه؛ أي: أظهرته...، وأخفيتُ الشيء؛ أي: سترته...، واختفيتُ الشيءَ؛ أي: أظهرته، واستخفيتُ منه؛ أي: تواريتُ؛ هذا هو المعروف في كلام العرب"؛ اهـ[24].
    2 - والسبب الأهم هو عدم العناية بتتبُّع الاستعمالات في سياقاتها، بعد جمع هذه الاستعمالات قدر الإمكان.

    الملحق السادس: مراجع البحث
    مراجع هذا البحث واحد وثلاثون، تجد منها تسعةً وعشرين مُسَلْسَلة في الفِقرات المرقَّمة من الملاحق الأول والثاني والثالث، يضاف إليها: مقاييس اللغة لابن فارس، تهذيب اللغة للأزهري، فتمام العدة واحد وثلاثون، وطبعاتها هي الطبعات التي تعتمدها المكتبة الشاملة في إصدارها الرسمي.
    هذا، والحمد لله أولًا وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا.
    -----------------------------

    [1] البخاري (4418).

    [2] مسلم (2865).

    [3] صحيح ابن حبان (5622)، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.

    [4] الورع؛ لابن أبي الدنيا (178)، حسنه محمد بن حمد الحمود.

    [5] المسالك في شرح موطأ مالك (5/ 319).

    [6] تاريخ الطبري (5/ 365).

    [7] تاريخ الطبري (6/ 292).

    [8] الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 96).

    [9] المعجم الوسيط (1/ 247).

    [10] معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 673).

    [11] فتح الباري؛ لابن حجر (8/ 118).

    [12] شرح النووي على مسلم (17/ 88).

    [13] مسند أحمد، ط الرسالة (25/ 77).

    [14] السابق في (29/ 35).

    [15] شرح النووي على مسلم (17/ 199).

    [16] مجمع بحار الأنوار (2/ 77).

    [17] مجمع بحار الأنوار (3/ 258).

    [18] الكليات (ص: 434).

    [19] التعريفات الفقهية (ص: 88).

    [20] شرح النووي على مسلم (17/ 199).

    [21] وقد كانت نعل النووي رحمه الله - ما علمتُ - خيرًا من ملء الأرض من مثلي.

    [22] تهذيب اللغة (7/ 242)، ومعجم متن اللغة (2/ 310).

    [23] مقاييس اللغة (2/ 202).

    [24] تهذيب اللغة (7/ 242).
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •